العدد 5199 - الأربعاء 30 نوفمبر 2016م الموافق 29 صفر 1438هـ

عن عدوى الكتابة... عدوى المواقف

جعفر الجمري jaffar.aljamri [at] alwasatnews.com

-

كما أن هناك بشراً تتفاءل بوجودهم وبقربهم منك؛ ربما لصدقهم ونقائهم ووضوحهم وحبِّهم الذي لا يبتغون من ورائه سوى تأكيد إنسانيتهم من جهة، وتقدير من يكنُّون لهم الحب من جهة أخرى، هنالك في المقابل بشر تشعر بانقباض وتوتر وانتظار مأساة أو مصيبة ستحلُّ بك، لمجرد وجودهم. بعض ربما لم تلتقه، ولم تحتكّ به لكن سُمْعته تتيح لك صورة مسبقة عنه، وفي ذلك خطأ وظلم بيِّن. يحدث الانقباض أكثر مع الذين خبرنا سلوكاتهم، وأسلوب تعاملهم مع البشر من حولهم.

الأمكنة نفسها التي تضمُّ البشر يتسلَّل إليها شيء من كل ذلك، وكأنها العدوى نفسها. المفسدون في الأرض تتبرَّم منهم الأرض والبشر والحياة. والمصلحون والخيِّرون يسعد ويلتفُّ حولهم من يرون فيهم قيَماً يفتقدونها، أو فرَّطوا فيها، وفي أحيان، سعياً إلى تعميق المزيد من تلك القيَم.

ما علاقة الجزء الأول من عنوان الكتابة أعلاه؟ «عن عدوى الكتابة (...). الذين هم على صِلة بالقراءة وثيقة في الدرجة الأولى، والكتابة كذلك، يكتشفون تلك العدوى، بالأثر الذي تُحدثه بعض النصوص... الإصدارات من أثر وتحوُّل، وكذلك ميلاد أفكار، أو مشاريع لنصوص، كثيراً ما تتحقق. ذلك الأثر الذي تُحدثه كتابة تتمُّ قراءتها، تكشف عن القيمة التي تحويها، بل هي مجموعة قيَم، تتوزَّع بين جماليات وقدرة على التجلِّي، وعرْض للأفكار وللصور بأسلوب لا يستطيع القارئ اللمَّاح والفطِن إلا أن يدخل في حال توحُّد وانسجام معه... مع الكتابة تلك؛ شعراً كانت أم نثراً.

الكتابة الجميلة والمبدعة، تُوجد قرَّاء مبدعين، ومع مرور الوقت، لن تنطلي عليهم أي كتابة يتم تسويقها أو تكريسها فيما يتوافر من منابر، إذا ما بدأت تتآكل، وتتحايل بإعادة إنتاج ما حققته. والكتابة الجميلة والمبدعة تولِّد حالاً من الغيْرة الجميلة والمتزنة لدى كتَّاب جميلين ومتزنين، ولابد أن يتسرَّب شيء من سحْر وجمال تلك الكتابة، وفي كثير من الأحيان، تمثل حافزاً للإتيان بكتابة لا تقل سحراً وجمالاً عمَّا استقبلتْه.

وضمن شهادات من زملاء شعراء كبار، بقي اسمان في هذا الفضاء: شاعر العرب الكبير، محمد مهدي الجواهري، ومحمود درويش، من أكثر الأسماء التي تصيب بعدوى الكتابة، تبعاً لفضاء كل شاعر ممن يصاب بتلك العدوى، وليس بالضرورة أن تكون عدوى مطابقة أو متأثرة حد محاولة التطابق أو المحاكاة، بقدر ما هي عدوى تتيح التقاط فكرة -ربما - لم ترد في ثنايا النص، فينبني عليها نص/كتابة.

وعلى النقيض من تلك الكتابة، توجد الكتابة الرثَّة والركيكة والمتهالكة، في بعض الأحيان، قرَّاء تعرفهم بسيماهم من أثر الضعف والعجز عن استقبال كتابة مُغايرة. قرَّاء ينسجمون مع الواهن والسطحي ونسخ الكلام اليومي، على رغم أن في الكلام اليومي ما يمكن تلمُّس الكثير من الجانب الجمالي والإبداعي فيه، وخصوصاً من أولئك الذين يتعاملون مع الناس بالفطرة، ويأتي كلامهم بالفطرة كذلك. كتابة كتلك هي مشروع تناسل قرَّاء على استعداد تام لأن يكونوا سطحيين وساذجين.

ذلك يقودنا إلى أفق آخر تتحرَّاه هذه الكتابة، ليس بعيداً عن العدوى التي تمرُّ بها مجتمعات بشرية. عدوى خيِّرة وأخرى على النقيض؛ إذ يظل المحيط الطافح بالعنصرية والطائفية والعُقَد المُكدَّسة والجاثمة على نفوس تمكَّن منها المرض، أو على استعداد لأن تتلقَى المرض بفعل هشاشة حصانتها الأخلاقية، فرصة لعدوى مؤذية ومُخزية، تؤكد انسلاخ الإنسان من إنسانيته، هذا إذا جاز لنا أن نطلق عليه صفة إنسان، شكلاً. وما يصدق على عيِّنة كتلك، يمكن قراءة الأثر الذي يمكن أن تتركه العدوى في مجتمعات تتحرَّى إنسانيتها، وشرف مواقفها، ونبْل خياراتها، على رغم ما يحيط بها من عسف ومصادرات ومحاولات احتواء وتركيع. تلك أمة هي في قلب الحضور الإنساني، وسهرت على أن تكون حصانتها في الذروة، بحيث تكون عصيَّة على محاولات كتلك، لا العدوى الشرِّيرة وحدها.

إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"

العدد 5199 - الأربعاء 30 نوفمبر 2016م الموافق 29 صفر 1438هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً