العدد 276 - الأحد 08 يونيو 2003م الموافق 07 ربيع الثاني 1424هـ

قراءة في نظريات الإلحاد... من فويرباخ حتى ماركس

مشير باسيل عون من مواليد جديدة الفاكهة بالبقاع اللبناني (1964م)، وهو متخصص أكاديمي في بحوث الفلسفة واللاهوت، حصل في سنة 1990م على شهادة الماجستير في الفلسفة من الجامعة اللبنانية ببيروت ومن ثم الدكتوراه في الفلسفة الألمانية من فرنسا وهو لايزال باحثا في هذا الجانب بعمق، متنقلا بين أوروبا ولبنان لجمع المصادر البحثية عن اللاهوت الديني والفلسفات المختلفة، صدر له أخيرا كتاب بعنوان: «نظرات في الفكر الإلحادي الحديث»، يتناول الكاتب في مقدمته نشأة الفكر الإلحادي الحديث، الذي بزغ إثر رغبة في تجاوز التناقض العسير المتحكم - كما يقول المؤلف - بتقابل هذين الضربين من التصور، أي التصور اليوناني القديم للألوهة والتصور الكتابي المبني على مبدأ الوحي الإلهي.

بدأ الفكر الإلحادي الحديث من لودفيغ فويرباخ (1804-1872) إذ أثر فكر فويرباخ بشكل كبير في فكر الذين جاؤوا من بعده مثل ماركس وفرويد ونيتشه. يتأسس الفكر الفويرباخي على نقد المخيلة الإنسانية التي تنسب الطاقات الطبيعية لله، ويدعو ذلك الفكر إلى «الأنسنة» بشكل مطلق تصل لأنسنة الذات الإلهية. وقد مر فويرباخ بفكره هذا ثلاث مراحل من عمره قضاها في البحث الفلسفي. تمحور تفكيره في المرحلة الأولى حول الله، كما يقول، والثانية تمحور تفكيره حول العقل، أما الثالثة فتمحور تفكيره حول الإنسان، ويعد بعض المطلعين على فكر فويرباخ، أن التصور الفلسفي له أنشأ ثلاث مقاربات للذات الإلهية، الأولى أن الذات الإلهية متقاربة للإنسان (أي أن الإنسان هو ذاته ذلك الإله المتصور)، والثانية لجوهر الطبيعة، إذ إن الطبيعة هي الإله واقعا، والمقاربة الثالثة تكونت على زعم أن الإله ما هو إلا نتاج رغبة الإنسان، إذ تزعم الفلسفة تلك أن الدين ما هو إلا تصور إنساني تنتجه رغبة الإنسان في الاحتماء من الضعف والوهن والفقر لمسند تستند إليه لكي تخفف من آلامها وهي حال انثربولوجية طبيعية، ويصف عون تلك الفلسفة قائلا: «ما تجدر الإشارة إليه في تحليل هذه الرؤية الفلسفية الإلحادية، أن فويرباخ لا يبرر تبريرا وافيا انتقال الإنسان من الوعي الأول الناقص، وهو الوعي الديني لجوهر ذاتي أسند إلى كائن آخر، إلى الوعي الثاني الصائب، وهو الوعي الفلسفي لجوهر الذات وقد استعاد الإنسان ملكيته وأعاد موضعه الأصلي في صميم كيانه الإنساني». وعلى رغم ذلك فإن الرؤية لم ترضِ صاحبها «فويرباخ» إذ ما لبث حتى أعاد النظر في مبتنيات أفكاره تلك، ففي (1845) أخذ يتحدث عن الإنسان الفرد، ويعيد البحث في مسألة الله اعتمادا على أسس وضوابط جديدة، لكن أفكاره لم تزل تراوح مكانها إلى أن توفي.

يستعرض الكاتب أيضا فكر نيتشه (1844-1900) وهو من النقاد والمفككين للدين المسيحي، حتى أنه لقب بلقب الكسار وذلك لشدته في تكسير العمارة الدينية المسيحية كما يصف الكاتب، حتى أنه دعا نفسه (العدو اللدود للمسيحية)، فبعد أن وجده قساوسة ترعرع في أحضانهم ونشأ قسيسا مستقبليا، وبعد ثورته على بيئته اجترح نيتشه حقلين لفلسفته، الحقل الأول هو حقل العداوة الهدامة للدين المسيحي، والحقل الثاني هو حقل ابتداع صورة الإنسان الجديد المخالف لتصور الإنسان في المسيحية، ويبدو أن فكر نيتشه متميز بالغموض الكبير في أطروحاته عوضا عن التناقضات التي يراها المتابع بجلاء لأفكاره، وهذا ما يؤكده «مشير عون» حين يقول: «لا جرم أن فكر نيتشه يتلبسه الكثير من الغموض والتناقض والتنازع، ما يعسر الإلمام الموضوعي به وتفسير مضامينه تفسيرا أمينا». يدعي نيتشه أن ثمة ثلاث مراحل تحولية لفكره، التحول الأول: أسماه بـ (الجمل أو الإكراه الخانع) إذ إن قبول الجمل الخانع بكل ما تفرضه البيئة هو عين التطابق بالنسبة إلى فكر نيتشه الذي كان في بداياته العمرية يوم أن كان يحمل الفكر القسي باعتبار بيئته بيئة كنسية تبث الفكر الكنسي، التحول النيتشوي الثاني مسمى بـ (الأسد أو الرفض الهّدام) والمراد منه هو الثوران على البيئة التي تحد وتكبل الفرد وفكره -بحسب نيتشه - وتجعله أسيرا لإملاءاتها، وتعبير الأسد هنا دلالته على العنف الضد المكون في وعي نيتشه حينما أراد أن ينتفض على فكر بيئته المسيحية، التحول الثالث الذي أصاب هذا الفيلسوف هو ما أسماه بـ (الطفل أو تثبيت الذات) ذلك حينما تتحطم كل أدبيات البيئة في وعي الفرد جراء الثورة والهدم يبدأ بعدها حياة فكرية جديدة على شاكلة الأطفال كما يدعي نيتشيه، ليكون أكثر خلاقية وإبداعا «معنى هذا الكلام أن الطفل يجسد في نظر نيتشه صورة الإنسان المستعد لعالم جديد، المنعتق من أسر القيم العتيقة»، وكل ذلك إضافة إلى التقدم الذي شهدته أوروبا جراء الحملات الاستعمارية والثورة الصناعية، التي دعت نيتشه إلى إعلان موت الإله دلالة على الانعتاق من قيود الكنيسة بشكل مطلق.

يلفت الباحث في كتابه أيضا إلى الفكر الماركسي، بصفته فكرا إلحاديا بارزا ومؤثر بشكل كبير على الفكر الحديث، إذ إن تبني رؤى وأفكار كارل ماركس من قبل الكثير من الجماعات مؤشر واضح على ذلك المنجز الماركسي المؤثر والمدفون في ترسبات الحركات التحررية ليومنا الآني، وهذا ما أشار له الكاتب في وصفه، إذ يقول: «تنطوي عبارة الإلحاد الماركسي على طائفة من الأفكار و التحاليل والتصورات التي انبثقت من فكر كارل ماركس (1818-1883) ونشطت في مختلف تيارات المذهب الماركسي حتى الزمن الحاضر». ولعل التجربة السياسية والممارسة الشرسة للمعارضة التي مارسها ماركس جنبا لأفكاره وفلسفته جعلته يخترق الكثير من التيارات المعارضة، والتي ربما رأت فيه الرجل الأنموذج، الذي ما لبث هذا الأنموذج إلا متحطما على أسوار الوعي الجديد الذي كشف عن وهن الرؤية الماركسية بشكل واضح.

يتألف مذهب ماركس من تناصر ثلاث نظريات كبرى أنشأها بناء على تصوره للإنسان والكون والتاريخ، فالأولى تتمثل في نظريته في المعرفة، والثانية في فلسفة التاريخ، والثالثة في نظريته الاقتصادية. واعتمادا على تلك النظريات التي ترسم الرؤى المادية للكون والوجود الإنساني والتاريخ يعلن المذهب الماركسي إلحاده القاطع، وهذا الإلحاد كما يعبر عنه المؤلف من أخطر ضروب الإلحاد التي شهدها التاريخ البشري الحديث، بل من أشدها تصميما وكفاحا، ومن أفضلها تنظيما وإعلاما، وهذا ما ذهبت إليه جامعة موسكو في العام 1960م، حين أصدرت كتابا تعليميا في الإلحاد عنونته بـ (الإلحاد الماركسي الشكل الأسمى للإلحاد).

يستهل عون في مبحثه الأخير في الكتاب (فلسفة الدين في هوية المادة وطبيعة الحقل) سؤال الفلسفة الذي هو وظيفتها الأساس، إذ يذكر أن الفلسفة تسأل عن الحقيقة الأساسية التي تقوم في أصل ظواهر الوجود وعناصر الواقع، وهي الحقيقة التي يمكنها أن تضبطها كلها في وحدة كيانية ومعرفة مترابطة متناسقة - ويضيف الكاتب - أن الفلسفة تسأل أيضا عن الأجوبة الممكنة ومنها حقيقة المادة كأصل الوحدة الضابط للكل، وحقيقة الحياة والروح كأصلين للوحدة الضابطتان للكل أيضا.

ويعرّج الكاتب على تعاريف الدين، ويذكر أنه في هيئته الخارجية منظومة ثقافية تحمل في تضاعيفها أبعاد الاعتناق الإيماني والتصور النظري والمسلك الأخلاقي، وضم الدين - كإطار - ثلاثة حقول: الحقل الأول: هو حقل التصورات النظرية والمعتقدات الدينية والمقولات اللاهوتية التي بها يجيب الإنسان عن استفساراته المتصلة بمعرفة أصل الكون ومعرفة الإنسان... إلخ، أما الحقل الثاني فهو حقل العبادات والشعائر والطقوس التي تتيح للإنسان التعبير عن اتصاله بما يعتقد فيه أنه يتجاوزه تساميا وقداسة. والحقل الثالث هو حقل المثل الأخلاقية والمقاييس المسلكية التي يلتزمها الإنسان سبيلا قويما للتعبير الوجودي عن أمانة لاعتناق الإيماني الأساسي الذي يضعه في علاقة من التفاعل الوثيق بينه وبين قطب التسامح والقداسة.

وبتلك التفصيلات التي عمد إليها الكاتب في تعاريف الفلسفة والدين تطرق إلى (فلسفة الدين) والتي تضع أربعة حقول فكرية كما يوضح الباحث، تعنى تلك الحقول بالدين:

الحقل الأول: فلسفة الدين ومهمتها الوقوف على جوهر الأديان، والثاني: علم الدين ومهمته البحث في مكونات الدين وفي تاريخ نشوئه وتطوره، واستطلاع مضامين العقائد الدينية والتحري عن أوجه الشبه بين أديان البشر. أما الحقل الثالث فيتناول انثربولوجيا الدين ومهمتها تطبيق العلوم الإنسانية على واقع الدين. والرابع: علم ظواهر الدين ومهمته البحث في ظاهرة الدين في حد ذاتها والوقوف على الميول المستور الذي يحتجب وراء هذه الظاهرة.

ويستعرض الكاتب في خاتمة كتابه المصطلحات التي وصفها بالمفيدة لفلسفة الدين ومنها: اللاأدرية والإلحاد، والمذهب الواحدي أو الواحدية، التوحيد والشرك وما إلى هنالك من مصطلحات متداولة في الفلسفة.

إجمالا يسعى الكاتب من خلال ذلك البحث إلى إبراز الوجوه التي قد تبدو غامضة في الفلسفات أو لنقل المتداخلة في بعضها ليرجعها عبر بحث منشأها إلى أصولها.

مشير باسيل عون. نظريات في الفكر الإلحادي الحديث. بيروت: دار الهــــــــــــادي. الطبعة الأولى: 2003





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً