العدد 517 - الأربعاء 04 فبراير 2004م الموافق 12 ذي الحجة 1424هـ

«أيهما هو»... تفتت الجسد وتحنيط الصورة

تأتي دائما روايات إلهام منصور بأسمائها الغربية كعلامة للدهشة والتعجب.

فمن: «أنا هي أنت» الى «حين كنت رجلا» وصولا الى «أيهما هو» لتطرح التساؤلات الأزلية التي لا تنتهي عن فلسفة الحب والزواج والخيانة وصورة العلاقة بين الرجل والمرأة (الانسى) هذه اللفظة التي أطرت لها سابقا في روايتها «حين كنت رجلا» وتستخدمها «ليال» في «أيهما هو».

تتشابه بطلات الهام منصور حد التطابق في غالبية روايتها. الفتاة المدللة المتعلقة بوالدها والام التي تلهت وراء المظاهر والمادة والمباهاة وعقدة التميز بين الصبي والفتاة والنشأة الأرستقراطية والتي تتحول الى يسارية (تخرج من كل العقد البرجوازية).

تبدأ الرواية بإطلاق«ليال» ثلاث طلقات رصاص متقطعة وخروج ثلاث جثث وهي تحلم، هذا الحلم الذي قامت عليه الرواية وانتهت به لنكتشف أن هذه الجثث هي لرجال ثلاثة عرفتهم «ليال» وتحولوا الى نعوش في ذاكرتها (رامي - كامل - وائل). ليال التي عاشت علاقات مشوشة تتأرجح بين الحب والخيانة والجنس، فرامي الذي تزوجته بعد مرور سنتين على قصة حبها السري لكامل أستاذ اللغة الفرنسية في مدرستها وسافر الى باريس لاكمال دراسته دخل ذاكرتها وهو شاب وسيم (دخل كامل ذلك الركن شابا وسيما واستقر هناك بكل شبابه وجاذبيته). لتعود وتلتقي به بعد ثلاثين عاما فيبدو بهيئة مختلفة عن الصورة المختبئة في الذاكرة يجعلها تتساءل أيهما هو؟

يفشل زواج ليال الأسطوري بسبب خيانة رامي لها مع صديقتها دومنيك وتحمل منه. هذه الخيانة ونتيجتها الطلاق ترك بصماته على مسار حياتها بعد دخول رامي ذاكرتها وتجمده في وضع معين ليتفتت بعد ذلك حين تلتقيه في ألمانيا بعد اكثر من عشرين سنة (رأته وقد بدأ الهواء يتسرب الى داخله من تلك التصدعات الرفيعة على سطحه. رأت الجسد المجفف في داخله وقد بدأ يتفتت، يتفتت ببطء كبير) تنقلب المفاهيم لديها وتصبح عدوة شرسة لمؤسسة الزواج وتتساءل دائما عن جدوى الزواج وتميل الى العلاقات الحرة التي تنشأ وتقوم من دون قيود، لم تكره الرجل ولكن كانت ضد الزواج ولذلك رفضت وائل الذي احبها كثيرا وبادلته الحب وظل يلح على الزواج الى أن نفد صبره وتزوج من أول امرأة حملت منه. على رغم ذلك استمرت علاقتها به بل وتأكدت أنها تحبه فعلا وان عدم زواجها منه هو للمحافظة على حبه لأنها كلما فكرت بالزواج مثلث أمامها الخيانة ونهاية العلاقة التي لا تريدها أن تنتهي (إذا لم يدخل الجنس انتفت الخيانة. ها هو الآن متزوج وأنا لا اشعر بأية غيرة ولا بأية إهانة. مهما فعل لن يغير ما بيننا إلا إذا تغير فعلا ولم يعد هو. إذا حصل ذلك فلن يعود يعني لي شيئا).

كانت ليال ترغب أو تبحث عن صيغة لا تربطها بشكل نهائي بالرجل، تبحث عن شخص تحبه ويحبها شرط أن تظل علاقتهما غير ضاغطة وبعيدة عن مفهوم الزواج التقليدي ووجدت ذلك في شخص يكبرها سنا ويعيش وحده في سويسرا ويبحث مثلها عن علاقة غير تقليدية. وجدته شديد الشبه بوالدها ويعاملها بكل لطف ودلال، كان بالنسبة إليها بين العشيق والأب، هذا الشبه بوالدها وتعلقها به وبحثها اللاشعوري عن حبيب على صورة الأب جعلها بعد ثلاثين عاما حين التقت كامل بهيئته المختلفة كثيرا عن صورته في زاوية الذاكرة (ما اصعب أن تقطع زمن اكثر من ثلاثين سنه بلحظة! يا للشعور المتناقض الذي ينتابك وأنت في تلك اللحظة! أن تنظر الى من أحببت شابا جذابا وسيما فتراه كهلا بالكاد يذكرك بالشاب الذي كان من قبل. لأول وهلة لاحظت الآتي: لاحظت أن وجه كامل اصبح أضيق أطول مما كان عليه. شعره قل جدا على رأسه. بدنه كله هزل وقصر. لم يخطر ببالي في تلك اللحظة إلا التشبيه الآتي: تصور انك لديك ثوب من الحرير الناعم، وتصور انك رميت هذا الثوب الجميل في الماء المغلي ثم نشلته منه، فماذا تجد؟ تجد أن الثوب شمر (أي كش كما يقال بالعامية) كامل الذي شمر أو (كش) ونفرت منه حين رأته وجدت به شيئا يذكرها بوالدها شيئا بسيطا لكنه اثر فيها، كانت طريقته في التقاط فنجان القهوة هي الطريقة التي كان يقوم بها والدها (أحببت هذه الحركة التي استحوذت كل انتباهي في تلك الجلسة. لقد أعادت إحياء والدي في ذاكرتي لم أكلمه عنها. أصبحت هي مدخلي إليه. هي التي شفعت بكل التغيرات التي لاحظتها في شكله. هذه الحركة وما تذكرني به ظلت تشفع به كل فترة بقائنا معا. بقيت تشفع به الى اللحظة التي لم اعد استطيع أن أراها حيث هي) هذا الشبه بين كامل ووالدها قربه منها وجعلها توافق على الزواج منه الزواج الذي ظلت تتجنبه وتدفعه بعيدا عنها ورفضت وائل، وعرض صديقها السويسري قبلته مع كامل ربما لإحياء حب مر عليه اكثر من ثلاثين عاما.

بعد زواجها من كامل تكتشف أن كامل الذي عاش في باريس ثلاثين عاما مازال يفكر بطريقة جده الأول الذي يحب أن يسيطر على زوجته ويرفض صداقاتها وعملها ويطلب منها أن تتفرغ له وحده وتنقطع عن عالمها، تدخل المشكلات بينهما فيتحولان الى حلقتين مفرغتين يدوران معا لكن في اتجاهين مختلفين ويصبح وجود كامل يخنقها (حين يصبح لوجود الآخر كثافة وثقل يحط الحب على الأرض، ارض الواقع. في الواقع تتكسر الأقنعة. وكما يقول المثل العربي الشهير: يذوب الثلج و... وتتحول الحياة من أكل عسل الى أكل خر... حقيقي) لذلك كان لابد من الطلاق كنهاية حتمية لعلاقتهما، لكنها كانت دائما تتساءل: أيهما كامل الحقيقي؟ أيهما هو؟ هل هو كامل الذي سافر أخيرا أم هو ذلك الذي سافر منذ اكثر من ثلاثين عاما؟ لم تستطع الجمع بينهما، كانا مختلفين جدا. بعد سفر كامل وانفصالها عنه تعود علاقتها بوائل الذي احبها في الماضي ولم يقل لها احبك، اصبح كعود بلا وتر ولم يعد قادرا على الحب:

- ماذا تعني؟ ألا تحبني؟ وكيف تمارس معي الحب بهذا الاندفاع والشوق؟

- انها ممارسة محض جسدية.

بعد هذا الجواب انتقل وائل من موقع الحقيقة الى موقع التحنيط في ذاكرتها لكن كيف دخل وعلى أية صورة؟!

تتمدد ليال من دون أن تعرف على أية صورة قذفت بوائل الى ذاكرتها لتحلم أنها تطلق ثلاث طلقات وخروج ثلاثة نعوش خشبية هي جثث رامي - كامل - وائل في ذاكرة ليال.

تستند إلهام منصور في عملها الروائي على التحليل النفسي والفلسفة لذلك ربما لا تكون «أيهما هو» عمل روائي لكنها بالتأكيد تحمل بعدا فلسفيا يحتاج إلى قراءة معمقة وتطرح مشكلة المرأة المثقفة وتعامل الآخر معها ومحاولته إلغاء فكرها وسكبها في قالب الجنس فقط (كوني جميلة وأصمت)





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً