العدد 5384 - السبت 03 يونيو 2017م الموافق 08 رمضان 1438هـ

نشوء النخبة المشرقية

هناك الكثير من الكتب التراثية تتحدّث عن «الملل والنحل» في التاريخ الإسلامي. فتلك الكتب التي يبلغ عددها العشرات صدرت في فترات متقطعة ومتلاحقة وكان القصد من إنتاجها توصيف هيئة المجتمع وترسيم ملامح هويته الغنية بالتنوّع المذهبي والتعدد الديني. وساهمت تلك الكتب في توضيح العلاقات مع الدولة من خلال تقديم نبذة موجزة عن العقائد واختلافها وتقاطعها. ونجحت تلك الكتب في إعطاء صورة عن حياة الجماعات الأهلية وتكوينات الفرق المسلمة وغير المسلمة وطرق معاشها وسلوكها اليومي والحياتي.
مَنْ يقرأ الكتب الآنَ وبعد مضي مئات السنين على تأليفها يكتشف المدى الإنساني الذي نسجته الحضارة الإسلامية - العربية في أطوارها المختلفة بوصفها اعتمدت ثقافة تحترم التنوّع وتعطي للآخر ذاك الهامش الخاص؛ ليمارس من خلاله حقه في الاستقلال والتميّز من دون تدخل السلطة في شئونه ما دام لا يستخدم خصوصيته لإثارة الفوضى وزعزعة الاستقرار.
قراءة هذه الكتب في أيامنا مسألة مفيدة على مستويين: الأوّل، معرفي للاطلاع على نماذج من الحياة الدينية الطقسية في ظروف سابقة. والثاني، آني لأنّه يساعد ثقافتنا المعاصرة على تطوير آليات التعايش والتساكن والبناء عليها لتأسيس منهج استيعابي يشجّع على احتواء الآخر أو التآلف معه ضمن علاقات سياسية منفتحة تقوم على مبدأ التسامح.
كتب «الملل والنحل» مهمّة؛ لأنها تعطي فكرة موسوعية عن معتقدات وعادات وتقاليد الفرق الإسلامية وغير الإسلامية التي نشأت وتمظهرت في ظروف مغايرة وبيئات جغرافية متنوعة وثقافات تجاوزها الزمن ولكنها شكّلت آنذاك ضرورة للتعارف من خلال رسم حدود الاختلاف. فالاختلاف لا يلغي التنوّع ولا يعطل الوحدة ولا يساعد على التقسيم وإنما يشكّل في بعض حالاته خطوة نحو ضبط العلاقات تحت سقف إنساني مشترك يرعى نمو الجماعات الأهلية (أكثرية كانت أم أقلية) ويضمن تقدّمها من دون خوف أو انكفاء سلبي إلى الذات.
الكثير من الفرق والنحل والملل التي تحدّثت عنها الكتب غابت عن مسرح التاريخ، بعضها اختفى لظروف سياسية وبعضها تلاشى بفعل الزمن الذي تجاوز أفكارها بعد أن عجزت عن التكيّف مع المستجدات. والكثير من الفرق لاتزال موجودة، بعضها منتشر وبعضها منعزل في أمكنة محددة. وهناك فرق كانت تشكّل غالبية في مرحلة فأصبحت أقلية، وهناك فرق صغيرة تطوّرت لتصبح كبيرة، وهناك فرق تفككت بحكم اصطدامها مع تحوّلات الزمن فتفرقت وتشتتت وانزوت؛ لأنّ أفكارها كانت أسيرة الظروف ونتاج فترة مؤقتة. وهكذا.
يمكن رسم تاريخ التحوّلات في الحضارة الإسلامية من خلال متابعة التنويعات الثقافية التي عكستها الفرق والملل والنحل، وهذا الأمر ليس صعباً رصده في حال أعيد قراءة كتابات الإمام الاشعري (أبوالحسن) والشهرستاني (عبدالكريم) أو البغدادي (عبدالقادر) أو ابن حزم (الظاهري الأندلسي) وغيرهم من مؤرّخين وأدباء وفقهاء وفلاسفة. فهذه الكتب ثرية في معلوماتها؛ لكونها تعطي صورة عن واقع من خلال تسليط الضوء على ثقافة الجماعات الأهلية؛ لذلك اقتصرت مهمّة تلك المؤلّفات على شرح وتوضيح وأحياناً تفسير أو مقارنة ومقارعة الأفكار التي كانت تحملها تلك الفرق في زمانها ومكانها. وظيفة المؤلفات آنذاك كانت تكتفي بتوصيف الواقع الفكري الذي تعتمده تلك الجماعات للتمايز عن غيرها في قناعاتها؛ إلاّ أنّ تلك الوظيفة التوصيفية تطوّرت سردياً مع الحقبات الزمنية وانتقلت من خطوة التعارف (التعريف الأيديولوجي) إلى خطوة التمايز (الخصوصية القانونية) ما أدّى إلى تطوير منهج العلاقات وضوابطه؛ لتتشكل منه لاحقاً قنوات اتصال بين السلطة والجماعات الأهلية.
انتقال منظومات الفرق والملل والنحل من طور الهوية الأيديولوجية إلى طور الضوابط القانونية اعتماداً على الخصوصيات الثقافية ساهم في تشكيل نظام للأحوال الشخصية يضبط العلاقات بين السلطة السياسية والتكوينات الأهلية عبر شبكة من القنوات القانونية الشرعية التي تعترف بذاك الهامش المستقل تحت سقف الوحدة والتنوع.
تقنين أنظمة الملل والنحل والفرق بدأ يعزز قوّته في العصر المملوكي الذي اقتصر نفوذه السياسي (السلطاني) على مصر وبلاد الشام. فالمماليك بحكم كونهم غرباء عن المحيط العربي - الإسلامي استخدموا نظام الملل والنحل واسطة للانفتاح والتنوع. ولأن السلطان المملوكي ليس عربياً واعتنق الإسلام في إطارات فرضتها الظروف السياسية أو العسكرية وجد في ترك المجال لحرية المذاهب الحل المناسب لضمان التوازن ومنع السلطة من التدخل لفرض رؤيتها أو مذهبها.
عهد المماليك الذي جاء بعد انهيار فترة الفاطميين ودولة الأيوبيين في مصر وعدم نمو بديل لتعبئة الفراغ التاريخي في مرحلة اشتدّ فيها القتال ضد بقايا ممالك الفرنجة في بلاد الشام (سورية وفلسطين ولبنان) طوّر شبكة العلاقات الأهلية حين اعتمد التنوّع المذهبي واستقلال الفرق والنحل والملل في نظامها الخاص (قانون الأحوال الشخصية).
استمر النظام المملوكي يعمل من دون تقويض حتى بعد أنْ تلاشى نفوذه في مصر وبلاد الشام في المرحلة العثمانية. فالسلطنة العثمانية التي قضت على سلطة المماليك في القرن السادس عشر اعتمدت نظامهم التعددي وتعاملت مع المذاهب (الفرق والنحل) في إطار قانوني يضبط العلاقة بين السلطان (الباب العالي) وشبكة من الولاة في مصر وبلاد الشام.
واصل نظام الفرق والنحل يقاوم تحوّلات الزمن حتى اضطربت العلاقة الإقليمية بين السلطنة ووالي مصر محمد علي باشا في النصف الأول من القرن التاسع عشر. وأدّى الأمر إلى حصول مواجهة عسكرية بين مصر والعثمانيين على بلاد الشام حين بدأ إبراهيم باشا حملته.
شكّلت تلك الحملة نقطة تحوّل في التوازن حين أتاحت المجال للتدخل الأجنبي (الأوروبي) في المشرق العربي. فالتحالف الأوروبي دعم تجربة محمد علي ضد العثمانيين وحين تطوّرت التجربة وتوصّلت إلى تحقيق تقدم على مستويات مختلفة انقلبت دول أوروبا عليها ودعمت السلطنة العثمانية بشروط قاسية منها السماح لها بتطوير رعايتها وحمايتها للجماعات الأهلية غير المسلمة التي تعيش في بلاد الشام.
ساهم هذا التجاذب الإقليمي في المشرق العربي (شرق البحر المتوسط) في فتح قنوات الاتصال بين المجموعات الأهلية وأوروبا وتسهيل أعمال القناصل وتنشيط دور الإرساليات بناءً على تفاهمات عقدتها عواصم الغرب مع السلطان العثماني.
أدّى التوافق السلمي الذي تأسس على قاعدة «الامتيازات الأجنبية» إلى تشكيل نمط من العلاقات القانونية بين السلطة والجماعات الأهلية يختلف في شروطه التاريخية والقانونية عن تلك الأنظمة (قوانين الأحوال الشخصية) التي كانت سائدة في العهدينِ المملوكي والعثماني. وتترجم هذا التحوّل في نظام العلاقات في توليد نزاعات أهلية أدّى إلى اضطراب المجموعات الدينية والمذهبية ودخولها في اصطدامات دموية وحروب طائفية ومجازر متنقلة نفذت في جبل لبنان وبعض مدن وحواضر بلاد الشام.
نمو النزاعات الأهلية الدموية أعطى المزيد من الذرائع للدول الأجنبية (الأوروبية) بالتدخل لرعاية المجموعات غير المسلمة وحمايتها من الأقليات أو الأكثريات المسلمة. واستمر التجاذب يهبط ويرتفع منذ أربعينات القرن التاسع عشر إلى مطلع القرن العشرين حين انهارت السلطنة العثمانية ودخلت مصر وبلاد الشام عصر الانتداب الأوروبي (البريطاني - الفرنسي) المباشر. وأدّى المتغيّر الدولي في تكوين أنظمة دمجت بين حداثة أوروبية وتقليد إسلامي متوارث فتأسست في إطارها قوانين أحوال شخصية تعطي للمذاهب الحرية في القضاء؛ الأمر الذي طوّر مفهوم التنوّع إلى نوع من الاستقلال الذاتي.
دمج القديم بالحديث عطل على الطوائف التطوّر من نظام الملل والنحل إلى طور الاندماج الثقافي في مجتمع واحد وموحّد المصير والمصالح؛ ما ساهم لاحقاً في نشوء حدود انفصالية تشجّع الأقليات والأكثريات على التمايز والذهاب بقوّة نحو الانقسام وبعيداً عن الوحدة والاندماج.
الطائفية في تكوينها التاريخي وتركيبها الثقافي والاجتماعي تختلف في شروطها القانونية عن المذهبية (الأحوال الشخصية) ونظام الملل والنحل. الطائفية مسألة معاصرة قياساً بنشوء المذاهب. المذاهب قديمة في نموها التاريخي وهي تأسست لتلبية حاجة قانونية للجماعة الأهلية (طلاق، زواج، ميراث، عبادات) وتعتبر ضرورية لتنظيم العلاقات الاجتماعية وضبطها منعاً للفوضى. أمّا الطوائف فهي مزيج مركّب من عادات وتقاليد ومهن وحرف ومواقع ثقافية ووظائف اجتماعية تداخلت مع قوانين الأحوال الشخصية. وبهذا المعنى التاريخي يمكن القول، إنّ السيطرة على الطائفية مسألة أسهل لأنّ بعض جوانبها يتصل بالتمييز الاجتماعي والوظيفي ولاعلاقة له بنظام الملل والنحل وقوانين الأحوال الشخصية والقضاء المذهبي.
الطائفية مشكلة معاصرة ويمكن تفكيكها زمنياً؛ لأنها تكونت بحكم الغلبة الأوروبية التي أخذت تنمو منذ نهاية القرن الخامس عشر وبدأت تتطوّر رويداً من خلال استخدام الأقليات في السلطنة العثمانية واتخاذها أدوات للفوضى أو ثغرات (مسام) للعبور منها نحو اختراق العالم الإسلامي - العربي من الداخل.
الاختراق جرى تحت عناوين إنسانية مختلفة ولكنه تأسس بناءً على دوافع استراتيجية ولعوامل جغرافية (قناة السويس) أو اقتصادية (اكتشاف النفط) أو تاريخية (الصراع على البحر المتوسط) أو دينية لتأمين وضمان خطوط الحج إلى الأراضي المسيحية المقدّسة في فلسطين.
كلّ هذه العوامل المتداخلة موضوعياً وذاتياً أنتجت في القرون الأخيرة مشكلات أهلية تمثلت في نمو سياسات طائفية أو أقلية استفادت من انقلاب موازين القوى الدولية وظهور قوّة أوروبية معاصرة تتدافع مع الإسلام (السلطنة العثمانية آنذاك) لإبعاده عن موقع الزعامة والقيادة التاريخية للعالم. وهذا ما جرى بالتتابع الزمني وصولاً إلى نهاية الحرب العالمية الأولى والبدء في تنفيذ مشروع التقويض السياسي وتشكيل دول في بلاد الشام تتعايش وتتخاصم إلى جوار «إسرائيل». والمشهد الذي انكشف اليوم على طول الساحة المشرقية وعرضها من العراق إلى لبنان وفلسطين هو نتاج تراكم تلك التحوّلات والمتغيرات العنيفة التي طرأت بالقوّة والعنوة منذ نهاية القرن التاسع عشر؛ لتكسر وحدة منطقة عرفت تقليدياً بقدراتها الذاتية على النمو والممانعة.
انكسار الوحدة الموروثة عن المحطة العثمانية عطل امكانات إعادة النهوض على وحدة مخالفة؛ ما انتج انقسامات أهلية فرضت شروطها الإيديولوجية على منظومات فلسفة «النهضة العربية». فالنهضة لم تحصل حتى الآن؛ لأنها كانت متخيلة في النص وفشلت في التحول إلى مشروع. والفشل الذاتي تأسس تاريخياً على قاعدة عمران بشري تتحكم في آلياته منظومات أهلية تتشكل من «ملل» و«نحل» ممانعة للتقدم ومستعصية على التطور.
الكتاب يلاحق التحولات التاريخية منذ نهوض الحركة الوهابية إلى الانقلاب على السلطان العثماني فهو يتناول هذا الجانب «العمراني» ودوره في التأثير السلبي على التطور «المعرفي». فالكتاب لا يتحدث عن أفكار أعلام «النهضة العربية» التي روي عنها الكثير من الحكايات المعطوفة على الشروحات وإنما يتحدث عن أزمة نهضة لم تولد.
البحرين
يناير/ كانون الثاني
2010