العدد 1565 بتاريخ 18-12-2006م تسجيل الدخول


الرئيسيةالعلامة الشيخ عبدالأمير الجمري
شارك:


الشيخ عبدالأمير الجمري يروي حكاياته الأولى

أعده للنشر - عادل مرزوق

للراحل الكبير كلمات خطها بيديه عن طفولته وبداية نشأته، أحببنا عرضها كما كتبها الراحل الكبير مع بعض التصرف لضرورات النشر الصحافي. وإذ ننشر للراحل الكبير هذه التفاصيل عن حياته كنا نتمنى لو تمكن فقيدنا من كتابة باقي مراحل حياته، والتي تعتبر صفحة ناصعة من صفحات البحرين.

يقول الراحل الكبير:« والدي هو منصور بن الحاج محمد بن عبدالرسول بن محمد بن حسين بن إبراهيم بن مكي بن الشيخ سليمان الجمري البحراني، وتعرف أسرتنا بآل الشيخ سليمان، وبآل محمد. وبلحاظ انشطار الأسرة إلى شطرين من ولدي إبراهيم بن مكي المذكور وهما حسين المذكور وأخوه. عرف شطر منها بآل عبدالرسول، والشطر الآخر بآل إبراهيم.

وهذا التسلسل النّسبي تلقّيته وتلقّاه غيري من أبناء الأسرة من العم الخطيب الجليل المغفور له ملا عطية بن علي الجمري باعتباره أبرز شيوخ الأسرة، وهو بدوره تلقّى هذا التسلسل النّسبي من كبار الأسرة الذين أدركهم. ولدينا شجرة الأسرة كتبت بقلمه رحمه الله تعالى، وقد قدّمتُ لها بمقدمة تتحدث عن موقف الإسلام من النسب وفوائد معرفته، وأضفتُ إليها من لم يُدوّنه من أفراد الأسرة أما لغفلةٍ منه، أو لأنّه توفي قبل ولادتهم، وقد قام بطبعها طبعاً أنيقاً معتبراً ابن العم الحاج محمد بن ملا جعفر بن محمد بن محسن بن عبدالرسول حفظه الله تعالى.

مولدي ونشأتي

ولدتُ في القرية المعروفة بـ «بني جمرة»، وهي قرية آبائي وأجدادي، وفي الأصل هذا الاسم «بني جمرة» يعني قبيلة تنحدر من قبيلة (مضر) في قول، ومن قبيلة (نمير) في قول آخر، وكلا القولين يذكرهما صاحب كتاب: (سبائك الذهب في معرفة قبائل العرب)، ثم صار يطلق الاسم على المحلّة التي تسكنها هذه القبيلة. وكانت الولادة - بحسب إفادة الوالدة طيبة بنت حسن سلمان قبل الفجر بساعة تقريباً في ليلة الجمعة 28 ذي الحجة سنة 1356 للهجرة النبوية، 1937م، وقد نظمتُ هذا التاريخ في أبيات من الشعر بعد أن صرتُ أنظم الشعر تحت عنون(مولدي)، وهي كالآتي:

كان قبل العاشر صاح بيومين

كذا كان قولُ أُمّي مفيدا

قبل الفجر لليلةٍ كانت الجمعة

- مرحى - بساعةٍ تحديدا

عامَ ستٍّ في بيئة عاشت الدين

للعترة الولاءَ الشَّديدا

بعد ألف كذا ثلاث مئينٍ

في الحساب الهجريّ خذه أكيدا

غمر الأسرة السُّرورُ وعاشت

لقدومي- يا صاح- يوماً سعيدا

هنَّئوا بي أبي وفاهو بقولٍ

معلنٍ للتاريخ: (خذه وليدا)

نشأتُ وتربَّيتُ في كنف والدي المقدّس التقي العارف منصور الحاج محمد الجمري، وقد بذل قصارى جهده في تربيتي، وأدخلني إلى مدرسة البديع الإبتدائية للبنين، وكان كثيراً ما يصحبني معه إلى المجالس التي يذهب إليها، وإلى السوق أحياناً، حينما يذهب لقضاء شئونه وشراء حاجياته. صار قدس سره يعلّمني القرآن بعد إكمال السادسة من عمري، حتى نهاية الجزء التاسع، وفهمتُ باقي الأجزاء بلا معلِّم وفي هذه السن علّمني الوضوء والصلاة. درست في مدارس البحرين ولم أًكمل مراحل الدراسة، وتعلّقت نفسي منذ صغري ومنذ دخولي الابتدائية بالمنبر الحسيني، فكنت - في سن مبكرة - أقرء مقدماً للخطيب ملا جاسم محمد حسن نجم الجمري صاحب ديوان: «شعار الحزين» وهو في رثاء الرسول الأعظم (ص) وأهل بيته عليهم السلام باللسان الشعبي.

فكـرة عـامـة عن الوالـد

كان رحمه الله قوي الإيمان، وعلى جانب كبير من الورع والتقوى، كثير العبادة، لا يترك صلاة الليل وسائر المستّحبات، وكان يأمرني بالإتيان بالنوافل بعد تسليمي . وكان كريماً، يجود بما في يده، ألذّ شيء عنده، وأفضل شيء يؤتاه أن يأتيه ضيف، أو يجد غريباً يضيّفه، وذلك رغم فقره وقلّة ذات يده، ورغم صعوبة الوقت. وكان كثير القضاء لحوائج الناس، لا يحسب لراحته حساباً في هذا السبيل، فكان يقوم بوظائف دينية من الجواب على المسائل الشرعية، إذ كان مثقفاً في دينه، كثير المجالسة للعلماء والتفقّه عليهم فيأتيه أهل المسائل من أبناء القرية ويجيبهم عليها. كما كان نحوياً أديباً، قرأ كتاب: «شرح خالد على متن الآجرومية» على المرحوم سماحة العلامة الشيخ محسن الشيخ عبدالله العرب الجمري كما حدثني بذلك أخي الأكبر الحاج علي بن منصور الجمري، وكان له ذوق شعري وكثير الاستشهاد بالشعر العربي. ومن قيامه الصلاة على الموتى- في القرية وبعض القرى المجاورة - وتلقينهم، والكتابة على الأكفان، وكتابة إسناد البيع والشراء والهبات والوصايا.

وكان رحمه الله قوي البنية جلداً يتحمل الميثاق، أذكر أنه في شهر رمضان لا يقوم من العمل- وهو النسيج وهي المهنة العامة للقرية في وقته - إلا للصلاة فهو يواصل عمله من الصباح حتى المساء.

وكان في قراءته للمنتخب للشيخ فخر الدين الطريحي، أو الفوادح للشيخ حسين بن الشيخ محمد آل عصفور، وهما ما اعتيد قراءته في مجالس التعزية الحسينية قبل صعود الخطيب المنبر، وأكثر من ذلك قراءته لمقتل الإمام الحسين في كتاب: «أبي مخنف لوط ابن يحيى الأزدي، ولايزال الجمريّون الذين عايشوه وعاصروه أو أدركوه يتحدثون عن قراءته لمقتل الامام الحسين عليه السلام وما يحدثه من التأثير العظيم في المستمعين حينما يقرأه. وكان وصولاً للرحم، يصل من قطعه، ويحسن إلى من أساء إليه.وكان كثير الحب لي من بين أولاده وهم أشقائي علي ومحمد وزهراء ونعيمة. وكان يدعو لهم ولي بالتوفيق كثيراً. وأذكر- وأنا صغير- أني انتبهت عليه ليلة وهو يصلي نوافل الليل، وقد اشتغل بالدعاء بعد إحدى النوافل، ورأيت أصبعه السبابة تشير إليّ وهو في حال الدعاء. وكان قدس سره يملأ نفسي معنوية بكلماته التي كان يخاطب بها والدتي، ومنها قوله: إن ابنك هذا له مستقبل كبير. وعندما أكتب شيئاً بسيطاً ويراه يقول لها: تعالي انظري ماذا كتب ابنك. وكنت وأختي نعيمة التي أكبرها بسنتين تقريباً ننام في الحجرة نفسها التي تخص الوالد والوالدة وكنت أنتبه بعض الليالي على بكائه وهو يصلي صلاة الليل ويتهجّد. وقد تفاءل لي بالخير وفرح كثيراً حينما رآني قد نظمت قطعة شعرية شعبية في الإمام الحسن ابن علي (ع) وكنت في سن مبكرة.

