العدد 5136 - الأربعاء 28 سبتمبر 2016م الموافق 26 ذي الحجة 1437هـ

الفرَح... حصَّتنا الفعلية من الحياة

جعفر الجمري jaffar.aljamri [at] alwasatnews.com

-

يُعلِّمنا الفرح أن ننسى؛ ربما بشكل مؤقت. يأخذنا إلى حيث الانشغال باللحظات النادرة والشحيحة ربما، انشغالاً بها، وتوحُّداً بتفاصيلها. ننسى الذين أساءوا وغدروا وتآمروا وجحدوا، ولكننا لا ننسى الإساءة. قد نعفو وقد لا نفعل. ننسى في صورة مؤقتة، لتعود الحالات تلك شاخصةً بوداع الفرح لنا، أو وداعنا له.

وحدهم البائسون الذين لا ينشغلون باللحظات تلك، لأنهم يحرمون أنفسهم من حصانةٍ يحتاجها الجسد كما تحتاجها النفس والروح. الإنسان من دون قيمة الفرح هو في صورة لحم ودم، لكنه يظل ذابل الروح، مسودَّ النفس. هو مجرد شبح. لا تعنيه تفاصيل الجَمَال من حوله، ولا تعنيه تفاصيل البراءة، ولا تعنيه تفاصيله هو وسط كل ما يحدث من حوله أيضاً.

لولا نسبة من الفرح تظل هناك في نفس أيٍّ منا، لما قُدِّر للجنس البشري أن يُعمِّر، وأن يبدع، وأن يخترق المجهول. ذلك يحتاج إلى سعَةٍ في النفس، وتوظيف عاقل ومُنتج للفرح وما يمكن أن يُثمر عنه.

والأمم المكتئبة دورها أن تتفرَّج وتتلقَّى، والنقيض منها، دورها أن تصنع الحدث وتُشكِّله، وتتحكَّم في مساراته وتفاصيله.

لا ينتصر الإنسان على عذاباته الدهرية ما لم يكن جريئاً في ممارسة فرحه بكل ما أوتي من وقت، وبكل ما أوتي من معنى له في ذلك الوقت. وكما أن للإنتصار لذته، يظل الفرح هو الانتصار الأكبر للإنسان وسط تحولات وانتكاسات، بعضها من صنع يده، وبعضها الآخر تكتسح عالمه من دون سابق إنذار.

وثمة من يتربَّص بفرحنا، ولا يُفهم من ذلك التربُّص سوى التربُّص بحيواتنا بمعنى أكبر وأخير. كل الذين يحاولون تعكير صفو الحياة، والذين يحاولون حشْر الإنسان في زاوية ضيِّقة من العيش وانعدام الخيارات، إنما يرمون أولاً وأخيراً إلى الحيلولة بينه وبين أن يكون على اتصال وممارسة لفرحه، وأوقاته المليئة بالبهجة. وفي المحصِّلة، الحيلولة بينه وبين الحياة، في معناها العميق والفاعل.

ولن ترى أمراً يسرُّ عدوَّك، بقدر ما أن يراك مشغولاً بحزنك وكآبتك وضياعك، وبمعنى من المعاني، غيابك عن تفاصيل هذه الحياة، وما يدور فيها. أن تكون خارج معادلة هذه الحياة بمزيد من الكآبة، ومزيد من الإحباط، ومزيد من الإعراض عن طاقاتك وإمكاناتك المخبوءة فيك.

ووحدهم الذين يصنعون الفرح هم الأقدر على منح الحياة مزيداً من قيمتها، ومنح البشر من قيمتهم، ومنْحهم أكثر من عمر إضافي، إذا ما استطاعوا تجاوز النقيض من تلك الحالات الجميلة. ونقول حالات لأن عمرها قصير، لكنها لا تموت مادام قلب الإنسان يخفق، وروحه تحلِّق، وإرادته في أجلى ما يمكن أن تحقّقه من مُعجز وفارق.

ثم إن الفرح في معنى من معانيه: أن تكون لائقاً لحضور هذه الحياة. حضورها الذي لا يفوِّت عليك صوراً وشواهد من قيمتك. فالمحبطون والمكتئبون في الغياب وإن حضروا، وفي النقص وإن امتلأت بهم الأمكنة. عمْر أيٍّ منا يتحدَّد في لحظات الفرح التي استطاع أن يعيشها طولاً بعرض، من دون أن يكون ذلك على حساب البشر من حوله، وحتى الأشياء وبقية الكائنات، فذلك فرح لا يخلو من رجْس، ولا يخلو من تهتُّكٍ وجوْر، وطغيانٍ وتجاوز. ذلك فرح ضالع في بؤس الحياة: بؤس آخرين.

وفي استحضار للعميق من التناول، يُطل علينا الشاعر الكوني محمود درويش، وسط أكوام الرماد في هذا الجزء من العالم، ليذكِّرنا بتلك القيمة الكبرى التي تجعل للحياة مدعاتها «جاءك الفرح فجأةً، وقد علَّمتْك الأيام أن تحذر الفرح لأن خيانته قاسية». وبمعنى مباشر لا يخون الفرح أصحابه بقدر ما أن بشراً مهمَّتهم في الحياة قطع الحبل السري بين الإنسان وبين ما يقوِّي عُودَه، ويحصِّنه من المُلمَّات.

بأكثر من معنى، وبخلاصة تتعدَّد: الفرَح... حصَّتنا الفعلية من الحياة، وما عدا ذلك وجود وحياة لم نقف على تفاصيلها، لأننا وقتها ضالعون في الغياب، أو مجرد أشباح.

إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"

العدد 5136 - الأربعاء 28 سبتمبر 2016م الموافق 26 ذي الحجة 1437هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 3 | 1:51 م

      نرسم الفرحه لكي لاننساها ونرى الضحكه في كل طفل برئ

    • زائر 2 | 3:42 ص

      والله يا اخ جعفر لو مانضحك ونتقشمر وانت تعرف شعب البحرين الطيب احب القشمرة ولوناسه رغم همومه وسيضل طيب ومرح ودا ئما يدعى الى رب السماء الفرج ويقول نفوض امرنه الى الله صبرا ياشعب الطيب الصبور على هادى المحنه

    • زائر 1 | 2:29 ص

      مقال مميز يفتح لنا أبواب التأمل في الفرح وتفاصيله

اقرأ ايضاً