العدد 865 - الإثنين 17 يناير 2005م الموافق 06 ذي الحجة 1425هـ

بحثا عن تفاح عسير الهضم

محمد فاضل العبيدلي

مستشار في مركز دبي لبحوث السياسات العامة

كنا بحاجة إلى صحافيين جدد. وعندما نشر الإعلان في الصحيفة، تسلمنا مئات الطلبات مرفقة بالسير الذاتية والمؤهلات الدراسية والشهادات العلمية والعملية. وفي مئات الطلبات ستجد أن هناك شهادة من معهد ما للتدريب مرفقة مع كل طلب.

ولأن ذاكرتي تعي سنوات أخرى كان أقصى ما يمكن أن يرفقه طلاب الوظائف هو شهادة "طباعة على الآلة الكاتبة"، إما من "مدرسة إبراهيم محرم" في المحرق أو "مدرسة عبدالرسول التاجر" في المنامة، ذهلت وأنا أقلب أوراق المتقدمين لكثرة عدد الشهادات المرفقة معها. شهادات في الكمبيوتر وبرامج "الاكسل" وأخرى في الادارة وفي اللغة الانجليزية، من دون أن ننسى طبعا الإجازة الجامعية في ميادين شتى.

أصابتني الأوراق بالدوار، وأدرت رأسي نحو الأخ غسان الشهابي مستفسرا عن سر هذا المعهد الذي أصبح محجا لكل البحرينيين. هون علي الأمر بواحدة من دعاباته: "لا عليك... هؤلاء حتى إن زرتهم وشربت معهم الشاي سيعطونك شهادة"!

أحالتني الدعابة إلى ولع البحرينيين بالمحاكاة. إنني أترفق طبعا في استخدام الكلمات، فما أعنيه هو الميل إلى التقليد. فمع مطلع الثمانينات مثلا ومع افتتاح أول مطعم حمل اسم "تندوري"، امتلأت مدن البحرين وقراها بمطاعم لا جامع بينها سوى كلمة "تندوري". ولاحقا تذوق البحرينيون المشويات على طريقة الأتراك فامتلأت مدننا وقرانا بمطاعم المشويات التركية.

يتعدى الأمر دعابة مثل هذه على رغم أنها موحية، ففي نهاية المطاف سنبحث عن الجودة إن في المطاعم أو في البشر. فالأوراق لن تكشف صحافيا جيدا، وفي النهاية يتعين علينا أن ندقق ونوالي عملية الفرز لاختيار حفنة من المتقدمين للدخول في امتحان ومقابلات.

مهنتنا هذه مخادعة قليلا، وعندما تسأل: ما هي المؤهلات المطلوبة لاختيار صحافي جيد، فإن الكثيرين مازالوا يصرون على اللغة والأسلوب. لكن امتحاننا ذاك حمل من المفاجآت ما قد يدفعكم إلى تغيير هذا الاعتقاد. كانوا نحو سبعة، اجتاز الامتحان منهم خمسة، لكن أفضلهم لم يكن كتب فقرة واحدة بلغة عربية سليمة. لماذا قلت أفضلهم؟

هذا ثبت فيما بعد، بعد شهور من العمل والبدايات المتعثرة قليلا. دعوني أصفه لكم: لا يتحدث كثيرا بل يستمع أكثر مما يتحدث. دقيق في مواعيده، إن قلت له إن موعدك في التاسعة ستجده أمامك في التاسعة إلا ربعا. مثابر وصبور، قليل الشكوى، بل إنني وعلى مدى عام لم أسمعه يشتكي من شيء. منضبط، يعتني بهندامه من دون مبالغة. أما لغته العربية التي كانت مثل عربية مبشر كاثوليكي من القرن التاسع عشر، تحولت فيما بعد إلى عربية سليمة. وبدلا من خبر قصير مقتضب، راحت موضوعاته تترى وتميل إلى التفصيل الدقيق والمعلومات الجديدة والمصادر المتنوعة وتصبح تقارير إخبارية متقنة.

أمازال الأمر مستعصيا عليكم في الإجابة عن كيفية اكتشاف صحافي جيد؟ إنها القدرات الذهنية وليست اللغة، فاللغة مهارة مكتسبة نستطيع تنميتها بشيء من المثابرة. أما القدرات الذهنية فهي أصيلة والمثابرة إحداها، وهذه الأخيرة هي التي ستقودنا إلى اللغة السليمة والأسلوب.

لكن إليكم الصدمة: هذا النوع من الصحافيين أصبح "عملة نادرة" في صحافتنا. فهذا النموذج الذي قدمته لكم ترك الصحافة لأن صحافتنا لا تستوعب هذا النوع من الصحافيين، فهم بالنسبة إليها مثل تفاحة عسيرة الهضم. وفي تفصيل صغير هنا فإن راتبه لم يتغير طيلة ثلاث سنوات منذ تعيينه. ستسألون لماذا؟ لأن "الحرفية" أصبحت مرهقة للصحف إلى الحد الذي باتت ترى فيه نوعا من التعب الإضافي الذي لا لزوم له، طالما أن جمهور القراء لا يريد أكثر من نتف معلومات تقدم كخبر لأحاديث المجالس.

وعلى مدى السنوات الماضية، كان بالإمكان ملاحظة كيف أن بقايا تقاليد مهنية داخل الصحف أخذت تتراجع وتختفي لأن "المستوى الاحترافي" له كلفة مالية أيضا. ليس هذا فحسب، بل إن هذا التخلي والتراجع سيعيدنا إلى السؤال الأول: لماذا نصدر صحيفة؟

أيا كان الجواب الذي سنظفر به من أصحاب الصحف، فالمؤكد هو أن المعادلة المثلى للربح التجاري والخدمة الاحترافية مازالت غائبة، لا لشيء سوى أن ما نراه ونلمسه هو أن الصحف مهما اختلفت لغتها والمصالح التي تدافع عنها تتشابه تماما كمشروعات اقتصادية وإدارة ومقاربة، بل وتستنسخ بعضها في نموها كمشروعات اقتصادية. الخاسر الأكبر: الخدمة الصحافية نفسها والاحتراف

إقرأ أيضا لـ "محمد فاضل العبيدلي"

العدد 865 - الإثنين 17 يناير 2005م الموافق 06 ذي الحجة 1425هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً