-
القائمة الرئيسية
-
ملاحق البحرين تنتخب 2014
-
محاضرة الدكتور عبدالهادي خلف في ندوة نادي الخريجين حول المواطنة الدستورية
السلام عليكم. لي أربع ملاحظات سريعة كمقدمة لمداخلتي.
هذا هو يوم نكبة العرب. وهو يوم نحتاج فيه لتأكيد تلاحمنا مع أشقائنا وشقيقاتنا في فلسطين ومع نضالهم ضد الاحتلال الصهيوني ومن أجل إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وذات السيادة وعاصمتها القدس.
وشكراً لنادي الخريجين، إدارة وأعضاء، لتكرمكم بدعوتي لمشاركتكم مناقشة بعض الأفكار والهموم التي تتعلق بالمواطنة الدستورية.
فاليوم يساهم النادي، كعادته، في توسيع مساحة الحوار فيما بيننا سواء أكنا في السلطة أو على هامشها، أو كنا في المعارضة أو على هامشها.
أود كذلك أن أشير إلى أن وجودي معكم بعد ما يزيد عن 25 سنة من النفي والتغييب هو أحد نتائج المبادرة الجريئة التي أتخذها سمو الأمير نحو الانفراج السياسي في البلاد.
لقد استطاع الأمير أن يرى المخرج الملائم، وربما الوحيد، للخروج من عنق الزجاجة الذي وصلنا إليه جميعاً، نظاماً ومعارضة، جراء سياسات الماضي الخرقاء.
وليس لي إلا أن أثمن حصافة سمو الأمير وبعد نظره.
أما الإشارة الأخيرة فهي إلى إننا لا نستطيع أن ننسى تضحيات الجميع، وبخاصة قرة عين شعبنا الشهداء وأهالي الشهداء. فلولا هم لما كنا هنا نتحاور في كيف نبني دولة دستورية ونؤسس لمواطنة دستورية.
اللهم لا تجعلنا من "الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون انهم يحسنون عملاً." (الكهف 18:104)
المواطنة الدستورية
يطرح بعض دارسي التطور السياسي وبناء الدولة من البلدان متعددة الثقافات والهويات (ومن بينهم Jurgen Habermas) المواطنة الدستورية Constitutional Patriotism كبديل عقلاني لتنافس الهويات والانتماءات في هذا البلد، كما هو الحال في بلدنا البحرين بشكل خاص وفي وطننا العربي بشكل عام.
ففي بلدنا وفي منطقتنا العربية، كما لا يخفى على اللبيب، تتجاذب الناس انتماءات متعددة يتنافس بعضها، بل ويتصارع أحياناً... وتتأسس على الانتماءات هويات متوازية طائفية وقبلية ومناطقية ولغوية... إلى آخره....
تثير هذه الهويات المتوازية المصاعب أمام اندماج الأفراد في الوطن، بل وتخلق ظروفاً غير مؤاتية لبناء واستقرار الدولة الحديثة، أي الدولة التي يتساوى فيها المواطنون بدون النظر إلى انتماءاتهم العرقية والدينية والطائفية والجنسية... إلى آخره.
لقد فشلت محاولات مخلصة وجادة استهدفت إلغاء هذه الهويات المتوازية والمتنافسة فيما بينها... وفشلت محاولات مخلصة وجادة لاستبدال هذه الهويات بهوية وطنية/ قومية قائمة على تحفيز وتعبئة مشاعر الانتماء القيمي والعاطفي إلى الأرض، إلى التاريخ، إلى الوطن.
فمن جهة بدت تلك الهوية الوطنية/ القومية مصطنعة، أو قل سابقة لأوانها، وبالتالي لم تقتنع الغالبية التي فضلت المحافظة على موروثاتها الثقافية وانتماءاتها من فترات ما قبل الحداثة.
ومن جهة أخرى تصدت القوى المحافظة والمستفيدة من تشتيت المجتمع إلى إثنيات متنافسة وإلى طوائف متصارعة، بكل قوتها من أجل إفشال المشروع الوطني/ القومي وإفراغه من مضمونه التقدمي والحديث.
وأدت هذه الجهود مجتمعة، كل من جهته، إلى انهيار كل المحاولات لبناء تلك الهوية البديلة.
لم تتمكن الدولة المعاصرة في أغلب بلداننا العربية، بما فيها البحرين أن تخلق إنتماءً عاطفياً ذهنياً بمؤسساتها. وبقيت الدولة بشكل عام، كما يقول Goran Hyden بالوناً فوق رؤوس الناس.. تخافه ولا تحبه. وبقي الانتماء إلى الدولة انتماءً شكلياً وإجراءً قانونياً تنحصر أهميته في دواوين الحكومة وسجلاتها.
تفكروا في حالنا... لقد حاولنا منذ الخمسينات أي منذ أن دشن روادنا قادة الهيئة ومناضلوها مشروعهم الوطني/ القومي.. وما زلنا نحاول إلى يومنا هذا.
هناك من يقول، ربما كان المخرج هو القبول بواقع الحال، وقبول إن القبلي سيبقى قبلياً وإن الطائفي سيبقى طائفيا والمناطقي/ الإقليمي سيبقى مناطقياً/ إقليمياً.... إلى آخر تلك الهويات وتلك الانتماءات التي نعرفها أو نظن إننا نعرفها.
وهناك من يقول أنه وبدلاً من محاربة كل الانتماءات المعاصرة وما تولده من هويات متنافسة، وبدلاً من الاستمرار في هدر الجهود في مشروع ثبت عدم جدواه يهدف إلى اصطناع هوية بديلة لكل الهويات، ليصبح مثل عصا سيدنا موسى التي ستبتلع كل ثعابينهم.... بدلاً من ذلك علينا، بل قل من الممكن، التوجه إلى مشروع أكثر قابلية للتنفيذ آلا وهو بناء الدولة الدستورية الحديثة، وبناء مؤسساتها المقبولة والمعترف بها من الجميع.
ويزعم الزاعمون، وأنا منهم، إن بناء الدولة الدستورية الحديثة، وتوفير المناخات المؤاتية لتشجيع الانتماء إليها، هو أساس أكثر واقعية لتأسيس هوية مشتركة.
وهذا يعني إننا نحتاج إلى قلب أولوياتنا... وأن نبدأ ببناء مؤسسات الدولة الدستورية قبل مطالبة الناس بالولاء لها والانتماء إليها. المؤسسات قبل الأغنية
فقط عن طريق بناء مؤسسات الدولة الدستورية نستطيع أن نتجاوز الشكوك وانعدام الثقة... وأن نتخطى العقبات الذهنية والثقافية والبنيوية التي ولدتها عقود من سوء الإدارة وعقود من تطبيق استراتيجية تفتيت المجتمع وتشطيره إلى تعاضديات عمودية.. وأن نتخطى ما هو مرتبط بالموروث الثقافي والتاريخي الذي يثقل كاهل حاضرنا ويمنع تطور مستقبلنا بالشكل الذي نريده ونتمناه.
تدريجياً، وأشدد على تدريجياً، سيؤدي بناء مؤسسات الدولة الدستورية إلى ترسيخ مقومات تلك الهوية الجديدة هوية المواطنة الدستورية، بما هي قائمة على حساب عقلاني يقوم به كل فرد منا لالتزاماته واستحقاقاته تجاه المواطنين الآخرين من جهة وتجاه الدولة ومؤسساتها من الجهة الأخرى... وهو حساب عقلاني يستند إلى معرفة دقيقة وتفصيلية وموثقة بالتزامات الدولة ومؤسساتها تجاه كل فرد منا.
حين أشير إلى الدستور كمرجعية للمواطنة فإنني أشير إلى وثيقة تعاقدية تحدد سلطات ومسئوليات وحدود سلطات كل طرف متعاقد.
فهو من جهة أولى يحدد وبالدقة اللازمة سلطات كل هيئة: الأمير، الحكومة، البرلمان والمواطنون. كما يؤسس لعلاقات التعاون فيما بينهم ويحدد الإجراءات المقبولة لقيام هذا التعاون.
وهو من جهة ثانية يفصل الحريات والحقوق التي يتمتع بها كل فرد مواطن ويقرر أشكال حمايتها من تعديات الدولة ومؤسساتها الرسمية وغير الرسمية.
وهو من جهة ثالثة يحدد الأساليب والإجراءات التي يتوجب اتباعها حين تتوافق الأطراف المتعاقدة على تعديل عقدها، أي الوثيقة الدستورية نفسها.
مثل أي تعاقد بين أطراف فان قوته، أو ضعفه، تكمن في نقطتين:
• ثقة كل طرف بحسن نوايا الطرف الآخر وبرغبته في الالتزام بما يتضمنه العقد.
• وجود آليات موثوق فيها لمراقبة تنفيذ العقد ومحاسبة الطرف المخل به.
صفات الدولة الدستورية الحديثة
باعتبارها شكلاً من أشكال تنظيم العلاقة بين السلطة والأفراد في إقليم معين فان من أهم صفات الدولة الدستورية هو الشعب فيما هو مصدر السلطات، وإن العلاقة بين السلطة والأفراد هي علاقة تعاقدية لا تقبل تمركز السلطة في يد فرد أو مجموعة أفراد.
قد يتفق اغلب علماء السياسة، وأزعم غالبية الحضور كذلك، على أن دولة دستورية كالتي ننشدها تتضمن معظم الصفات التالية التي تضمنها وثيقة دستورية متفق عليها وعلى شرعيتها:
- حقوق متساوية لجميع المواطنين البالغين بما في ذلك الحق في الترشيح والانتخاب.
- نظام انتخابات دورية تضمن الاختيار الحر بين مرشحين متنافسين.
- تنافس علني بين الأحزاب والتكتلات السياسية.
- اتخاذ القرارات عن طريق التوافق أو بأغلبية الأصوات، وفي الحالة الأخيرة، حماية حقوق الأقلية السياسية.
- قضاء مستقل.
- حق الأفراد والتنظيمات السياسية في السعي لتغيير أي جانب من جوانب النظام السياسي، بما في ذلك الدستور، عبر القنوات المتفق عليها وحسب الإجراءات المنصوص عليها.
يلاحظ كثير من الباحثين المهتمين[1] بدراسة الانفراج السياسي في الوطن العربي إن الدول العربية التي أعلنت عن تدشين انفراجات سياسية في الطريق إلى أحداث إصلاحات سياسية لم تكمل الطريق... بل أن الإعلان عن الانفراج والنية للتحول إلى بناء الدولة الدستورية لم يكن يعكس التزاماً مخلصاً وأميناً بتقاسم السلطة مع الشعب ومشاركة ممثليه فيها، بل كانت مجرد إعادة هيكلة تكتيكية لآليات السيطرة على المجتمع.
لهذا تحتاج تلك الصفات الحميدة التي أشرنا إليها إلى ترسيخٍ وإدامة لضمان بقاء الدولة الدستورية دستورية، ولضمان عدم تحول الانفراج السياسي إلى مجرد عملية تجميل.
يلخص تيم نيبلوك*Niblock الأستاذ في جامعة درهام عدداً من الأمور التي اقترحها كل من البنك الدولي عام 1993 وبرنامج الأمم المتحدة للتنمية عام 1995 لضمان الحكم الصالح أو الحكم الرشيد Good Governance.
من بين ما يقترحه البنك الدولي (1993)
1- وجود مجتمع مدني قوي ونشط.
2- الالتزام باتخاذ القرارات بشكل مفتوح وقابل للتوقع.
3- وجود جهاز إداري مهني ومحترف.
4- الالتزام بمبدأ سيادة القانون.
أما برنامج الأمم المتحدة للتنمية (1995) فكانت اقتراحاته أكثر وضوحاً وشمولاً.
1- ضرورة وجود شرعية سياسية.
2- وجود تعاون مستقر بين مؤسسات المجتمع المدني.
3- حرية التنظيم الاجتماعي والسياسي وحرية النشاط.
4- وجود مواعد معلنة مسبقاً وقنوات وضوابط معروفة للمسائلة المالية والإدارية.
5- إدارة كفؤة للمؤسسات وأجهزة الدولة والقطاع العام.
6- نظام قضائي مستقل وعادل ويمكن الاعتماد على نزاهته.
7- الشفافية
8- وجود آليات شعبية لاختيار وإزاحة المسؤولين المحليين المنتخبين (على مستوى البلديات وأجهزة الخدمات، مثلاً).
9- وجود آليات معروفة مسبقاً ومعترف بها لمكافحة الفساد.
10- القدرة والكفاءة على تطبيق القانون على أساس التشريعات السائدة.
- فصل الدولة ومؤسساتها وأجهزتها عن المصالح الخاصة.
12- احترام الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والسياسية المكتسبة.
قد يحتاج الأمر إلى التوقف قليلاً للإشارة إلى الأحزاب السياسية ودورها في تطور الدولة الدستورية وضمان تطور المواطنة الدستورية.
فالحزب السياسي هو المنظمة التي يمكن للناخبين التجمع حولها بهدف إحداث تغيير في الوضع السياسي أو بهدف تغيير السلطة. لهذا فان وجود الأحزاب ضمن البنية السياسية هو أهم ما يميز الديمقراطية الدستورية عن غيرها من البنى الديمقراطية أو البنى التي تدعى الديمقراطية والتي نجدها في كثير من البلدان التي لا تعترف بالحزبية. ولا بد لهذه الأحزاب التي تكون مستقلة عن الدولة في نفس الوقت الذي تكون فيه العضوية فيها مفتوحة ومتاحة لمن يرغب.
وبجانب كونها أداة لتمثيل مصالح أعضائها ومؤيديها وقواعدها فان الأحزاب في دولة دستورية هي أداة فعالة لضمان سلمية التغييرات السياسية من جهة ولضمان استقرار النظام السياسي. لهذا، وعلى خطى ساند بروك Sandbrook أقول أن من الصعب تصور قيام ديمقراطية مستقرة دون أحزاب سياسية ودون مؤسسات المجتمع المدني المستقلة عن الدولة ومراكز القوى الأخرى. (ساند بروك يضيف الشرط الثاني وهو وجود وسائل إعلام جماهيري مستقلة عن الدولة فهذان الشرطان هما علامتا الديمقراطية).
سأعود إلى هذه النقطة بعد قليل.
ماهي المعيقات التي تواجه بناء الدولة الدستورية في بلادنا؟:
السؤال الذي يشغل بال جميع المهتمين بالشأن العام وبخاصة من لهم مصلحة مباشرة في تثبيت الانفراج ودفعه إلى الأمام، وفي مقدمهم بطبيعة الحال سمو الأمير نفسه، هو كيف نوفر الظروف الملائمة إلى إصلاح سياسي على الطريق إلى التحول نحو الإصلاح الديمقراطي؟
أو بكلمة أخرى، كيف نستطيع مساعدة سمو الأمير في إزالة العقبات التي تقف في الطريق نحو بناء الدولة الدستورية؟
يشير المختصون في هذا المجال ومنهم Samuel P. Huntington و Juan Linzوهم من يمين العلوم السياسية أوGills & Ricomora من يسارها، يشيرون إلى إن كل أنواع الانفراج تتطلب مفاوضات معلنة أو غير معلنة، مباشرة وغير مباشرة، بين الحكم والمعارضة. وإن كل الانفراجات السياسية التي شهدها العالم خلال الثلاثين سنة الماضية هي حصيلة تجاذب بين المعارضين والنظام من جهة أولى، وبين الإصلاحيين والمحافظين في النظام من جهة ثانية، وبين المعتدلين والمتشددين في المعارضة من جهة ثالثة.
يشير المختصون بمن فيهم من ذكرت لكم قبل قليل إن كل أنواع الانفراج السياسي تبدأ بعد اكتشاف السلطة أن استقرار النظام والمحافظة عليه أصبح مكلفاً للغاية... وإن الانفراج لن يكون مكلفاً سياسياً أو اقتصادياً، بل أن له مردودات إيجابية كثيرة ليس أقلها إكساب النظام شرعية يفتقدها ويأمل في الحصول عليها، علاوة على اجتذاب استثمارات والحصول على معونات خارجية.
لا جدال في أن الانفراج مفيد....... ويكفي أن نلاحظ وجوه الناس في بلادنا.... من الأمير حتى أشد معارضيه تشدداً... لترى عيوناً ملؤها الأمل بجدوى مشروع الإصلاح وبواقعيته وبآفاق تطوره إلا أن علينا ألا نجعل من هذا الأمل حجاباً يخفي ناظرنا العقبات التي تواجه المشروع الإصلاحي وتهدد استمراره... أقول تتهدد استمراره ولا أقصد الارتداد عليه... فمن المعلوم انه ومنذ بدأت خطوات الانفراج السياسي العلنية في نوفمبر الماضي، أصبح معلوماً للقاصي وللداني، الارتفاع التدريجي في الكلفة السياسية والاقتصادية والأمنية المتوقعة جراء الارتداد عن مشروع الإصلاح. بكلمة أخرى الارتداد ممنوع.
سوف أطرح أمامكم فيما يلي بعض، وليس كل المعيقات الأساسية التي تواجه المشروع الإصلاحي، وتعيق بالتالي بناء الدول الدستورية وتأسيس المواطنة الدستورية.
وقبل أن أسردها باختصار، أقول إن أغلبها أمور اعتيادية تواجه أي نظام يسعى إلى الانفراج ويطمح في أن يصبح ديمقراطياً . ويبدو لي من متابعتي إن القائمين على تخطيط هذا المشروع في بلادنا قد درسوا اقتراحات وتوصيات وإرشادات Linz وHuntington وتلاميذها. وهم يعرفون بالتالي إن للانفراج السياسي تبعات ربما أهمها هو السعي، مع المعارضة، إلى تذليل العقبات ومعالجة المعيقات.
فلا يمكن أن يكون الإصلاح السياسي مشروعاً من طرف واحد.
والآن لنرى بعض المعيقات الأساسية:
أول المعيقات التي تواجه المشروع الإصلاحي هو انعدام الثقة بين المواطنين بأنفسهم وبالدولة. فكما تلاحظون مازالت أجواء الانفراج حذرة ومازال التوجس ملحوظاً ... وهذا يعني ببساطة إن أمامنا الكثير لمعالجة آثار تاريخنا.
نحتاج إلى إجراءات ملموسة لإزالة آثار عقود من تهميش الناس، من آثار الخوف المزروع، من آثار انعدام محاسبة الفاسدين والمفسدين، ومن آثار قناعة ترسخت بان المواطنين رعايا.
باختصار، أيها الأخوات والاخوة، نحن بحاجة إلى إعادة بناء رأسمالنا الاجتماعي، الذي نراه مكوناً هاماً ولازماً من مكونات العصبية الخلدونية التي لا بد منها لبناء ومنعة الدولة.
ونحتاج في هذا الصدد إلى جهود دؤوبة ومتكاتفة من جميع الأطراف، من الدولة ومؤسسات المجتمع المدني، لكي نستطيع شيئاً فشيئاً إعادة بناء رأسمالنا الاجتماعي المهدور وتطويعه ليتلائم مع متطلبات بناء الدولة الدستورية .
لقد قال الدكتور علي فخرو في مداخلته الهامة في نادي العروبة إن الدولة قد تصالحت مع المعارضة قانونياً واقتصاديا... والكلمة المفتاح هنا هي إن المصالحة جاءت من طرف واحد ومحصورة في إطارين ضيقين، رغم أهميتها.
المصالحة المطلوبة هي مصالحة بين طرفين... بين طرفي العقد الذي سنبني على أساسه دولتنا الدستورية العتيدة ، وعلى أساسه سنؤسس هويتنا المشتركة ومواطنتنا الدستورية
ولا يمكننا أن نتصالح قبل أن نتصارح
قد لا يرى البعض أهمية محاسبة المسئولين عن انتهاكات حقوق الإنسان وعن تدمير رأسمالنا الاجتماعي.
ولربما يقال، بإخلاص، إن هذا ليس وقت هذا الترف... ولكن المصارحة التي أدعوكم للتفكير فيها تعنى توثيق وتدقيق الروايات التي تتداولها الناس عن انتهاكات حقوقها وعن تجاوزات قامت بها أجهزة الدولة المختلفة بما فيها أجهزة الأمن.
نعم نحن نعرف الكثير من هذه الانتهاكات. ولدى المعنيين من الناشطين في هذا المجال ما يكفي من الوثائق والشهادات لتقديم عدد من المسئولين عن تلك انتهاكات إلى المحاكمة، كما هو معلوم، حتى في بريطانيا وهي أكثر البلدان تشدداً في توفير شروط المحاكمة العادلة.
نعم لدينا الكثير ولكن المخفي أعظم.
لا أدعو هنا إلى إحالة كل من ساهم في انتهاكات الماضي إلى المحاكمة.... فلسنا جنوب أفريقيا ولست ديزموند توتو، كما إن المطلب ليس واقعياً على أية حال ولا يساهم في بناء الوطن الذي يضم الجميع ويغفر خطايا بناته وأبنائه.
لكننا إذا ما أردنا أن نبداً صفحة جديدة وأن نمضي قدماً في إعادة بناء رأسمالنا الاجتماعي فعلينا أن نتصارح تمهيداً لتصالحنا.
ثانياً ¬ أما العقبة الثانية فهي ما أسميه بانعدام المساحات المشتركة وهذه العقبة تجد أصولها في التعددية الاثنية بأشكالها المختلفة في البحرين. آلا أن محركها الأساسي كانت سياسة النظام التفتيتية طوال العقود الماضية وكذلك عجز الحركة الوطنية في ظروف العمل السري عن مواجهة انعكاسات تلك السياسة.
لدينا مناسبات كثيرة نحتفل بها طائفياً أو سياسياً أو اجتماعيا أو مهنياً... لكن ليس لدينا ما نحتفل به معاً كمواطنين.
وكما نحن، فللدولة مناسباتها التي لا نشارك فيها إلا سنعاً أو خوفاً أو طمعاً.
وكما هو الحال مع المناسبات فهو حالنا مع الرموز التاريخية... فحتى يوم الاستقلال أضحى يوماً تختص المعارضة بالاحتفال به بينما تتجاهله الدولة وخاصة سفاراتها في الخارج.
ويرتبط انعدام المساحة المشتركة باختلاف التاريخ الرسمي عن التاريخ الشعبي، ففي الوقت الذي يبدأ التاريخ الرسمي عام 1783 ، يستعيد التاريخ الشعبي أموراً لا ترغب الدولة في استعادتها...
نحتاج أيها الأخوات والاخوة إلى استعادة وبناء تاريخنا المشترك الذي يكون عام 1783 نقطة في مساره بدلاً من أن تكون نقطة بدايته.
غابت المساحة المشتركة لأن الدولة رضيت لنفسها أن تكون بالوناً فوق الناس، لها عالمها ولهم عالمهم، لها مناسباتها ولهم مناسباتها.
تشديدي على المساحة المشتركة قائم على اعتبارها ، في مجتمع متعدد الثقافات، هي إحدى أدوات الاندماج في الوطن... وإحدى مسوغات المواطنة.
لا أشك في إنه إذا ما سارت على ما يرام فان 14/15 فبراير سيكون أحد أول مساحاتنا المشتركة. وقد تكون الذكرى الثلاثين لإعلان الاستقلال احتفالا بتدشين المساحة المشتركة بين الناس من جهة والدولة من جهة أخرى.
آلا إن هناك أمور كثيرة قد تبدو غير مهمة بمفردها، إلا إنها تؤكد إصرارنا جميعاً على الاندماج في الوطن .
لدينا في تاريخنا شخصيات جليلة من بينها قادة هيئة الاتحاد الوطني الذين مهدت جهودهم الرائدة الطريق إلى هذا الانفراج السياسي الذي نعيشه.. تلك الجهود التي وضعت أولى لبنات الاندماج الوطني الذي نطمح إليه.
هل يضير الدولة أن تسمي شارعاً باسم كمال الدين أو الباكر أو العليوات أو الشملان أو الموسى رحمهم الله أو باسم إبراهيم فخرو أطال الله عمره وحفظه؟
هل يضير الدولة أن تسمي شارعاً باسم الدستور أو المجلس الوطني؟
هل يضير الدولة أن يحتفل الناس هذا العام بالذكرى الخامسة والأربعين لمحاكمة ونفي وسجن قادة الهيئة عام 1956؟
أمور رمزية كلها، لكنها مثل العلم ومثل النشيد الوطني، رموز تخلق مساحات مشتركة تخفف الاحتقان الظاهر والباطن وتفتح المجال واسعاً أمام اندماج وطني لا غنى لدولة دستورية عنه.
ثالثا : يشكل احتكار الأعلام عقبة رئيسية من عقبات تطوير الانفراج السياسي وتحوله إلى إصلاح سياسي.
فمهما كانت نوايا سمو الأمير صادقة ومهما كانت ثقة الناس به فإن بعض مرؤسيه في أجهزة الأعلام مازالوا كما نعلم علم اليقين، وبالتجربة الملموسة، يعيشون أجواء ما قبل الانفراج...
ونتيجة لخوف مترسخ في الأنفس أو بسبب سوء ظن بعضهم بالمشروع الإصلاحي أو بسبب معارضتهم غير المعلنة له، فإن ممارساتهم تسيء للمشروع الإصلاحي وتخفض سقف حرية التعبير الذي يتيحه.
ولقد خبرت شخصياً وبالملموس كيف يقلص هؤلاء، بسبب خوف أو تزلف وتمجد، مساحة الحرية ورأيت كيف ينسبون قراراتهم الشخصية المرعوبة إلى "جهات عليا" .
تؤكد هذه الممارسات للناس، رغم ثقتها في إخلاص الأمير، إن الأمر لا يعدو أن يكون زفـّة علاقات عامة.
ألم يكن بإمكان التلفزيون أن ينقل صوراً ومقابلات عن تجمع العاطلين مؤخراً؟ بدلاً من أن يركز جهوداً كثيرة على محاولة تجميل صورة الوزير؟
ألم يكن بإمكان التلفزيون والصحف أن تنقل إلى الناس صورة ضافية عن ندوة نادي العروبة قبل أيام حول أوليات العمل الوطني؟
فعلى الرغم من كل حسن النوايا يبقى احتكار الأعلام هو كعب أخيل المشروع الإصلاحي. ويبقى سقفه المنخفض والذي يزداد انخفاضا يوماً بعد يوم أحد مؤشرات الخطر الكامن.
أما العقبة الرابعة التي أود الحديث عنها فهي هشاشة المجتمع المدني.
تشير دراسة Robert Putnam الشهيرة وآخرين غيره إلى إن هشاشة المجتمع المدني تعرقل الاندماج الوطني وتزيد، بالتالي، مصاعب بناء الدولة الحديثة وتأسيس المواطنة الدستورية.
من الواضح إننا نحتاج في هذا المجال إلى جهود دؤوبة ليس فقط بهدف تنظيم الناس سياسياً بل وأيضاً بهدف تشجيع تواصلهم اجتماعيا. فعن طريق هذا التواصل والعمل المشترك يكتسب الناس خبرات مشتركة وتزداد متانة الثقة المتبادلة بينهم، ويصوغون قواسم مشتركة لا تلغى فردية أي منهم ولكنها تخلق جسداً أسمه الوطن..
أما العقبة التالية أو قل مجموعة العقبات، فهي تلك التي تتولد عن أشكال التمييز الجمعي.
مما لا شك فيه إن أي إصلاح سياسي لابد وأن يتضمن الآليات القانونية والإجرائية اللازمة لإنهاء أشكال التمييز الجمعي القائم على انتماءات الأفراد الاثنية أو الدينية أو الجنسية. ولقد لاحظنا بسرور إن أجواء الانفراج قد تلازمت مع عدد من الإجراءات التي اتخذها الأمير لتخفيف بعض مظاهر التمييز الجمعي السلبي.
وليس لي آلا أن أتمنى استمرارها وتسريع خطواتها.
لا أشك شخصياً في إخلاص وعود الأمير في هذا الاتجاه... ولا في أهمية الالتزامات القانونية والدولية التي تفرض على الدولة مكافحة هذا النوع من التمييز.
إلا إن لدينا كما هو معروف تمييز جمعي من نوع آخر، ألا وهو التمييز الإيجابي تجاه مجموعة معينة من سكان هذا البلد.
ويتمثل هذا التمييز في الامتيازات التي تتمتع بها بنات وأبناء العائلة الخليفية.. وهي امتيازات غير متاحة حتى لأكثر فئات المجتمع حظوة.
لا أقول هذا حسداً ، حاشا الله. ولكني أقوله لقناعتي بأن بقاء مشكلة الامتيازات العائلية دون حل ستؤدي إلى إفراغ المشروع الإصلاحي من محتواه، وسيجهض جميع جهودنا نحو تعبئة الناس لبناء الدولة الدستورية.
إن البون شاسع، أيها الأخوات والاخوة، بين المحرومين وبين ذوي الامتيازات ... ولن يصدقنا الناس حين نطالبهم بالاندماج في الوطن في حين نعفي بنات وأبناء العائلة الخليفية من واجب وحق الاندماج في الوطن.
أعرف إن سمو الأمير على وعي بأبعاد هذه المشكلة، ولا اشك إنه سيستطيع أيجاد الحلول المناسبة لها. فعسى الله أن يثبت أقدامه ويسدد خطاه.
يتطلب الاندماج في الوطن عدداً من الإجراءات القانونية والسياسية كما يتطلب جهوداً دؤوبة على صعيدي التربية والأعلام. لن تكون المهمة سهلة ولكنني على ثقة إن تضافر جهود جميع الديمقراطيين في النظام وفي المعارضة سيوفر المناخ اللازم لتسريع اندماج الجميع، دون استثناء، في الوطن. ويرتبط بهذا ، إذا ما سمحتهم لي بتحوير بعض إشارات Huntington Linz، الإشارة إلى ضرورة أن نتوافق جميعاً على انه حين تصبح البحرين دولة دستورية، فان العائلة الخليفية ستتطور أيضاً من عائلة مالكة إلى عائلة ملكية.
الخاتمة
لا يمكن قيام الدولة الدستورية بين ليلة وضحاها، ولا يمكن تأسيس المواطنة الدستورية عن طريق التمني أو على طريقة كن فيكون، أو عن طريق الأغاني والأناشيد...
المصاعب والعقبات كثيرة... ولقد عددت بعضها ولم أذكر الكثير منها مما تعرفون... وعلى الرغم من كثرة العقبات والمصاعب فليس أمامنا جميعاً، أميراً وشعباً ونخباً معارضة وموالية، آلا أن نتكاتف في طريقنا إلى الهدف المشترك.
وقبل أن أتوقف، اسمحوا لي أن أشير مرة أخرى إلى ما يمكن أن نتعلمه من سلسلة من الانفراجات السياسية في مختلف أرجاء العالم طوال العقود الثلاثة الماضية.
إن إحدى نتائج الانفراج السياسي، كما تلاحظون في الشارع البحريني الآن، هو أنه يفتح الباب تدريجياً أمام حركة شعبية أكثر أتساعا من المعارضة السابقة للانفراج... ويفتح إمكانيات تعبئة قوى اجتماعية كانت مهمشة في الماضي أو مقموعة....
وعلى الرغم من كل إيجابيات اتساع الحركة الشعبية وإمكانات التعبئة الاجتماعية والسياسية، فأنها تعطي للمترددين ضمن النظام حججاً ومبررات للدعوة إلى التراجع عن الانفراج، أو على الأقل إيقافه عن حدوده الراهنة.
وما التهديدات والتحذيرات والتي نسمعها بعد كل ندوة ... إلا إشارات على تململ الحرس القديم الذي لم يقتنع ولم تقتنع بطانته، بـل وحتى الانتهازيين والمتمجدين (حسب الكواكبي صاحب الاستبداد ومصارع الاستعباد) في صفوف قادة البلاد الإصلاحيين، لم تقتنع بجدوى الانفراج الراهن... ناهيكم عن عدم اقتناعهم بجدوى الإصلاح السياسي ومن ثم التحول نحو الديمقراطية والدولة الدستورية والمواطنة الدستورية.
بالنسبة لهؤلاء سيبقى الوطن مزرعة وسيبقى المواطنون رعايا.
شكراً لحسن استماعكم
2001/5/15م
البحرين