العدد 517 - الأربعاء 04 فبراير 2004م الموافق 12 ذي الحجة 1424هـ

قلب إيطاليا المظلم: رحلات إيطالية عبر الزمان والمكان

عرض - كامبردج بوك ريفيوز 

تحديث: 12 مايو 2017

لا يضيع مؤلف هذا الكتاب لحظة من وقت القارئ وهو في سبيله إلى الوقوف على «بؤرة الظلام» - كما يصفها - في الواقع الايطالي الشائك في الوقت الراهن. فبدلا من الانتظار لحين الولوج إلى صفحات الكتاب الداخلية، يخبرنا غلاف الكتاب بالرسالة الأساسية فيه، إذ يضع المؤلف «أو الناشر» صورة رئيس الوزراء الايطالي سيليفيو بيرلسكوني على الغلاف الخارجي وقد رفع ذراعيه عاليا فوق بحر من اللافتات السياسية ذات الشعارات الطنانة. وبهذا لا يكون المؤلف قد دلف فحسب إلى الموضوع الرئيسي للكتاب الذي يريد ان يتساءل عن سبب المشكلات التي تعشش في «قلب ايطاليا المظلم»، بل أيضا طرح السؤال الذي يمتد في طول وعرض الكتاب: هل هذا الرجل (بيرلسكوني) هو الذي يهيمن على المشهد حقا، أم المستنقع الذي يمتد تحته هو المشهد وهو المهيمن؟

لا شك ان الصورة التي يقدمها توبياس جونز في كتابه هذا تسبب الكثير من الارباك للقراء الذين اعتادوا التفكير بايطاليا على انها موطن الحياة الناعمة بكل تفاصيلها من طعام لذيذ، وفنون رفيعة، وتاريخ مجيد لدولة تميزت عن بقية دول أوروبا بحيازتها لكنوز الجمال. فالمؤلف ما ينفك يذكرنا بأنه لا ينوي ازجاء قسط آخر من المديح لثقافة ايطاليا وابداعها، وان غرضه الاول من هذا الكتاب هو فضح بعض زوايا الظلام في قلب ذلك البلد الذي يعتبره بلده.

لكن هذا لا يعني انه قد تقصد البحث عن هذا الوجه المظلم بالذات، فالظلام هو الذي لاحق المؤلف وظل يطارده حتى فرض نفسه عليه. إذ كان قد تردد على سمعه كثيرا ان الامور في ايطاليا في فوضى كاملة، حتى تسنى له ان يقابل تلك الفوضى وجها لوجه في اكثر من موقع على الساحة الايطالية. كان الاحتكاك بالبيروقراطية الايطالية المتعجرفة هو الذي قاد المؤلف إلى الوقوف على النظام الضرائبي في ايطاليا وعلى الممارسة المعقدة التي يتبعها الناس للتهرب منه حتى اصبح بالامكان القول بوجود «ثقافة» إيطالية خاصة بالتهرب من الضرائب. لا يتعلق الامر بكون الغش عنصرا اساسيا في الشخصية الايطالية كما يحلو للبعض ان يدعي، بل بكون النظام الضرائبي نفسه نظاما تعسفيا خانقا، وبارتباط ذلك بالاحساس العام بتفشي الفساد الاداري، إذ يرتبط هذان العاملان ليولدا ما يطلق عليه المؤلف اسم «متلازمة السبب والنتيجة»: فالضرائب جائرة وهي توظف لاغراض مشبوهة، ومن هنا فان التهرب من دفعها لا يعتبر في نظر الناس امرا غير مشروع.

وعوضا عن الانشغال بالوجه المزوق لايطاليا، يتفادى جونز بمهارة الانسياق وراء الخطاب الحزبي للشارع الايطالي ليبدأ استطلاعاته من اللبنة التي يتكون منها المجتمع الايطالي وهي الايطاليون انفسهم. ومن الطريف انه يختار الدخول إلى الذات الايطالية من بوابة اللغة والتقاليد اللغوية. وبعد ان يقيم الدليل على غياب لغة ايطالية موحدة يتحدث بها جميع ابناء البلاد وما يقود اليه ذلك من ضبابية الهوية الوطنية، ينتقل المؤلف إلى ايضاح الطريقة التي تنعكس بها تلك الضبابية على جوانب متعددة من الحياة في البلاد من بينها نظامها الضرائبي شبه الاقطاعي.

بسرعة وسلاسة، يأخذنا المؤلف إلى مقدمة عن تاريخ الحكومة الايطالية وما نهضت به من مهمة «مذبحية» اثناء وعقب الحرب الاهلية التي دارت في ستينات وسبعينات القرن الماضي، لينتقل بعدها إلى فصل حالك يتصدى فيه لمهمة تحليل النزاع المحتدم بين اليمين واليسار الذي مزق النسيج الاجتماعي الايطالي في سنوات ما بعد الحرب وما يزال يلقي بظلاله القاتمة على المشهد السياسي الايطالي. ويتمحور الحديث في هذا الفصل عن احداث تفجيرات ساحة النافورة في ميلانو العام 1969 والتي لم تكشف خفاياها لحد الآن. قادت التحقيقات التي اجريت عن الحادث إلى «انتحار» احد المنتمين للحركة الفوضوية الذي كان يشك بعلاقته بالتفجيرات. بعدها تم اغتيال المحقق الذي كان يحاول الكشف عن اسرار القضية، ولم يتم تحديد الجناة على نحو مقنع، وضاعت الحقيقة في خضم الاتهامات المتبادلة والدعاية السياسية.

