العدد 71 - الجمعة 15 نوفمبر 2002م الموافق 10 رمضان 1423هـ

سـر الحمـلــة

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

قبل عشر سنوات، أقل أو أكثر، صرح الممثل الهوليوودي الشهير مارلون براوندو في مقابلة تلفزيونية بأن السينما الاميركية اسهمت في تنميط الشعوب وتقديمهم في صور سيئة مستثنية اليهود. وحين سئل براندو عن السبب قال: ربما لان اليهود يسيطرون على صناعة السينما الهوليوودية.

وقامت حملة ضد براندو. مئات رسائل الاجتجاج، آلاف الاتصالات الهاتفية، عشرات المقالات احتجت على كلامه وطالبت شركات الانتاج بمقاطعته وعزله اذا لم يعتذر ويتراجع عن كلمات قيل انها تتضمن روح العداء للسامية.

تحولت حياة براندو إلى جحيم كما ذكر لاحقا. واضطر اخيرا إلى الاعتذار والتراجع عمّا قاله. فتوقفت الحملة الا ان صدى الكلام لايزال يتردد بين فينة واخرى.

لم يخترع براندو كلامه ولم يقصد به ايذاء شعور فئة من الناس. كان يتذكر تجربته محاولا القاء الضوء على تفاصيل لا يعرفها الجمهور. لم يكشف براندو السر. فالسر معروف والاقاويل عنه وحوله متداولة منذ زمن بعيد. أراد براندو تفسير ذلك السر او شرح بعض جوانب السؤال: لماذا استثنت هوليوود شريحة من شعوب العالم بينما كل او معظم الشعوب رسمت السينما الاميركية صورة نمطية عن سلوكها أو شخصيتها؟

جواب براندو تجاوز الخطوط الحمر. فهو تكلم عن منطقة مزروعة بالالغام ولا يجوز دخولها. تكلم عن تاريخ (صناعة السينما الاميركية) في الجانب المسكوت عنه. ولأنه اخترق المحذور دفع ثمن كلامه بالاعتذار والاعتذار والمزيد من الصمت.

براندو ليس سياسيا، وربما لم يسمع بفلسطين من قبل، ولايعرف عن ظلم اوروبا لليهود الشيء الكثير، وربما لم يزر منطقة عربية في حياته، وليس على صلة قرابة أو صداقة أو مصلحة عمل مع العرب. هو مجرد ممثل بارع نال جوائز على ادواره المميزة، وعاش معظم عمره في هوليوود وجوارها. فهو قضى قرابة 50 سنة يعمل في شركات صناعة السينما الاميركية وقام بتقمص عشرات الأدوار ولعب إلى جانب اهم رموز هوليوود من مخرجين وممثلين ومنتجين.

مشكلة براندو انه يعرف الكثير. وبحكم تجربته الطويلة اتصل بمعظم من له شأن في حقل «الفن السابع».

وعلى هذا أصدر حكمه التبسيطي انطلاقا من التجربة. فكلام براندو يستند إلى خلفية تجريبية وملاحظات حسية مباشرة ولا يعكس بالضرورة حساسية نظرية عن ناس لا يعرفهم ولم يتصل بهم في حياته.

كلام براندو جاء مستندا إلى تفاصيل واقعية جرت في حياته الفنية واسئلة دائمة كانت تتردد في زوايا هوليوود وقاعاتها الخفية وغرفها السرية: لماذا كل شعوب العالم باستثناء فئة واحدة؟ ولأن الجواب من المحرمات تم الاتفاق او التفاهم على الصمت وعدم كشف السر. تركت المسألة إلى التخمينات والتقديرات.

الحديث عن تجربة براندو المرّة «وزلة لسانه» التي دفع ثمنها الكثير من سمعته وشهرته جاء بمناسبة الحملة الضخمة التي اطلقت على الفنان محمد صبحي ومسلسل تلفزيوني محدود التداول في منطقة عربية مطوقة بالجيوش والتهديدات بالغزو.

عنوان الحملة يقول: ان المسلسل، او بعض لقطاته، تشوه سمعة اليهود وتؤسس الكراهية الثقافية، وتنمط الشخصية السلوكية لفئة من الناس.

هذا هو العنوان اما الحقيقة فقد تكون مسألة اخرى لها صلة بالواقع والتاريخ وببعض الحوادث التي جرت في زمن مضى وليس بعيدا عن راهنٍ نراه.

اذا عنوان الحملة تشويه السمعة. «اسرائيل» تعتبر ان سياستها في الاحتلال والقتل والتشريد والتطرف العنصري ومطالبة بعض المسئولين في الحكومة والكنيست بطرد الفلسطينيين أو إبادتهم أو الحجر عليهم وبناء «السور الواقي»، كلها تصرفات عادية لا تشوه سمعتها.

فقط المسلسل التلفزيوني يشوه سمعتها وينمط شخصيتها وسلوكها. أما تلك المجازر من صبرا وشاتيلا إلى جنين فهي تصرفات عادية تأتي في سياق خارج الصورة.

كل هذا العُهر ليس مهما بالنسبة إلى السينما الأميركية التي واصلت حملتها «الفنية» في تشويه صورة العربي والمسلم على أكثر من جانب وصعيد وصولا إلى خاتم الأنبياء.

هذا ليس مهما. المهم بالنسبة إلى «إسرائيل» هو ألا يتحدث محمد صبحي في مسلسله عن أسرار «محفل يهودي» في مصر في ثلاثينات القرن الماضي أو ان يكشف براندو خفايا مهنته في تجربة طويلة كان من رموزها لمدة نصف قرن في استوديوهات هوليوود.

هوليوود هي صناعة، ومن أهم نتاجاتها صناعة ثقافة الهيمنة. ومن شروط الهيمنة ألا تستخدم الشعوب المقهورة أدوات الهيمنة للدفاع عن ثقافتها وتاريخها.

ربما هذا هو سر الحملة... ربما

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 71 - الجمعة 15 نوفمبر 2002م الموافق 10 رمضان 1423هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً