العدد 538 - الأربعاء 25 فبراير 2004م الموافق 04 محرم 1425هـ

كونديرا وصروف العودة إلى الوطن

باريس - إيناس شابرون 

تحديث: 12 مايو 2017

تظل رحلة أوليس عملا يرمز إلى عودة المنفي إلى مسقط رأسه. جعل الكاتب الفرنسي والتشيكي الأصل ميلان كونديرا من «الجهالة»، روايته الأخيرة المنشورة في فرنسا العام 2003، خيط أريان مستحضرا عودة بطليه، إيرينا وجوزيف، الكبرى إلى الجمهورية التشيكية بعد عشرين عاما من الغياب. وقد هوى «جدار الشرعية الحديدي» لكن اللقاء المنتظر بمحيط البطلين بدا مصدرا لسوء تفاهم في بلد تهزه أغنية حوريات الرأس مالية. كيف تُردم هوة مسافتها عشرون عاما بين أعمار متباعدة؟ تندرج هذه الرواية التي كتبها بالفرنسية كسابقتيها «الخلود» (1990) و«الهوية» (1995) بين الخيال والسيرة. يتجسد التفكير بالمنفى، وبالنسيان، وبعدم الاتصال بين الكائنات، وباللغة، واقعاَ في مسيرة الشخصيات المختلفة. وتعبر كل منها على طريقتها عن رؤية الكاتب للمنفى كمناسبة وفرصة.

«سعيد كما أوليس الذي قام برحلة ممتعة، ومن ثم عاد ممتلئا منفعة وعقلا». هذا ما أنشده الشاعر الفرنسي في القرن السادس عشر يواكيم دو بلا، في «أغاني الندم». لكن ولو لم يكن أوليس سعيدا بالعودة إلى إيثاق... محبطا لعدم اهتمام أهله بمعرفة مغامرته؟ كما ولو أنه بعد عودته وجد نفسه مجردا من هويته الجديدة؟ تلك الهوية التي شيّدها عبر انتصاره على كل ما خاصمه... إيرينا وجوزيف، بطلا رواية الكاتب الفرنسي، التشيكي الأصل، والمولود العام 1929 ميلان كونديرا تحت عنوان «الجهالة»، واجها واقع العودة المريرة إلى البلد، وهنا (الجمهورية التشيكية). إنها عودة تطبعها الخلافات العميقة، والحوار المستحيل، ومشاعر الذئب المخفي والواضح.

حث إيرينا جوارها (زوجها الجديد غوستاف وصديقتها الفرنسية) على زيارة وطنها، فسافرت وباغتها الاستقبال الفاتر لفريقات المدرسة القدامى. فقد تخلين عن قارورات نبيذ بوردو المعتق الذي قدمته إليهن إيرينا في مقهى براغ، ولم يسعن أبدا إلى التعرف على حياتها خلال سنوات المنفى العشرين في فرنسا. إنما حاولن التأكد وبمكر من تذكرها للحوادث وللأشياء التي ارتبطت بحياتها الماضية في تشيكوسلوفاكيا. علما بأن لا شيء يعادل خاصيّة الذاكرة الشخصية. تلك الذاكرة التي ترفض أحيانا وبملء إرادتها الحنين إلى ذكرى تجتر من دون كلل، من أجل أن تعيش الحاضر بعمق في مكان آخر. هذه الذاكرة غير المتقاسمة، تختبرها إيرينا لدى لقائها برفيق آخر عائد بعد سنوات عشرين من منفاه الدنماركي: جوزيف، ولو أنه تصنّع من جهته بعدم معرفتها، هذا لأنه رغب في بناء علاقة معها... لا معنى لها.

رصّع ميلان كونديرا روايته برؤياه للذكرى، وللذاكرة، وللحنين، ولحب الأقارب وللاحبهم، وللنسيان كفضيلة حتمية. وقع الكاتب في «الجهالة» رواية شخصية بطباقية رسوم مبتذلة. لا، ليس المنفى مسكونا دائما بالحنين. يقول: «في فرنسا، كابدت إحساس الولادة الجديدة الذي لا ينسى». أهو المنفى أم فرصة أن تعيش قدرك! هذا ما ترويه إيرينا التي هربت من أم سلطوية عندما غادرت تشيكوسلوفاكيا. أما ميلان كونديرا، فيعتبر أن المنفى أتاح له الهروب من النظام الشيوعي الذي زاد من إرهابه للمثقفين المنشقين غداة القمع الذي رافق ربيع براغ 1968، واستغل الفرصة أو دعوة جامعة زين للتعليم فيها، واستقر كاتب «الفكاهة» (1967) مع زوجته في فرنسا. تم تكليفه بين العامين 1980 و1996 بالإشراف على حلقة تعليمية عن «الرواية الأوروبية» في معهد الدراسات العليا في العلوم الاجتماعية.

لحق به الأدب في الوريد الساخر للفكاهة التي يصف فيها عبثية النظام الشيوعي. وعلى غرار «خفة الكائن التي لا تحتمل» المنشورة العام 1984، استخدم الكاتب التاريخ وعاء ليروي حكاياه. في «الجهالة»، تضع عودة جوزيف الفوضوية القارئ في صميم تشيكوسلوفاكيا الشوعية وفي المساومات مع ذاك النظام. مساومات لابد منها أحيانا لمن يود شق دربه، كما أخيه الذي أصبح طبيبا. أما العودة إلى الوطن الأصل لإعادة اكتشافه على شاكلة مذكرات حميمة، فقد تكون اكتشافا للفتى المتبذل الذي كان، ومواجهة مع الذات الأخرى... فضلا عن أن المنفى هو أيضا تبنّى لغة جديدة لتصبح لغة الذات، كما نرى بطله جوزيف الذي يجد صعوبة في استعادة سهولة البديهة في اللغة الأم. وكونديرا ألّف لغة الفيلسوف الفرنسي جاك ديدرو، من القرن الثامن عشر (جاك ومعلمه، عنوان إحدى مسرحياته) بحيث اختارها في تأليف رواياته الثلاث الأخيرة: «الجهالة»، «الخلود» (1990)، «الهوية» (1995)، «ثلاثية بين الخيال والسيرة».

أمام صروف العودة، يواجه أبطال كونديرا خيارا «كورنيا» (نسبة إلى الكاتب الفرنسي كورني): البقاء أم الرحيل. حتى ولو كان البقاء يعني انعداما لجزء من الذات، أليست العودة الكبرى خديعة ووهما يلزم نسيانه؟ ميلان كونديرا اختار وحسم الأمر: «أصبحت فرنسا مسقط رأسي الثاني». «الجهالة»، هي رواية فلسفية رائعة للتأمل، تطبعها مواقف جد عبثية بحيث تجاور المجون. إنه ميلان كونديرا أو المسافة الساخرة من الكائنات والأشياء.

- «الجهالة»، ميلان كونديرا، م. غاليمار (الطبعة الفرنسية 2003





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً