العدد 216 بتاريخ 09-04-2003م تسجيل الدخول


الرئيسيةالحرب
شارك:


الأكاذيب الأميركية لتبرير الهجوم على الصحافيين

بغداد - روبرت فيسك

قتل الاميركيون أمس الأول الثلثاء أولا مراسل قناة «الجزيرة» وجرحوا مصورها. ثم بعد اربع ساعات قاموا بمهاجمة مكتب رويترز في بغداد، وقتلوا مصوره (أب لطفل عمره ثمان سنوات) وجرح أربعة موظفين آخرين إلى جانب مصور القناة الخامسة الاسبانية.

هل سنصدق ان هذه حادثة عرضية؟ أو أن الكلمة الحقة لوصف هذه الاغتيالات - الاول نفذته طائرة حربية، أما الثاني فنفذته دبابة ابرامز إم أيه - هي القتل العمد؟

هؤلاء بالطبع، ليسوا أول صحافيين يموتون في هذا الغزو الانجلو - اميركي للعراق. فقد قتل مراسل «آي تي في»، تيري ليويد في جنوب العراق على يد القوات الاميركية التي شبهت سيارته بمركبة عراقية، ومازال فريقه مفقودا. ومايكل كلي مراسل «واشنطن بوست» اغرق في قنال على وجه مأسوي. وقتل صحافيان في كردستان. وقتل ايضا صحافيان - الماني واسباني - يوم الاثنين الماضي في قاعدة اميركية في بغداد بالاضافة إلى أميركيين عندما تفجر صاروخ عراقي وسطهم.

ولا ننسى هنا المدنيين العراقيين الذين يقتلون ويجرحون بالمئات - والذين ليسوا مثل ضيوفهم الصحافيين - لا يمكن ان يغادروا هذه الحرب ويتركوا اعمالهم.

اذا حقائق الامس تتحدث عن نفسها. لسوء الطالع، يبدو ما قام به الاميركيون نوعا من القتل العمد الحقيقي. فقد هاجمت الطائرة الاميركية مطلقة صاروخا مدمرا على مكتب قناة «الجزيرة» في فندق فلسطين على شاطئ نهر دجلة في الساعة 7,45 صباحا بالتوقيت المحلي. كان الضحية مراسل «الجزيرة» الاساسي في بغداد، الاردني - الفلسطيني، طارق أيوب. كان في سقف البناية ومعه مصوره الثاني، العراقي، زهير كانا يغطيان معركة بالقرب من مكتبهما بين القوات الاميركية والعراقية. وعندما نادى زميل أيوب، ماهر عبدالله عليه لمعرفة مكانه، رأى الفقيد ومصوره صاروخا منطلقا من طائرة كأنه مصوب في اتجاه المبنى الذي كانا فيه، والذي يقع على مقربة من جسر الجمهورية وقد احتلته للتو دبابتان اميركيتان.

قال زميل ايوب، ماهر عبدالله: «كانت المعركة التي نقوم بتغطيتها على الشاشة، وشاهدنا القذيفة وهي تنطلق من المدرعات ثم سمعنا صوت طائرة». واضاف «كانت الطائرة على مستوى منخفض إلى درجة اننا في الطابق السفلي ظننا انها ستهبط على السقف... ثم سمعنا صوت إطلاق الصاروخ من الطائرة... كان هجوما مباشرا... انفجر الصاروخ بالفعل إلى جانب المولد الكهربائي لدينا. وقد مات طارق حالا. اما المصور زهير فقد جرح».

الآن هناك مشكلات اميركية في تفسير هذه الحادثة المأسوية. في العام 2001، اطلقت الولايات المتحدة صاروخ كروز على مكتب «الجزيرة» في كابول، والذي تبث منه اشرطة اسامة بن لادن إلى جميع انحاء العالم. لم يقدم تفسير أبدا لذلك الهجوم الليلي الغريب قبل «تحرير» مدينة كابول، ولم يصب المراسل، تيسير علوني، جراء الهجوم. وفي توافق غريب، كان علوني في مكتب بغداد امس ليشهد الهجوم الاميركي الثاني على «الجزيرة».

وكانت الجزيرة - شبكة التلفزة العربية الاكثر تحررا والتي اثارت حفيظة كل من الاميركيين والسلطات العراقية لتغطيتها المباشرة للحرب - قد أخبرت البنتاغون بمراسليها في مكتب بغداد قبل شهرين وتلقت تأكيدات أن مكتب العراق لن تتم مهاجمته. وخلال 24 ساعة من تلك التأكيدات اطلق الاميركيون صاروخهم على مكتب «الجزيرة» في بغداد.

وجاء الهجوم الثاني - على رويترز - قبل منتصف النهار عندما وجهت دبابة ابرامز على جسر الجمهورية فجأة ماسورتها نحو فندق فلسطين حيث يتواجد اكثر من 200 صحافي اجنبي لتغطية الحرب من الجانب العراقي. ولاحظ مراسل «سكاي تي في» ديفيد جاتر تحرك الدبابة الاميركية. كما كان لدى القناة الثالثة الفرنسية طاقم مراسلين في غرفة مجاورة قاموا بتصوير الدبابة الاميركية من الجسر. ويظهر شريط الفيديو النيران تنطلق من ماسورة الدبابة واثر الضربة على الصحافيين. فقد وقعت قذيفة وسط مراسلي رويترز في مكتبهم في الدور الخامس عشر. إذ اصابت المصور الاوكراني شاشا بروتسجوك - الذي كان يصور الدبابات الاميركية - وجرحت بول باسكال جرحا بليغا ، وايضا صحافيين آخرين من بينهم مراسلة رويترز اللبنانية - الفلسطينية الجنسية، سامية نكول.

في الدور الآخر، أصيب مصور القناة الاسبانية الخامسة، جوس كوزو، اصابة بليغة. وتوفي بروتسجوك بعد ذلك بقليل.

ورد الاميركيون بما يشبه العذر الأكبر من الذنب، إذ يثبت الدليل كذبهم. فقد اعلن قائد الكتيبة الثالثة مشاة الاميركية الجنرال بوفورد بلوانت - والذي كانت دباباته في الجسر - أن مدرعاته تعرضت لنيران صاروخية ومدافع رشاشة من قناصة في فندق فلسطين، وقال ان دبابته المعنية اطلقت قذيفة واحدة ومن ثم توقفت عن اطلاق النار.

إلا ان تصريح الجنرال كان كذبا محضا. كنت اقود سيارتي على الطريق بين الدبابات الاميركية والفندق في اللحظة التي اطلقت فيها القذيفة ولم تكن هناك نيران مضادة، كما ان شريط الفيديو الفرنسي صور الهجوم لمدة اربع دقائق وسجل صمتا كاملا قبل ان تطلق قذيفة الدبابة. ولم يكن هناك قناصة في المبنى.

وفي الواقع، يراقب عشرات الصحافيين والمصورين الذين يقطنون هنا - وانا من بينهم - كالصقور للتأكد من انه لا يوجد مسلحون يستخدمون الفندق قاعدة لاطلاق نيران أسلحتهم.

وكان هذا الجنرال المعتدي، بوفورد، يفتخر قبل شهر أن قواته ربما تستخدم ذخائر يورانيوم مستنفد - من النوع الذي يعتقد كثيرون انها مسئولة عن حوادث مرض السرطان بعد حرب الخليج في العام 1991- بواسطة الدبابات. ولكن ان يقول الجنرال، بوفورد، إن طاقم مراسلي ومصوري رويترز كانوا متورطين بطريقة أو أخرى في اطلاق النار على الاميركيين، فإن ذلك يحول تصريحه إلى افتراء محض.

مرة أخرى، يجب ان نتذكر ان مقتل اثنين وجرح ستة من الصحافيين لا يمثل مذبحة للاميركيين، فماذا عن إبادة مئات المدنيين على ايدي قوات الغزو. وانه من الحقائق التي يجب تذكرها ايضا ان النظام العراقي قتل قليلا من صحافييه خلال السنوات الماضية إلى جانب قتل عشرات الآلاف من مواطنيه. ولكن شيئا غريبا وخطيرا ظهر في تصريحات بوفورد اذ كانت شبيهة بالتبريرات الاسرائيلية بعد ان يقوم الاسرائيليون بقتل الابرياء.

اذا هل هناك رسالة يمكن ان نتعلمها نحن الصحافيين من كل ما يحدث؟ هل هناك بعض العناصر في الجيش الاميركي يكرهون وسائل الاعلام ويريدون اخراج الصحافيين الموجودين في بغداد، أو يريدون ايذاء اولئك الذين ادعى وزير الداخلية البريطاني، ديفيد بلنكت أنهم يعملون «خلف صفوف العدو»؟ هل تحول هذا الادعاء - أن الصحافيين الدوليين يعملون مع عدو الوزير بلنكت - إلى قرار بالاعدام؟

انني أعرف الشهيد طارق ايوب شخصيا. فقد اجرى معي مقابلة مباشرة عبر مركز قناة الجزيرة في الدوحة في السقف نفسه الذي لقي فيه حتفه. اخبرته في ذلك اللقاء كيف انه من السهل استهداف مكتبهم من جانب الاميركيين الذين لا يحبذون تغطيتهم للحرب، التي تتم مشاهدتها في جميع انحاء العالم العربي، والتي تظهر الضحايا المدنيين للغارات الانجلو - اميركية.

كان مصور رويترز شاشا بروتسجوك في احيان كثيرة يشاركني استخدام مصعد فندق فلسطين البطيء، اما سامية (42 عاما) فقد كانت زميلتي منذ الحرب الاهلية اللبنانية 1975 - 1990. فهي متزوجة من مراسل «فايننشال تايمز» ديفيد غاردنر. كانت ترقد أمس بعد الظهر وسط الدماء في مستشفى بغداد.

ويتجرأ الجنرال بوفورد ليثبت ان المرأة البريئة وزملاءها الجسورين كانوا قناصة. أتعجب... ماذا يخبرنا هذا عن الحرب في العراق؟


من يوميات الحياة في بغداد

اعتقد ان هذه هي آخر ايام بغداد في عهد صدام. كانت هوليوود في الخمسينات تنتج افلاما يلي كل مشهد تاريخي فيها عرض مفاجئ لصحيفة فنية ذات خطوط عريضة ملائمة. فصور جنود المارينز وهم يخوضون شواطئ المحيط الأطلسي يتبعها خط عريض في صحيفة يقرأ «العودة إلى بيتان» أو «ماك ارشور يعود».

عندما شاهدت المارينز لاول وهلة امس بينما كانوا يقفزون من ناقلات الجند التابعة لهم ورموا أنفسهم في الرمال والغبار - في تلك اللحظة كان جنود عراقيون يفرون بارواحهم - اثار ذلك مجموعة من الخطوط العريضة في مخيلتي مثل «وداعا مياه بابل...» وهي تنطبق على حال العراقيين، ولكن الموقع الجغرافي للحادثة كان يبعد نحو 80 ميلا عن بابل. وكان من الطبيعي ان يعتبر غالبية العراقيين ان هذه آخر الايام لفهم سقوط الحضارة الوحشي على يد الغزاة. كان هناك مسئول عراقي أعرفه منذ سنوات طويلة بولائه وشعاره وحماسه لحزب البعث ولكن فجأة قال لي امس ان «مستجدات سلبية» ربما ستحل حالا في بغداد.

ثم كانت هناك صور شريط فيديو غير عادي لصدام وهو يحتضن مليشيا حزب البعث في شوارع بغداد الجمعة الماضية. وليس بحاجة إلى القول، ان مروجي الدعاية السوداء في البنتاغون بدأوا في التشكيك في تلك الصور كالعادة. وقالوا انه شبيه صدام، انه تصوير تم منذ اسابيع مضت.

ولكن كل المشاهد كانت حقيقية... لقد التقيت عراقيين شاهدوا صدام يوم الجمعة الماضي بأم اعينهم - بشامته في خده الايسر - والاحياء التي زارها تعرف عليها بسهولة، للقراء الذين يعرفون المدينة، فان صدام استعرض نفسه في احياء الآدمية والصادفية والمنصور وحيفا والاسكان.

كان الرجل اكثر اطلاعا وادبا من الديكتاتوريين الاوروبيين، إذ اعتاد على اصدار رسائله اليومية للشعب العراقي. وفي آخر خطاب، اعتذر صدام لنفسه من جعل بغداد حجر الزاوية في الدفاعات العراقية، مشيرا إلى انه فعل ذلك فقط لان بغداد تمثل «القلب المقدس» للدولة - وليس بالطبع لانه موجود فيها.

وفي خطاب آخر اكثر تنميقا، آثر صدام ان يكتب رسالة طويلة إلى جلال طالباني، الزعيم الكردي الذي يتعاون الآن مع اعداء النظام العراقي الاميركيين. واشار في رسالته التي نشرت بعد اربعة ايام عندما اصبحت القوات الاميركية على ابواب بغداد «منذ وقت بعيد كنا نراقب هذا التقارب بينك والولايات المتحدة، والصهيونية وآخرين. قلت لنفسي فقط ان جلال - المشهور بمناوراته السياسية والتكتيكية - يعتقد انه من مصلحته القيام بهذه الامور. وانه مألوف لدينا - إذ نعرف شخصية جلال جيدا - ومن واجبي ان الفت انتباهك إلى انه اذا استمريت في طريقتك هذه بالتعاون مع اميركا وفتح جبهة في شمال العراق فان ذلك يقلص من الخسائر لدى الاميركيين، وسيؤدي ذلك إلى كارثة». ومع ذلك، اسجل هنا ان صدام ليس الوحيد الذي يبدي شعورا قاتما بالذل في هذه الساعات العصيبة. فقد اوردت صحيفة «القادسية» في ما يبدو انه آخر اعدادها قصة من النجف عن المرحومة ام علي، المرأة العجوز في المدينة التي كانت في نعشها في سيارة تتجه بها إلى المقبرة عندما هاجمتها القوات الجوية الاميركية ودمرت السيارة وبقايا المرأة المحمولة فيها. وقد اوردت القادسية عنوانا لخبرها يشير إلى ان «ام علي استشهدت مرتين». كما شهدت الايام الاخيرة هذه معركة «فتاوي» بين البنتاغون والحكومة العراقية التي حاولت تفسير الدفاع المقدس عن الارض. كما ادعت الولايات المتحدة مثلا ان آية الله السيستاني ناشد طائفة المسلمين الشيعة الا يقاتلوا ضد الغزو الاميركي - البريطاني. وقد نفى مكتب الشيخ السيستاني ان يكون قد افتى بذلك. كما افتى علماء آخرون بضرورة المقاتلة والجهاد ضد الاميركيين الشريرين من بينهم الشيخ عبدالكريم المدرس والشيخ سيدحسين سيداسماعيل الصدر، ونعرف ان هؤلاء كانوا لا يخشون الزعيم العظيم طوال حياتهم.

في هذه الاثناء توفر للفلسطينيين - الذين يجدون دائما علاقة حميمة بين الغزو الاميركي للعراق واحتلال شارون لمواطنيهم في الضفة الغربية وقطاع غزة - اخيرا دليلا ماديا بين اميركا و«إسرائيل». قبل أربعة ايام أسقطت طائرة اميركية عمدا مجموعة من القنابل على ضاحية صغيرة في بغداد تسمى «البلدية» يقطن فيها نحو 10,000 مدني فلسطيني، غالبيتهم ناجون او احفاد لاولئك الذين فروا من فلسطين في العام 1948.

وبالطبع، انهم الفلسطينيون الذين يدفعون الثمن إذ لم يجدوا كبير عناء في فهم الرسالة. قال طاهر المهدي الذي جاءت اسرته منذ 55 عاما «يقتل شارون اهلنا في فلسطين وكذلك يحاول جورج بوش مساعدته بقتلنا هنا». واضاف «هل تعتقد اننا لا نعرف ماذا يعني هذا؟ جرح الاميركيون منا سبعة اشخاص هنا بالطريقة نفسها التي يقتل ويجرح بها اهلنا الاسرائيليون. شكرا بوش، لقد فهمنا الرسالة».

خدمة الإندبندنت - خاص بـ «الوسط



أضف تعليق