العدد 5048 بتاريخ 02-07-2016م تسجيل الدخول


الرئيسيةمنوعات
شارك:


"بحر العيد" في صيدا يصارع الزمن وأمواج الإهمال

صيدا - رويترز

"بحر العيد" مصطلح صكه أهل صيدا منذ أكثر من 60 عاماً على الجزء الأشهر من واجهة صيدا البحرية في جنوب لبنان حيث خصصوا ساحة رملية مجاورة لميناء صيدا وجعلوا منها مكانا للاحتفالات بالعيد.

في هذه الساحة نصب الصيداويون الأراجيح وغيرها من وسائل الترفيه جنبا إلى جنب مع مناشر شباك الصيادين وخصصوها مكانا يقصده أبناء الطبقات الشعبية والفقيرة للاحتفال بعيدي الفطر والأضحى.

كان ذلك في خمسينيات القرن الماضي وكانت الأراجيح وقتئذ تعمل بالدفع اليدوي بعيدا عن التكنولوجيا .. حيث تصنع قوائمها من جذوع الشجر القوية وصندوقها من الخشب قبل أن تتحول مع الزمن إلى الحديد وكان أصحابها يتنافسون بزخرفة هياكلها بالرسوم الملونة والآيات القرآنية والخرزة الزرقاء لإبعاد الحسد وعيون الحاسدين.

كما كان للشبان مفتولي العضلات ألعابهم التنافسية وغيرها من الألعاب المحلية مثل "السحبة" و"الحظ".

يستعيد الحاج إبراهيم النقيب (82 عاما) طفولته ويتذكر أيام الصبا واللهو البريء ويقول "كنا نأتي صغارا إلى الساحة التي تعج بالأطفال مرتدين أزياء العيد الجديدة الملونة ونقضي أيام العيد من الصباح وحتى المساء نتأرجح ونتشقلب ونركب الدويخة التي كانت تدور يدويا فتقذفنا أفقيا ونلوح بأرجلنا إما فرحا أو خوفا".

وعلى أطراف الساحة تنتشر "البسطات" الشعبية الرخيصة لبيع المنتجات المحلية مثل "التفاح المعلل" و"المخللات بطرطار الخردل" و"غزل البنات" و"النعومة" و"الثلج المبروش" المشبع بالشراب.

أما الصياد معروف بوجي (79 عاما) فما زال يقطن بجوار "بحر العيد" محتفظا بذكريات لا تمحى مع المكان.

يقول بوجي "بحر العيد كان المتنفس الوحيد للفقراء من ابناء المدينة للترويح عن اطفالهم بكلفة لا تتعدى القرشين لقاء ركوب الأرجوحة". وهي تكلفة متكافئة مع دخل عمال ذلك الزمان وصغار حرفييه وصياديه ومزارعيه.

كان مشهد الفرح العارم تلخصه الأراجيح وهي تنطلق نحو السماء مع اختلاط أهازيج مشغلي الأراجيح بعضها ببعض حيث يرددون الأغاني الشعبية ويرد عليهم الأطفال المتأرجحون في جذل وسرور.

تتذكر المعمرة أم احمد هذه الأيام وتقول "كان ممنوع على الصبايا الاختلاط بالشبان في ساحة العيد فخصصوا لنا قبوا واسعا عبارة عن مستودع بضائع وضعوا داخله أرجوحة كنا نتناوب على ركوبها بعيدا عن أعين الذكور".

أما أبو حبيب فكان يقضي نهار العيد وهو طفل بانتظار المنازلة "بين الشباب يتبارون فيما بينهم على ركوب الحسكة (وهي أرجوحة كبيرة وعالية) والتأرجح فيها بقوة لدرجة الدوران بها دورة كاملة (360 درجة) فينال من يفعل ذلك تصفيقنا وثناءنا."

مع الغزو الاسرائيلي للبنان صيف 1982 بدأ "بحر العيد" يصارع الزمن فقد بدأ يتآكل وتتقلص مساحته بفعل توسيع الطريق البحري وتعديات البناء غير المرخص حتى تحول اليوم إلى ما يشبه منطقة خربة مهملة.

فقد خفتت أهازيج مشغلي الأراجيح عاما إثر عام وصارت فرحة العيد تقتصر على عدد قليل جدا من الأراجيح و"الدويخات" العشوائية التي تعمل بالطاقة الكهربائية فوق أرض متربة وغير مستوية تفتقر إلى الاهتمام من قبل السلطة المحلية.

لكنه "بحر العيد" مازال خيارا إجباريا لمن ينشد الاحتفال ممن لا يقدرون على دفع تكاليف ارتياد مدن الملاهي الحديثة وصالات الألعاب الالكترونية الآخذة في الانتشار.

الخوف على هذا المعلم والخشية من محو الذاكرة الجمعية لأهل صيدا جعل "بحر العيد" يقتحم البرامج الانتخابية في الانتخابات البلدية الأخيرة.

يقول الناشط والمرشح الخاسر في الانتخابات البلدية فؤاد الصلح "ضمرت مساحة بحر العيد إلى 1388 مترا مربعا بعد أن كانت 5076 مترا مربعا تقريبا ممتدة من خان الإفرنج حتى مبنى نقابة الصيادين واقتطع جزء منها لتجميع نفايات أحياء صيدا القديمة". وطالب الصلح بسن تشريعات لتخصيصها حيزا للناس وإعادة تأهيلها.

أما الناشط السياسي عاطف الإبريق فيضع هذا التراجع في إطار "الإهمال المنظم من قبل الطامعين بوضع اليد على ما تبقى من واجهة صيدا البحرية لاستنساخ مشروع سوليدير البيروتية في صيدا وإقامة (بزنس) ذي ربحية عالية موجه لجمهور الأغنياء على حساب جمهور الفقراء".

اليوم خشية أهل صيدا من ذوي الدخل المحدود مزدوجة فهم يخشون خسارة جزء من ذاكرة جمعية تعيدهم إلى حنايا الزمن الجميل ويخشون أيضا فقدان آخر متنفس شعبي يفرغ فيه أبناءهم ما في صدورهم من فرح وما في جيوبهم من "عيديات" في ظل تكاثر مراكز الترفيه الخاصة التي تزيد تكلفتها بأضعاف مضاعفة عن كلفة الفرح في "بحر العيد".



أضف تعليق