العدد 5215 بتاريخ 16-12-2016م تسجيل الدخول


الرئيسيةثقافة
شارك:


الشاعر قاسم الوزير يبحر في أمسية فكر وشعر الإيمان الديني والهموم العربية والوطنية اليمنية

واشنطن - مركز الحوار العربي

 

اقام "مركز الحوار العربي" في العاصمة الأميركية يوم الأربعاء الماضي (14 ديسمبر/ كانون الأول 2016) أمسية فكر وشعر كان محورها الإيمان الديني والهموم العربية والوطنية اليمنية مع الكاتب والشاعر اليمني قاسم بن علي الوزير حول مضمون ديوانه الشعري الأخير: ثلاثية الشوق والحزن والإشراق.

وحول هذا الديوان الشعري، وعن الشاعر، كتب الدكتور عبد العزيز المقالح، رئيس جامعة صنعاء سابقاً، المقال التالي:

ينتمي الشاعر المفكر قاسم بن علي الوزير إلى أسرة عريقة من العلماء والشعراء والشهداء، ويضم في ديوانه الصادر أخيراً عن (دار المناهل 2011م) ثلاث مجموعات شعرية هي: "الشوق ياصنعاء" و"أزهار الأحزان" و"لم تشرق الشمس بعد".

وكان قاسم قد بدأ كتابة قصائده في أوائل خمسينيات القرن الماضي في السجن، وهو فتى في الرابعة عشرة من العمر، بعد أن اقتيد كل أفراد عائلته من الذكور شيوخاً وكهولاً وأطفالاً إلى السجن في اعقاب فشل الثورة الدستورية 1948م، وقد قُطِعتْ رؤوس بعض أفراد هذه العائلة وفي مقدمتهم والد الشاعر رئيس مجلس وزراء الثورة علي بن عبدالله الوزير. أما من نجا من أفراد العائلة فلم يسلم من عذاب السجن وترويعاته. حدث ذلك في تراجيديا بالغة المأساوية والقسوة قلّما تحدث إلاَّ نادراً وفي بعض العصور المظلمة. وفي السجن تبلورت موهبة الفتى الذي صار شاباً يقرأ كل ما يتسلل إلى السجن من كتب قديمة أو حديثة. وكانت لجبران خليل جبران، كما لمصطفى صادق الرافعي، مكانة خاصة لدى كثير من السجناء الذين وجدوا في أدب الأول ابعاد ثورة رومانسية تعكس أشجانهم وحنينهم إلى التغيير ومقاومة تكسير الأجنحة، كما وجدوا في أدب الثاني جنوحاً باذخاً نحو الحلم والخيال.

وأزعم أنني اقتربت بعد تلك السنوات الفاجعة- من تجربة سجناء 1948م، والتقيت بعضهم وأفدت من معارفهم العلمية والأدبية، وجمعتني بالشاعر قاسم الوزير صداقة عميقة قادت إلى لقاءات لا حصر لها بعد أن خرج من السجن، وتولى شؤون العائلة في صنعاء نيابة عمن تبقى من أشقائه الذين كانت قد استقبلَتهمْ المنافي. وفي فترة قصيرة أستطاع تكوين مكتبة صغيرة لكنها نوعية وعامرة بالأهم من عيون الأدب القديم والحديث كانت منهلاً سائغاً لعشاق الأدب وشُداته. ولا يمكن استيعاب تجربة هذا الشاعر المفكر دون أن يلم القارئ بتلك الملامح من حياته العاصفة التي جعلت منه شاعراً، وفتحت أمام مخيلته عوالم الإبداع، ودفعت به إلى الإنصات لصوت الشعر وهو يتموج في كل ما يحيط به من معالم الحياة وصور الناس والأشياء. ومن المهم أن أشير هنا إلى أن معظم ما كان يكتبه من شعر إن لم يكن كله يبقى مطوياً في صدره، أو في الأوراق، في انتظار الزمن الذي يسمح بالنشر، وهي مشكلة عانى منها كثير من مجايليه.

وفي هذا السياق، يبدو لي أن ما ورثناه نحن اليمنيين وما أكتسبناه أيضاً من المخزون الهائل من الأحزان والذكريات المؤلمة كفيل بأن يجعلنا نبدع أعظم الملاحم الشعرية، وأحياناً يبدو الحال على العكس من ذلك، حين يلفني شعور بالدهشة والغرابة وأنا أتساءل كيف استطاع الشعراء اليمنيون المعاصرون أن يكتبوا -في مناخ مغلق- شعراً ينتمي إلى هذا العصر ويواكب ما أبدعه أشقاؤهم في مشرق الوطن العربي ومغربه؟ فقد كان الإنسان في هذا البلد البائس، وفي أربعينيات القرن العشرين وخمسينياته خاصة، يعيش في أسوأ واقع يمكن لعقل إنسان معاصر أن يتخيله. ومع ذلك كان لليمن شعراء كبار تمكنوا من تحدي ظروفهم القاسية ومن أن يتغلبوا -وذلك هو الأهم- على انقطاع التواصل مع أشقائهم من مبدعي الوطن العربي. ولم يكن الشاعر قاسم الوزير سوى واحد من المبدعين الذين تحدّوا واقعهم الخاص والعام، واثبتوا وجودهم بجدارة في عالم الشعر العربي المعاصر.

ولا ريب أن المجموعات الشعرية الثلاث التي يضمها الديوان، الصادر في نهاية العام 2011م، تشكل انجازاً شعرياً جديراً بالاحتفاء، وبأن نستقبلها بفرح غامر بعد سنوات الانتظار الطويل الذي كاد يتلاشى بعد أن تحول اهتمام صاحبها إلى الكتابات الفكرية؛ يمنحها وقته، ويسعى إلى توسيع آفاقها لتتلاءم مع الواقع العربي والإنساني الراهن، وفي وقت يبدو فيه الشعر وقد تضاءل دوره حتى وهو يخوض -دون هوادة- معركته مع القضايا السياسية والاجتماعية التي تشابكت وتعقّدت وصارت واقعاً مفزعاً ومثيراً للقلق بعد عقود من الأمل والثورات والمحاولات الدؤوبة في اختراق جدار التخلف السميك لاختصار الطريق والعبور السريع نحو المستقبل بأقل قدر من التضحيات والخسائر. ومع ذلك يبقى للشعر حضوره الفاعل واقتداره المكين على فتح نوافذ الروح نحو آفاق أبعد مما تستطيع البندقية أن تفعله أو تراهن عليه:

البندقية لا الكتابْ..

باتت طريق الضاربين إلى الغد المجهول

في وحل التراب

الخوذة السوداء

تملي ما تشاء وعندها فصل الخطابْ

ولا سؤال ولا جواب.

والشعر؟

حتى الشعر يكتب بالحراب

وأنت من باب لباب

قد طال بحثك.. عمّ تبحث تحت أقدام الذئاب؟

من ذا سيقرأك الغداة..

ومن يدارسك الكتاب؟

إن الجريمة وحدها يا صاحبي بطل المدينة!

(ص 134)

في قراءة كهذه، محدودة المساحة والغاية، لا يمكن الوقوف على الملامح الدلالية والفنية في ديوان يضم أغلب المنجز الشعري للمفكر والشاعر قاسم بن علي الوزير. وكنت في بحث لي بعنوان "الشعر العربي الحديث بين التلقائية والتصنع"، وهو بحث مطول لم ينشر بعد على أمل أن يتطور إلى كتاب، قد ألمحت إلى تجربة شاعرنا بوصفه واحداً من الشعراء الذين وجدت أنهم يذهبون في كتابة الشعر مذهب التلقائية، فلا تشعر وأنت تقرأ قصيدة من قصائده في أي موضوع كان، بأنه يتكلف الصياغة أو التقاط المعنى، وإنما تراه ينساق مع سجيته مسترسلاً كالنهر الذي يجري في واد منبسط شديد الاستواء، أو كأنه يكتب، أو بمعنى آخر، ينقل شعره من ألواح مرسومة أمامه بوضوح خال من التعقيد والغموض. وهذا في رأي النقد الصحيح هو الشعر الحقيقي الذي يخلو مما كان يشكو منه القدماء، وما يزال يشكو منه المعاصرون تحت عيبيْ (التوعر والتعقيد)، وهذان العيبان لا يرافقان الشاعر الموهوب بل الشاعر المتصنع الذي يظل يكد ذهنه إلى أن يصل إلى ما يعدّه معنى طريفاً أو جملة مثيرة أو صورة بارعة. ومن الأمثلة التي اخترتها لشاعرنا في بحثي المشار إليه هذا المقطع من قصيدة حوارية طويلة تدور بين مواطن وطاغية:

وأنا يامولاي

أضحك منك ومن نفسي

أبكي منك على نفسي

أبكي منك عليك...

أعرف أنك لا تبصر إلاَّ نفسك

لا تعشق إلاَّ نفسك

كم أرجو أن تخرج منها مرة...

فتراها من خارجها

إذ ذّاك ستعرف عنها

ما يعرفه كل الناس!

(ص 474)

ولعل أبرز ما يميز شعر قاسم الوزير ذلك الحزن الشفيف العميق الذي يكسو قصائده الأقدم منها كتابة والأحدث، وفي المقدمة التي كتبها للديوان الدكتور راشد المبارك إشارة تقول: "أن أول ما يستوقف القارئ في قصائد الشاعر هو طابع الحزن الذي يسربله شعره لأنه إلى الحزن صار ومن الحزن انبعث" وكأن الدكتور المبارك تحاشى الحديث عن أسباب ذلك الحزن الذي يعود إلى ما تجرّعه الشاعر من مصاعب في طفولته وشبابه، وما عاناه من السجن والبعد عن الأهل والوطن، وكلها كافية لتجعل من شعره دموعاً تسيل على الورق بغزارة، وليس في ذلك عيب، بل العيب أن يكبت المبدع مشاعره ويكابد الصمت وهو القادر على البوح والإفضاء. ويمكن القول في هذا الصدد بأن قصائد الحزن في الشعر العربي هي أجمل ما ينطوي عليه هذا الشعر من أشجان المبدعين وتأوهاتهم، وما استوعبته حياتهم من وحشة الطريق ومكابدة الأحداث. إنه حزن يستحضر في صوره ومجازاته حزن الإنسان إينما كان وحيثما يكون، وليس حزناً ذاتياً مفرطاً في الذاتية، وإنما يختزن في تجربته الشفافة التجربة الإنسانية في خصوصيتها وعموميتها:

أحمل في قلبي أحزان جميع المحزونين

أطعم أشعاري منها

لكن.. لا أطعم منها الأشعار!

أشعاري؟

ما أتفه أن يحكي الإنسان

إذا كان خرير الأنهار

ورفيف الأشجار

وحديث الأزهار

ترنح أعطاف الليل

بتسابيح الأسحار

...........................

هذا زمن الطبل الأجوف

والقلب الأجوف

والعقل الأجوف

والشبق المهتاج إلى الدم.

(ص 246)

وواضح أن شاعرنا لم يشغل نفسه بالاصطفاف إلى تيار شعري معين، من التيارات التي استحدثتها التحولات الأخيرة في مجرى التطور، بل ترك موهبته على سجيتها تختار الشكل الذي تفرضه اللحظة الشعرية، فهو يكتب القصيدة البيتية (العمودية) كما يكتبها المجددون من أنصار هذا الشكل الشعري، ويكتب قصيدة التفعيلة على غرار ما يكتبها رواد هذا النوع من الكتابة التي تجمع بين الوزن والتحرر من السيطرة البيتية، وقد تسوقه موهبته إلى تجاوز هذين الشكلين غير معني بالاشتباك الذي يحدث بين أصحاب هذا الاتجاه أو ذاك، فالشعر عنده هو الشعر في أي شكل وفي أية بنية. وهذا مقطع من إحدى عمودياته:

كفكفِ الدمع ! ليس تُجدي الدموعُ  *** أبلغُ الحزنِ صمتُهُ المفجوعُ

الرزايا كأنها قطعُ الليل ؛ قطيعُ *** يمضــي ويأتـــــي قطيــــــــعُ  

تتوارى النُجوم مــا ضوأت منه *** هــزيعاً إلا طــواها هـــزيــعُ

يكتبُ الموتُ كل يوم من الشعر *** فنــــوناً تهمي أســـى وتَروعُ

بعضُ أوزانهِ النواحُ وبعــضٌ *** من قوافيهِ ، في القبورِ ضجيعُ

لسنا في هذه القصيدة وأمثالها أمام قوالب لغوية تتصيد المعاني والصور العابرة، بل نحن أمام نهر يتدفق وهو يعرف مجراه، ولا يغفل عما يشكّله جريانه المتدفق من جماليات اللغة والمعنى، ومن الصور اللمّاحة الشفيفة التي تأسر قلب قارئها وتحمله يرفق إلى حيث تريد ويريد، وفي شعر يعكس ثقافة تراثية باذخة، وثقافة حديثة ذات ملامسات إنسانية وفنية تنطلق من نسغ رومانسي شفاف وقدرات تخييلية لا تبتعد عن الواقع ومعاركه ومعاناته ورؤاه.

 

كما كتب د. راشد المبارك، أستاذ كيمياء الكم سابقاً بجامعة الملك سعود، كلمة عن الشعر والشاعر قاسم الوزير:

ليس ما يأتي في هذه السطور دراسة لشعر الشاعر ولا ترجمة لصاحبه فلذلك مقتضيات وأدوات لم أقصد إليها ، وإنما هي كلمة عن الشعر وانطباعات عن الشاعر أملتها معرفتي الطويلة به وأسرته وخلطة سعدت بها به وإخوته وفي مقدمتهم أخوه الجليل إبراهيم ذو التميز في عقله وفضله ومكانته ، ومثله أخوته الاجلاء ، وهي ليست تعريفاً به فهو علم في دائرة معارفه وآلافه وهي دائرة تمتد على أطراف الوطن العربي وتتسع لتشمل العالم الإسلامي وخارجه ، فالشاعر وأسرته ينحدرون من دوحة تضرب في أعماق تاريخنا بما يحويه نسيج هذا التاريخ من علم وثقافة و جهاد ، ومن يعرف قاسم ابن علي الوزير يعرف انه يصعب إن لم يتعذر أن يكتب عن شعره منفصلاً عن الحديث عن ذاته ذلك ان شعره مرآة صافية لذاته وانعكاس لهذه الصفات في خلالها و سجاياها ، وهي سجايا يمكن ان تلخص في ثلاث مفردات هي العطاء والصفاء والوفاء .

عن الشعر :

والشعر ألصق الخصائص الإنسانية بالإنسان

قد يبدو هذا القول غريباً من حيث كونه يجعل مما هو ألصق خصائص الإنسان ينفرد به بعضهم عن سواه .

الواقع يقول نعم

الإنسان يشترك مع سواه من الأحياء مما يأتي متخلفاً عنه تخلفاً بيناً في سٌلَّـم تصنيف الأحياء

النبات والحيوان يشتركان مع الإنسان في كثير من صفاته

كل من النبات والحيوان يتغذى ويتنفس ويتكاثر ويتحرك ويحس بل و ينفعل وكذلك الإنسان

الحيوان يشارك الإنسان في التفكير على درجة من درجات هذا النشاط مع منا شط الكائن الحي

لعل الشيء الوحيد الذي لم يظهر – حتى الآن – مشاركة غير الإنسان للإنسان فيه هو ( الطرب ) بجناحيه الحزن والفرح . 

ملامح الإنسان قد تبدي ما هو عليه من حزن أو فرح ، ولكن اللغة أقوى وسائل التعبير عنهما .

اللغة ألصق الأشياء بكينونة الإنسان من حيث كونه مخلوقاً اجتماعياً ، لولا اللغة لما كان للإنسان علم ولا فن ولا أدب ، بل لم يكن له تاريخ .

الشعر أنغام اللغة مصوغة في كلمات وهو المنفذ الأقوى و الافعل تعبيراً عن ( الطرب ) ودفعاً إليه .

لو اطردت الطبيعة البشرية لكان الشعر لازمة من لوازم الإنسان و كانت مفردة ( إنسان ) تعبيراً مرادفاً لمفردة ( شاعر )

لو اتفق البشر في طباعهم لكان الشعر الواحة التى يستظل فيها كل فرد عن وهج الشمس ويستريح فيها من عناء السفر ويستروح منها أنفاس الشجر .

من الصحيح أن القدرة الشعرية – مهما علت – ليست مقياساً وحيداً للعبقرية والتفوق ، ولو كان الأمر كذلك لما وجدنا نماذج من النبوغ والتفوق لا يربطها بالشعر رباط .

على أنه من المؤكد أن الإبداع في الشعر أكثر أنواع النبوغ قرباً إلى القلوب

إذا كان القادرون على إجادة الشعر قلة من الناس فإن نسبة كبيرة منهم تُصغي إليه وتنفعل به وتجد فيه أبهج نشواتها لما سبق من أسباب .

مما يميز النص الشعري في وقعه على النفس وتأثيره فيها ما يحمله من موسيقى بما يضعه الوزن والقافية من إيقاع .

تجريد الشعر من الوزن والقافية ، أي تجريده من إيقاعه سلب لأهم عناصر مقوماته وعناصر جماله.

في عالم المادة توجد مقاييس كمية تتعلق بالموضوع ولا صلة لها بالذات التي تقوم بالتقويم أو القياس أو إظهار الصحة والخطأ عن طريق الانشقاق الرياضي ، هذه الوسائل تحدد وتكشف طبيعة الموضوع ، ومقدار التوصيل الكهربي والحراري لمعدن ودرجة غليان وتجمد مادة والنشاط الإشعاعي لعنصر مشع وعمر النصف له أمور تبين عنها التجربة ولا صلة لها بالمجرب .

في تقويم الشعر وتمييز جيده من رديئه لا توجد مثل هذه المقاييس في دقتها وصرامتها إذ هي علاقة تفاعل بين المرسل والمستقبل .

ما يذكره النقاد الأقدمون والمحدثون من المحسنات البديعية و ديباجة اللفظ واثر الصورة الشعرية وغرابة المعنى أو جدته أو طرافته ، وكذا الموسيقى الداخلية التي يضعها النسب بين الكلمات وما للغموض والرمزية من قيمة لدى بعض النقاد أمر له مكانته عند النظر إلى النص الشعري علماً انه – مع ذلك – أمر مختلف في تأثيره ووقعه وبالتالي تقدير أثره باختلاف المتلقين لذلك النص. 

على انه يبقى قبل ذلك وبعده حد مشترك بين الناس متى توافر في النص الشعري أمكن تصنيفه وهذا ما جعلهم يصلون إلى إجماع أو شبه إجماع في وضع الشعراء في مراتبهم .

عن شعر الشاعر :

لعل أول ما يستوقف القارئ لشعر الأستاذ قاسم هو طابع الحزن الذي يسربله لأنه إلى الحزن صار ومن الحزن انبعث ولا نجد ذلك غريباً من شخص مثل المتحدث عنه ذلك انه إذا كان الشعر هو الصق بطبع شاعر وأقوى العوامل المشعلة لمشاعره وأكثر ما يلح الحزن ويفيض عندما يرزأ المرء بفقد حبيب أو الثكل في قريب أو انهيار مجد وتضعضع تاريخ ، ولان شاعرنا محب ومحبوب اتسعت دائرة خلصائه ومحبيه واتسعت – تبعاً لذلك – دائرة فقده جاء أكثر شعره قصائد رثاء أو إشارة لتاريخ قد شاخ واتسع ذلك باتساع دائرة هذين الباعثين ، لقد عشق تاريخه فأشجاه وأبكاه و أحب آلافه في حياتهم ووفي لهم بعد مماتهم ، غابوا عن ناظره واحتفظ به ذكرى لا تغيب عن مشاعره ، يشعر بذلك شعوراً عميقاً حتى ليجعل هذا الشعور الحزين بعض مواهبه

حزين ... نعم الحزن بعض مواهبي *** فلا تسألي عني سلي عن مصائبي

تجــرعتهـا طفـلاً صغيـراً ويـافـعـــاً  *** وكهـلاً لقـد اتعـبت حتــى متـاعبــي           

وتجرعه المصائب في طفولته وشبابه ليس حديث استعارة أو كناية ، بل واقع و ممارسة ، لقد عرف السجن وهو لم يتجاوز العاشرة من عمره وعرف البعد عن الأهل والوطن ولا يزال أكثر سنىِّ عمره ، عرفته الحركة ولم يعرفه الاستقرار ، وصرفه الترحال ولم ينعم بهدوء بال

ومع ما تقدم فقد تميز شعر الأستاذ قاسم بميزات عديدة لعل أبرزها التالي 

الأول :

تميز في الرثاء بحيث يمكن أن بعد هو وبدوي الجبل – رحمه الله – شاعري الرثاء في ديوان الشعر العربي لما يتميز به رثاء كل منهما بكونه شجي الجرس ، صادق النبرة متوهج الاتياع .

الثاني :

قدرة ظاهرة على توظيف المفردات توظيفاً جديداً وفريداً لتؤدي وظيفتها أقوى أدى وكأنه جعل مفردات لغته تمر من خلال غربال يختار لكل غرض ما يلائمه من المفردات .

الثالث :

ابتكار لمعاني أجاده وبرز فيه .

الرابع :

تأمل فلسفي واستنباط لم يفطن إليه كثيرون

الخامس :

كلف بوطنه ووله إليه وحنين لا ينطفئ إلى ما يذكره به من صبابات ولبانات وهو وله تتمنى والهة أن تصوغه رسائل إلى حبيبها .

الميزة الأولى :

كثير في ديوانه، مثل قوله :

حزين ... نعم الحزن بعض مواهبي *** فلا تسألي عني سلي عن مصائبي

تجــرعتهـا طفـلاً صغيـراً ويـافـعـــاً  *** وكهـلاً لقـد اتعـبت حتــى متـاعبــي

بــكيت الرفــاق الــذاهبين فــلم أدع  *** دمــوعـاً لعيـن أو وجيـــباً لـــنادب   

وقوله :

يكتــب المـوت كـل يـوم مــن الشعر *** فــنونـــاً تهــمي اســى وتــــــروع         

بعـض أوزانــه الــنــــواح وبـعــض *** مـــن قــوافيه فــي القبور ضجيــع

مـا وضعنا يـداً علــى الجــــــرح إلا *** ســال جـــرح عـــلى الشفــاء منيع

كـــــــــل يـــوم مـــــــودع لحــــبيب *** بعض نفسي يمضي وبعض جزوع

بكاء الرفاق الراحلين بكاء لا يدع دموعاً لعين أو وجيباً لنادي وثيقة لا تدحض على مدى الإحساس ببلاغة الجرح وعمق المصاب ، ولا يخفى ما في البيتين الأوليين من معنى مبتكر عن نوع الشعر الذي يجيده الموت ، أما البيت الرابع فهو تكثيف للحزن شديد يذكر بقول الأول :

دفنت بنفسي بعض نفسـي فأصبحت *** لنفســـي مــنهـــا دافـــن ودفــــيــن

الميزة الثانية :

شائعة في شعره كشيوع الأولى وهي القدرة على توظيف المفردات توظيفاً جديداً ومن ذلك قوله :

العــاكفون علــى السلاح عبـــــادة  *** الـــراكعــون علــى الجهـاد السجــد

القـــارئون المــــوت رتــل بعضــه  *** نــــاج وجــــود بعضـــه مستشهـــد

الثابتــون علـــى العتـــاق كـــأنهــا *** فــي بـــدر تــرتجل الحتـوف وتنشد

أحسب أن مثل هذا الشعر نمط أن يرقى إليه شاعر ، والاعتكاف والسجود على الجهاد والسلاح نوع من العبادة فريد ، كما أن قراءة الموت وترتيله – جهاداً – إسباغ للقداسة على الجهاد لا اعرف ان شاعراً قبله تحدث عنه .

الميزة الثالثة :

ابتكار المعنى ، وديوانه روض تورق فيه المعاني المبتكرة وتزهر ومن ذلك الأبيات السابقة في وصفه للجهاد ، ولمعاني المبتكرة التي مرت في هذا المعنى موهبة لا توجد إلا في قلة ممن يقول الشعر فيحسنه ، واعتبار صليل السيوف صلاة ومواضع الجراح مساجد أمر لا يعرفه إلا قلة من القائمين والصائمين والركع السجود ، على أنه قوله :

بعض دمعي مزن وينبت منه  *** في حقول الأحزان وشي الورود

  صورة شعرية تستدعي إلى سرادق الحزن مفاتن الجمال ، وكأن الشاعر يريد أن يكشف من ظلام الحدث ما تراكم من أحزان .

الميزة الرابعة :

وهي التأمل الفلسفي واستنباط معاني لم يفطن إليها الكثيرون فمن ذلك قوله :

يجادل فيك الموت معنى حدوثه  *** وفيك رأى معنى الخلود المصاحب

فهذا البيت زفرة أسى واحتجاج إشارة إلى مالا يفهم من الحكمة والغايات وهي زفرة لا يجد المرء ملاذاً عنها إلا في الإيمان بالغيب مما لا تزاح عنه الستور ، ومن المؤكد أن من الافراد ما يكون خلوده في رحيله ومن يكون ذكره نبات تتعاقب على سقيه وإحيائه القرون .

الميزة الخامسة :

وهي الحنين إلى ماضي لم يبق من مجده إلا تذكره وبناء لم تبق من مقاصيره إلا أطلال ، وهو حنين يملأ عليه جوانح نفسه يسامره في يقظته ويساهره عند هجعته .

الـــخيــــول المـــــطهمــات ســبايـــا *** فـــذليـــل بـــذلـهـــا المهرجان

والسيوف التي استضاء بها التاريخ *** أزرى بهــا الـــوريث الجبـــان

أين مني الأقصـــى ويبكي المصلون *** فنعــــــي عنـــــد الأذان الأذان

الذي يقرأ هذا الشعر يسمع منه قعقعة اللجم وصليل السيوف وبكاء المصلين ، وهذه الأبيات تستدعي رائعة شوقي ( قم ناج جلق و انشد رسم من بانوا ) والتي قال فيها عن دمشق إبان الاحتلال الفرنسي لها .

وقفـــت بالمسجــد المحزون اسألــــه *** هلي في المصلى أو المحراب مروان

فاستعجم المسجد المحزون واختلفت *** علـــى المنــابـــــر أحـــــرار وعبدان

فــــلا الأذان أذان فـــــي منــــــــارته *** إذا تـــــــعـــــالـــــــى ولا الأذان أذان

الأسى فإنه هذه الأبيات مع سابقتها في الدواعي والمعنى وشحنة الأسى فإنه من الواضح أن نبرة الأسى أشد حدة في أبيات الأستاذ قاسم إذ أن أشد وقع المأساة أثراً حالة يكون فيه الأذان نعياً .

الميزة السادسة :

ظمأ لا يرتوي الى مرابع لهوه ومراتع صباه ووله إلى سماره و إلى صبواته ونشواته وقد صاغ ذلك في كثير من شعره وأبدعه رائعته في صنعاء التى جاءت من عيون الشعر في ديوان الشعر العربي ، والصورة التى نسجها تجعل قارئها يتسأل أذلك واقع معاش أم منى متخيلة ، وسواء كان هذا أو ذاك فقد أتحف الشاعر قارئه بأنضر اللوحات تموج بالصور والألوان وأنظر ما تجود به الحياة من نشوات.

صنعاء هل في الندي السمح أسمار *** كما مضى من ليالينا وسمار

وهل رخي العشايا مثل عادتها *** شعر وأشواق عشاق وأسرار

تفدي الحسان الجميلات التي التحفت *** بمئزر الليل أرواح و أبصار

صنعاء أغفت على الأزمان فتنتها *** فدونها من وراء السور أسوار 

إذا مشيت على حصبائها همست *** شعراً وباح بسر الشوق قيثار

تندى الأصائل من شعر ومن طرب *** وتنتشي برحيق الذكر سمار

ينساب كالبرء من علي مآذنها *** في هدءة الليل تسبيح وأذكار

يمضي الشاعر مكملاً قصيدته التي تبلغ الخمسين أو نحوها من الأبيات وكلها مما يسميه القدامى الديباج الكسرواني ، يجد القارئ فيها تلك النسمات الرخية من رياض البحتري وصياغات بدوي الجبل وقدرته على استدعاء جواهر من مفردات اللغة تكون بانتظامها عقداُ فريداً لا تملك عقود اللؤلؤ نضارته ، فجمع الندي السمح ورخي العشايا والشعر والعشاق والأشواق والسمار والأسرار في بيتين من الشعر منظومة نظماً فريداً في عقد جميل يشعرك بالنسب بين هذه المفردات بمعنى أن كل واحدة تستدعي قرينتها بحيث لو أردت أن تحذف أي مفردة لتضع مكانها سواها لذهبت من العقد نضارته ، وأحسب أن القارئ سيشعر من قرأة هذه الأبيات بما تشعره به لمسات النسيم وأنفاس الشجر ، أما اختياره لمئزر الليل غطاءاً لحسانه كناية عن التخفي فهو تناول لذلك المعنى من ذوق شاعر مرهف ، ولعل ربة العشق والغزل تلك الأموية من سلالة الخلفاء فقد كانت أكثر وضوحاً وربما جرأة من حسان الشاعر

وقد سبقتهم بأكثر من تسعة قرون عندما كتبت لابن زيدون تقول

ترقـــب إذا جـن الظـــلام زيارتــي *** فانـــي رأيت الليل أكــــــتم للسر

وبي منك مالو كان بالنهر ما جرى *** وبالبدر لم يطلع وبالنجم لم يسر

أما قوله :

إذا مشـيت على حصـبائها همســــت *** شعراً وباح بسر الشوق قيثار

يجعلني لا أخال مدينة أخرى لا تتمنى أن تكون صنعاء ليقال فيها ذلك الغزل أرسله ناسك من محراب عشقه ، أما قوله :

ينسـاب كالبــرء مــن علي مـــآذنها *** في هـــدءة الليل تسبيح وأذكار

فهو يستدعي إلى الذهن قول أبي نواس

وتمشــــت فـــي مفاصـــــلهم     *** كتمشي البرء فـــي السقم

على اختلاف في الغرض والموضوع .

في هذا البيت يلاحظ القارئ أن الشاعر لجأ إلى الإضمار قبل الإظهار، إذ جعل التسبيح والأذكار فاعلاً للفعل ينساب ولم يجعله حالاً منصوباً ولا ضير في ذلك .

وبعد فقد سبق لي أن قلت في حديث لي عن المتنبي أن الأدب العربي خسر مرتين ، مرة حين لم يعشق المتنبي عشقاً يملأ عليه أقطار نفسه وترك هذه النفس محبوسة على ( أطراف القنا ) كما خسر الأدب مرة أخرى إذ لم يتعرض شوقي لصروف وظروف تستثير أحزانه ، وظني أنه لو تعرض شاعرنا للواعج العشاق و لوافح الهجر ونسمات الوصال لجاء في ذلك بما يوقظ الغافي من الأشواق ، ولعل ذلك يفسر أن ما جاء من شعره متعلقاً بالغزل هو أقرب إلى الصنعة منه إلى اللوعة وإلى المحاكاة منه إلى المعاناة ، ومع ذلك يبقى قاسم بن علي الوزير شاعر المعنى المعجب والسبك المطرب الناقد لشعره مشترطاً له لا مشترطاُ عليه في مقاصده وغاياته ، واعتقادي انه ظلم عشاق الشعر ومتذوقيه عندما حجب أو حبس عنهم مدة طويلة هذا النبع الرقراق .

 



أضف تعليق