كانت وفاته رحمه الله في ليلة السبت الساعة السابعة 27 ربيع الأول1367هـ على أثر حمّى وضيق في التنفس، وكان الوقت شتاءًً وبارداً جداً، فأصيب نتيجة ممارسته لعمل النسيج في محل العمل المكشوف والكائن في مكان مرتفع، وقد ألزمه المرض الفراش خمسة أيام، ولم يعالج إلا بمعالجات بسيطة يساعد على ذلك عدم مراجعة المستشفى آنذاك إذ كانت ليست بالسّهولة المطلوبة، وتوفي إلى إثر مرضه، وما انفك في مرضه وحتى في حال احتضاره يقرأ مصيبة الحسين (ع)، ويطلب قبل احتضاره أن تُقرأ له مصائب أهل البيت (ع)، وكان تشييعه تشييعاً ملحوظاً، وقد أحدثت وفاته أثراً غير قليل على القرية والمنطقة.

وبعد أن قلت الشعر الفصيح نظمت الأبيات الثلاثة التالية مؤرخاً عام وفاته بالحساب الأبجدي:

في عام موت والدي ما أعظم المصابا

إليه ضُمَّ واحداً وسائل الأحبابا

في لوعة مؤرخاً: (أبدرُنا قد غابا)

ماذا بعد وفاة الوالد؟

بعد وفاته كان يقوم بشئون البيت وتكاليف العائلة أخي الأكبر «علي» وكانت العائلة تتألف مني ومن والدتي وأخي محمد وأختي نعيمة، أما أُختي زهراء فكانت متزوجة من ابن عمها الحاج إبراهيم بن الحاج سلمان بن عبدالرسول الجمري. وكنت قد استفدت منبرياً استفادة كثيرة من ابن العم الخطيب الكبير ملا عطية الجمري وابنه الخطيب الجليل ملا يوسف الجمري، وكنت في مثل هذا الوقت أتصنّع - الصانع هو الذي يبدأ القراءة الحسينية قبل الخطيب الكبير- عند الخطيب الملا جاسم محمد حسن الجمري، وهو من خطباء قريتنا، ومن المؤمنين الأتقياء، وله شعر باللسانين: الفصيح والدارج، وقد استفدت منه استفادات منبرية، واستفدت من إيمانه وسلوكه وأدعيته وصلاته وتقواه.

بعد وفاة والدي بفترة من الوقت جاء الملا عبدالله بن محمد البلادي المكنى بـ «أبوطاهر» وطلب من أهلي أن أكون معه قائداً له لأنّه بصير، ومطالعاً في الكتب، ومتصنّعاً معه، فوافقوا، وبقيت معه سنةً كنت فيها موضع عنايته وعناية عارفيه، وكنت موفقاً في قراءتي معه، وكان يعتمد في تنّقله من بلد لآخر وإلى مجالسه على المشي، ونادراً ما كان ينتظر أو يستأجر سيارة، وكان يدفع لي شهرياً هدية قدرها خمسة وعشرون روبية، ويسلمّها إلى أخي الأكبر «علي» يستعين بها على الصرف على العائلة، وبعد سنة أو أكثر بقليل انفصلت عنه، وصرت اقرأ مستقلاً شهر رمضان وعاشوراء، والوفيات، والعادات. وقد وجدت تجاوباً من الناس شجّعني على الاستمرار.

من معايشاتي في الفترة الأولى من التكليف الشرعي

في الفترة الأولى من بلوغي سنَّ التكليف أدركت وعايشت - من دون قدرة على التّحديد للأمور وفقهها وإدراك تفاصيلها - الفتنة بين الشيعة والسنة التي أشعلها وغذّاها الاستعمار البريطاني الممثل في مستشار حكومة البحرين «بلكريف»، الذي كان مهيمناً ومسيطراً على جميع شئون البلد، وكانت الفتن متناكفة، وهي في الحقيقة امتداد لفتن عاشها من قبلنا من الآباء والأجداد، وهي الوسيلة المفضلة للاستعمار من أجل تغلغله وبسط نفوذه أكثر، وجعل حكومة البحرين مضطّرة للإجابة له فيما يريد. وهنا كانت حوادث وتعدّيات من جانب السنة على الشيعة الذين هم اخوة في هذا الوطن، وقد بدأت هذه اللعنة والفتنة من حادث العزاء، إذ حصل تحرّش في بعض مواكب العزاء وارجّح انه موكب مأتم بن سلوم، إذ حدث شجار بين الطرفين، وعلى هذا الأساس امتّدت الأيدي إلى المعزين، وكان الأمر قد أُعدّ له مسبقاً بجمع أخشاب وكميات من القناني الفارغة في الحديقة المعروفة بالباخشة والمقاربة لمدرسة الزهراء للبنات، وسلطت الشرطة بالأخشاب الطويلة والهراوات على المعزين العزّل وحدثت إصابات وقد بذل المعزون العزّل جهدهم في الدفاع عن أنفسهم فحصل جرحى بل وبعض القتلى من الطرف المقابل، بل وسمع إطلاق بعض الرصاص من بعض العناصر الحاضرة... وأفرز هذا ان تتشكل هيئة من الشيعة من كبارهم وأهل النفوذ فيهم للدفاع عن الشيعة والاحتجاج أمام المعتمد السياسي البريطاني في البحرين...

وامتدت الأحداث الأليمة وكان منها هجوم عدد كبير من أبناء المحرق بتحريض من المتلسطين وتحت إشرافهم على أهل عراد، وكانت المواجهة من المهاجمين عنيفة، وكانت فتنة سترة بين العمال السنة والشيعة في موقع العمل المسمّى: ادرام ايلثت، وحدث بين الطرفين ما لا تحمد عقباه، واعتقل عدد من الناس اتهموا بإحداث الفتنة من شخصيات السنة والشيعة، وكانت النتيجة سيئة إذ حكمت المحكمة على العناصر الشيعية بالسجن ثلاث سنين وستة أشهر، بينما حكمت على العناصر السنيّة التي حوكمت تغطيةً كل فرد بثلاثة أشهر ونصف - إذا لم تخني الذاكرة في هذا الأمر من الحكمين وأُقلّل، وهذا ما سبب إضراباً من جانب الشيعة، وكانت الأسواق: اللحم، والخضرة، والسمك، وكل المواد الغذائية الضرورية اليومية بيد الشيعة، إضافة إلى وجودهم المكثّف في الحاجات الأخرى، فإذا أضرب الشيعة شُلّت البلد، وتعطلت الأمور...

وهكذا توالت الأحداث وعمت الفوضى بتدبير الإنجليز، ولم يكن للحكومة المحلية موقف حكيم يعالج الأمور عِلاجاً صحيحاً آنذاك، بل كانت تزيدها تعقيداً… وكان المعتمدون من شخصيات الشيعة يتظلمون ويفزعون إلى المعتمد السياسي طالبين منه إنصاف الشيعة ورفع الظلامة عنهم، بكفّ الحكومة المحلية عنهم، وهنا طلب المعتمد السياسي من الشخصيات الشيعية برهانا على أنهم يمثلون الطائفة الشيعية، فبعث هؤلاء سيارات الباص إلى القرى طالبين من الناس الحضور المكثف في مسجد مؤمن بالمنامة، وفي يوم الخميس صارت السيارات تنقل المواطنين الشيعة من قراهم إلى الموقع المذكور واجتمع ما يقارب الأربعين ألف نسمة من الشباب والشيوخ والصبيان، وكانوا في انتظار أوامر الشخصيات التي كانت بدورها مشغولة بمقابلة المعتمد السياسي، فحدث أن السلطة اعتقلت شخصية تجارية معروفة من الدراز وهو في طريقه إلى مسجد مؤمن وهو الحاج عبدالمجيد الحاج حسين الشهابي الذي اعتقل من سيارة الباص إلى القلعة، وعندما وصل الخبر إلى الجمهور في المسجد تحرك عدد كبير من دون أمر القادة يحملون العلم الأبيض وهو علم الحركة إشارة إلى سلميتها ومضوا إلى القلعة من أجل تخليص الرجل المعتقل، فأنذرهم من هناك من عسكريين ومسئولين بالتفرق، ثم فتحوا عليهم الماء الحار، فلم يتفرقوا فأطلقوا النيران عليهم من رشاشات وضعت فوق برج القلعة ووجهوا الرّصاص بكثافة هائلة إليهم وإلى المجتمعين في المسجد، وكثر الجرحى واستشهد أربعة من الواصلين إلى القلعة وكلهم من الشباب أحدهم من المنامة والثاني من المالكية والثالث من سترة والرابع من مقابه، وفر الناس يطلبون الملجأ من الرصاص الذي ظل فترة طويلة يُصبُّ عليهم بلا رحمة ويلاحقهم، واذكر أن الخطيب محمد علي الناصري رحمه الله نظم قصيدة بمناسبة حادث القلعة قرأها وسمعتها منه في غير محفل، والفقرة الأولى من مطلعها:

يوم الخميس ولست منه بناسي

كما أن العم الخطيب ملا عطية بن علي الجمري ألقى قصيدة رائعة في أربعينية الشهداء في مسجد مؤمن إضافة إلى كلمات وقصائد الآخرين، ومطلع قصيدة الملا عطية قدس سره:

عِبرةُ الحرّ صَرعةُ الشهداء كُتبت نُصبَ عينيه بالدماء

وأذكر أن ثوب أحد الشهداء وقد ضرّجت بالدماء قد وضعت علماً على باب المسجد، وكان حفل الأربعين حفلاً جماهيرياً عظيماً.

نظم الشعر العمودي

نظمي للشعر الفصيح بدأ وأنا في سنٌ مبكرة، وكل شعري عمودي فراهيدي ما عدى قصيدة واحدة نظمتها في سجني الثاني وهي وطنية، ومن القسم الحر وقد صودرت مع القصائد الأخرى من قبل المخابرات. وقد نظمت أول قصيدةٍ لي وأنا ابن الثامنة عشرة تقريباً. وقد شجعني على الاستمرار في نظم الفصيح المرحوم حاج جاسم بن محمد المحل من المنامة الذي استفدت منه الكثير في هذا الباب، وكان يوجهني أحياناً بتوجيهاتٍ منبرية وكان يهذب لي بعض القصائد في بداية نظمي، فله علي فضلٌ كثيرٌ، فجزاه الله خير الجزاء وتغمده برحمته واسكنه فسيح جناته. وأول قصيدة نظمتها كانت في الإحساء - الهفوف - في مدح صديقٍ لي اسمه يوسف أحمد الغزال، وقد هذبها لي المرحوم الخطيب الفاضل الشاعر الشيخ كاظم بن مطر إذ أني سافرت إلى الإحساء في أوائل عهدي الخطابي مستقلاً كما سيأتي هذا، ومطلع القصيدة:

مررت بمن في حسنها أنا معجب ....حكى قدها غصنا به الريح تلعب

وقد ذكرت منها عدداً من الأبيات التي تصلح للنشر في ديواني: «عصارة قلب» الجزء الأول.

ممارستي لأعمال أخرى

إلى جانب الخطابة فترةً من الزمن

كنت بعد انفصالي عن الملا عبدالله البلادي المذكور مستمراً في قراءتي الحسينية، إلا أن بعض الشباب وغيرهم غفر الله لهم أخذوا يزهدونني في الاستمرار في القراءة، ويقولون إن القراءة ستموت وتنتهي ولا ينبغي أن تربط مستقبلك بها، فتأثرت بهذه اللغة وهذا التفكير الضيق، واتجهت إلى العمل إضافةً إلى عملي في القراءة وعدم رفع يدي عنها، فعملت شهراً واحداً أجيراً عند الحاج عبدالله الخواجة من المنامة وكان عملي يتمثل في استلام الأجور يومياً من باعة السمك إذ كان الرجل المذكور قد أستأجر سوق السمك من الحكومة.

ثم استقلت من هذا العمل إحساساً مني باستثقال الباعة لمن يتقاضى منهم الأجور. وبعده عملت أجيراً شهراً واحداً عند التاجر السيد هاشم التناك من المنامة في دكان يديره شخص اسمه الحاج إبراهيم بن حسن من المنامة لعلّه شريك للسيد المذكور في الدكان أو يعمل له. وبعد شهر أو أكثر بقليل وجهني السيد المذكور إلى التاجر المرحوم الملا عبدالحسين حميدان - رحمه الله - ولعله مؤقتاً بإعتبار أن الحاج إبراهيم سيسافر إلى خارج البحرين فترة ما.

وعملت عند الملا عبدالحسين المذكور أجيراً لمدة سنةٍ تقريباً، وكان العمل الذي أقوم به هو أني أجلس معه ومعاونته في المكتب فحينما يبيعوا بضاعةً - وكان يبيع بالجملة المواد الغذائية أربعة عشر مخزناً وأُمكن الحمالين من حمل البضاعة والإحصاء عليهم وقد أكرمني الرجل المذكور وقدم لي بعض الإرشادات، ووجهني إلى أن أدرس اللغة الإنجليزية وقواعد اللغة العربية في المدرسة الأهلية للأستاذ عبدالرسول التاجر، وهو الذي يدفع أجرة التدريس وقد واصلت ذلك فترةً يسيرةً لا تتجاوز الشهرين، وكان يحسب لي شهرياً 180 روبية فقط، وكان يجعلها عنده، وأخيراً دفع شيكاً بالمبلغ كله.

وكانت إقامتي طيلة المدة عندهم في المنامة لا آتي إلى بيتنا في بني جمرة إلا ليلة الجمعة فقط.

واستأجرت دكاناً قرب عمارة القصاب أبيع فيها معلباتٍ وبعض المواد البيتية فلم أوفق - والحمد لله - وتركته بعد أقل من سنة، واستأجرت مكاناً آخر عملت فيه «صندقةً»، وهو أسفل درج من أدراج سوق الخضرة القديمة وصرت أبيع ملابس. وبقيت عدة شهورٍ فيه. كل هذا وأنا ما زلت أقرأ تعزيةً في شهري محرم وصفر ورمضان وبعض المناسبات.

ثم تركت العمل نهائياً واعتمدت على قراءة التعزية وحدها واتجهت إليها برغبةٍ وجدٍ، لاسيما وأنني فشلت في غيرها، واتضح لي خطأ أولئك الأشخاص المزهَّدين فيها. وقد لاقيت توفيقاً في القراءة، هذا وقد سافرت إلى الإحساء - الهفوف وأنا مازلت أعمل في الصّندقة وأبيع بعض الكماليات كما ذكرت آنفا، وبقيت شهراً كاملاً اقرأ ليلاً وصباحاً وكان نزولي على فراش الملا عبدالله البحراني وأخيه الحاج حجي البحراني، ورأيت منهما العناية والكرم والرعاية جزاهما الله خيراً، وكان هذا قبل زواجي. وعدت إلى البحرين، وتزوجّت، وبعد زواجي أنهيت عملي في السوق، واعتمدت على قراءة التّعزية كلّياً كما ذكرت آنفاً.

بعد زاوجي سافرت إلى الإحساء بطلب من الاخوة هناك مرّتين، وقرأت بالإضافة إلى العاصمة الهفوف في عدد من القرى، واستؤجرت في أولى اأسفاري لقراءة محرم في قرية التويثير، وكنت طيلة الفترة في التويثير على فراش العالم التقي الجليل أبي حافظ سيد عبدالله الأحمد، الذي وجدت منه الرعاية الكاملة والعطف والعناية، ورأيت فيه الشخص الكريم والمرّبي الفاضل، وأهل التويثير أناس طيبّون كرماء، وذوو أخلاق عالية ولا تملّ من مجالستهم، وقد نظمت قصيدة في مدحهم ومدح عالمهم الجليل السيد عبدالله الأحمد المذكور آنفا وألقيتها أمام جمهور منهم، والقصيدة من أوائل نظمي، اذكر منها البيتين التاليين:

سرت بي مطايا الجبِّ يدفعها القَدّر

فالفت مناها بالتويثير من هجر

أناخت بامجاد سموا بمكارم

وفي ظلهم ألفى سخا يعرُبٍ مفر

سافرت بعدها إلى قطر عن طريق الخطابة الحسينية ولاقيت في بداية سفري مشقة. وقد نزلت على فراش المرحوم الحاج علي الماجد، وهو من تجار الشقيقة قطر، وهو ذو خلق حميد، ومجلسه مفتوح للقاصدين، واستؤجرتُ للقراءة في شهر رمضان، إذ كان سفري إلى قطر في جمادى الأولى، وكان لي في قطر معارف وبعض الأصدقاء، وكان لي سفر آخر إلى قطر بعد حلّ المجلس الوطني، إذ طُلبت للقراءة في العشرة الأولى من المحرم، فقرأت ثلاثة مجالس، وكان التوفيق حسناً.

سبب اشتهاري وتوفيقي خطابياً

وهناك أسباب هيئها الله تعالى لأن اشتهر وأُوفق منبرياً على رغم أني قرأت مستقلاً في سن مبكرة وهي:

1) كوني اعتمدت - بعد الاعتماد على الله - على نفسي، وذلك أني صرت اشعر بضياع نظراً ليتمي إذ توفي والدي وأنا ابن عشر سنين.

2) ما طبعني الله عليه وغرزه في نفسي من الطموح رغم ضعفي وقلة حيلتي وعدم توفر الوسائل المساعدة على تحقيق طموحاتي الكبار.

3) ما وفقت له من الاستفادات المنبرية من الخطيبين الجليلين عمّي ملا عطية بن علي الجمري وابنه ملا يوسف، بحيث كنت التقط شواهد ونكات وأحيانا مواضيع بكاملها، وأمارس التدوين لما استفدته منهما منبرياً.

4) ما وفقت له من اقتناء الكتب الحديثة والاستفادة الملحوظة من الأقلام الناضجة، بحيث كان ما اقرؤه يلفت النظر ويعجب المستمعين لاسيما المتعلمين، فقد استفدت من كتب آية الله الشيخ محمد أمين زين رحمه الله،ككتاب الاسلام، وكتاب: من اشعة القرآن، وكتب الأسنادـ ابو الأعلى المودودي، ككتاب: المال وتداول الثروة في الإسلام. وكتب الإسناد لعباس العقاد، ككتاب: عبقرية محمد (ص).

5) صحبتي للملا عبدالله بن محمد - أبو طاهر - البلادي قائداً ومطالعاً له الكتب وقارئ مقدمة، وهو شخص معروف وكثير القراءة آنذاك، صحبته مدة سنة على الأقل، فسبّب هذا أن أًُعرف على مستوى الكثير من الناس.

6) قراءتي في مأتم مدن في المنامة كل يوم عدى عاشوراء لثلاث سنوات، قرأت عندهم طوال هذه المدة عدى عشرة عاشوراء، فبعدها قدمت استقالتي لأهل المأتم وهاجرت إلى النجف الأشرف للدراسة العلميّة?



أضف تعليق