بعد الشعور بالتعثر بمبهمات هذه القضية، ينتقل المؤلف إلى جانب مشرق ومضيء من جوانب الحياة الايطالية هو حب الايطاليين لكرة القدم. يستعرض المؤلف اولا الكثير مما يثير الاعجاب بهذه اللعبة الجميلة، لكنه ما يلبث ان ينجر إلى الانغماس في الوحل الذي بات يعتبره سمة من سمات المجتمع الايطالي. يروي لنا جونز في هذا الصدد حكايات مذهلة عن ضربات الجزاء التي «تعطى» أو «تحجب»، وعن «الهدايا» المشبوهة التي تقدم للحكام، و«الحظ الطيب» الذي يلازم نادي يوفنتوس على نحو يصعب تفسيره، والذي يمكّن النادي من الفوز باستمرار بغض النظر عما اذا كان مستحقا لذلك الفوز ام لا. بالانتهاء من هذا الفصل يكون المؤلف قد اطلع على ما يكفي لرفع الغشاوة عن عينه وعين قرائه. لذلك فإن العجب وصعوبة التصديق يرافقان المؤلف في الفصل التالي الذي يتناول عالم التلفزيون ليحل محلهما الشعور بالاشمئزاز والقلق.

في هذا الفصل الذي يحمل عنوان «اساليب الاغواء» يرسم جونز صورة «أورويلية» للاحتكار، والخواء الفني، والأمركة الزاحفة. يتابع المؤلف حكاية اقامة امبراطورية بيرلسكوني التلفزيونية التي انشأها خلافا للقانون الذي كان في حينه يحظر على غير القنوات التلفزيونية الداخلية العمل إلى جانب الشركة التي ترجع ملكيتها للدولة. فقد استطاع بيرلسكوني تجاوز القانون المذكور وشراء جميع المحطات الداخلية ودمجها في امبراطوريته التي تحمل اسم «ميدياسيت» التي تضم ثلاث قنوات غير محلية. وينتهز جونز هذه المناسبة للاشارة إلى توجه شائع آخر في ايطاليا هو التمادي في توسيع الصلاحية القانونية ثم تجاوزها ليتم بعد ذلك تعديل القانون للتماشي مع «الامر الواقع». اما على الصعيد الفني، فإن المؤلف يشير بأسى إلى انحطاط مستوى الافلام الايطالية من الجودة التي اشتهرت بها في ستينات القرن الماضي إلى الواقع الحالي الذي لا توزع فيه على نطاق واسع الا الافلام الاميركية التي تعود حقوق توزيعها جميعا إلى بيرلسكوني، الامر الذي اجبر جميع الممثلين الايطاليين الكبار على التحول إلى مجرد اصوات في الافلام الأميركية المدبلجة. بل ان قبضة بيرلسكوني الحديدية التي تطبق على عالم التلفزيون قد تحولت إلى نوع من الرقابة على شركة «راي»، وهي الشركة التلفزيونية التي تمتلكها الدولة، إذ يتدخل الوزراء في ادارة الشركة ويأمرون بطرد كل من يجرؤ من موظفيها على معارضة بيرلسكوني او اذاعة اخبار تنتقد حزبه. وبناء على اوامره، يقوم المذيعون اليوم بتلاوة الخطب الطنانة في مهاجمة الشيوعيين وقد بلغ الامر بوزير الاتصالات ان يهاتف الشركة مصدرا أمره بـ «اخراس» متحدث كان يخاطب الجمهور على الهواء. عند الوصول إلى هذه النقطة من الكتاب يصبح من الواضح لدى القارئ ان المؤلف يلقي بكامل المسئولية عن «الظلام» الذي يلف المشهد الايطالي على كاهل بيرلسكوني. إلا ان الفصول اللاحقة، وخصوصا تلك التي تتحدث عن حملة مكافحة الفساد التي قادها قضاة ايطاليون في تسعينات القرن الماضي، تظهر ان المشكلات التي تعاني منها ايطاليا تعود إلى جذور أعمق من بيرلسكوني بكثير. لكن المؤلف يتدارك ذلك في الفصل الاخير الذي يستنتج فيه ان ايطاليا تمتلك «ثقافة» خاصة في مجال تجاهل القانون. لا ينهي المؤلف كتابه قبل ان يقدم للقارئ تحليلا لـ «الكثلكة» المعاصرة ولنتائج الانتخابات الاخيرة في محاولة منه لاستقراء قدرة المستقبل على اخراج ايطاليا من عتمة ظلامها الراهن.

كتاب «قلب ايطاليا المظلم» كتاب ممتع وطريف من حيث تركيزه على جانب من المشهد الايطالي قلما يشير اليه الباحثون. وعلى رغم تأكيد المؤلف على عدم رغبته في كيل المدائح لما تتميز به ايطاليا من طعام شهي ولوحات جميلة، فإن اشارته في نهاية الكتاب إلى ان تعرفه على هذه البلاد جعل من المستحيل عليه العيش في بلاد اخرى تبوح بمديح تجاوز ما جاء به الكثيرون ممن سبقوه إلى الكتابة عن ايطاليا. كتاب جونز هذا لا يخلو من بعض المزالق، اولها واهمها التركيز على بيرلسكوني واعتباره واتباعه تجسيدا لايطاليا. وقد كان من الاجدر بالمؤلف ان يشرح لنا كيف تسنى لايطاليا الأخرى: ايطاليا النقية التي يندى جبينها خجلا لما يقترفه سياسيوها، ان توجد وتواصل البقاء في وحل الفساد الذي تحاول جاهدة ان تمنعه من تغطية ملامحها الجميلة الخالدة.

الكتاب: قلب إيطاليا المظلم: رحلات إيطالية عبر الزمان والمكان

المؤلف: توبياس جونس

الناشر: فيبر اند فيبر، لندن





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً