العدد 4690 - الجمعة 10 يوليو 2015م الموافق 23 رمضان 1436هـ

السلفية وواجب المصالحة مع مفهوم الوطن

أنس زاهد

كاتب سعودي

بعد كل ما حدث ويحدث في المنطقة العربية، أصبح من الواضح لكل من لايزال يمتلك حساً وطنياً، أن «التكفير» أصبح يمثل خطراً وجودياً حقيقياً، حاله حال المشروع الذي يتبناه الكيان الصهيوني في المنطقة.

منذ ثمانينات القرن الماضي، أي منذ بداية الظاهرة المسماة بالجهاد الأفغاني، لم يعد التكفير مجرد موضوع للبحوث والمناظرات العقدية التي يتم نقاشها عبر المؤلفات أو داخل قاعات الكليات والجامعات الدينية. لقد تطور الأمر بسبب التدخل السوفياتي في أفغانستان، وتحوّل التكفير من خانة التنظير الأيدلوجي، ليصبح منهجاً سياسياً توفرت له الأدوات اللازمة من مقاتلين، وأسلحة متطورة، ودعم إقليمي ودولي.

نقطة الانطلاق إذاً كانت أفغانستان، والهدف كان استنزاف الاتحاد السوفياتي والعمل على هزيمته في أفغانستان، ومن ثم إسقاطه وتفكيكه. لكن الظاهرة سرعان ما اتسعت على مرأى ومسمع من القوى الإقليمية والدولية الداعمة والراعية، فظهر ما أطلق عليه في البداية «الأفغان العرب»، ثم سرعان ما تحول هؤلاء إلى فصيل من فصائل ما يسمى بالمجاهدين، حيث أطلق على التنظيم الجديد اسم «القاعدة».

ومنذ اليوم الأول لتأسيس القاعدة، ظهر في أدبيات التنظيم بجلاء، التحريض على الأنظمة العربية التي تحكم البلاد التي جاء منها المقاتلون العرب، باعتبارها أنظمة طاغوتية كافرة لا تحتكم إلى شرع الله، وتوالي الكافرين، وتعطل «فريضة الجهاد» ضد الكفار. وهنا يجب التذكير بما ارتكبه المصريون العائدون من أفغانستان من حوادث إرهابية كانت تهدف إلى إسقاط نظام الحكم في مصر في بداية التسعينيات. هذا بالإضافة إلى الحرب الأهلية التي فجرها الجزائريون العائدون من أفغانستان خلال الفترة نفسها، والتي شهدت فظائع لا تقل عمّا نشاهده الآن، مما ترتكبه «داعش» والنصرة في كل من سورية والعراق.

ولكي نفهم الظاهرة التي تطورت إلى ما هي عليه الآن، علينا أن نعرف بأن التنظيمات الجهادية التكفيرية لم تبتدع مرجعية فكرية و»شرعية» من تلقاء نفسها، وإنما استمدت تلك المرجعية من تراث الفكر السلفي، وبالتحديد من المؤلفات والآثار التي تناولت أصول العقيدة، سواءً في المرحلة التأسيسية للسلفية، أو في المراحل المتأخرة التي تجسّدت عبر فتاوى وكتابات العديد من المراجع المعاصرين للسلفية.

لقد انطلق الفكر السلفي من قاعدة أساس قسم من خلالها العالم إلى قسمين: مسلم ومشرك. ولقد كان من مقتضيات الإيمان والعمل بهذه القاعدة التي عبر عنها أسامة بن لادن بـ»الفسطاطين»، وعبر عنها سيد قطب بـ»الجاهلية المعاصرة»، اللجوء إلى آلية التصنيف العقدي، لإفراز المؤمنين من المشركين، وتحديد مواقع الأفراد والمجتمعات والدول، من معركة «الحق ضد الباطل».

وهنا يجب علينا العودة إلى المعايير التي حدّدتها السلفية للتصنيف، وأن نذكّر أيضاً بأن السلفية الجهادية لم تبتدع تلك المعايير، وإنما لجأت إلى ما ورد في الأصول العقدية للتيار أو الفكر السلفي الذي قسم البشر إلى الأقسام التالية: مسلم، مبتدع ضال ذي عقيدة فاسدة سواءً كانت أشعرية أم ماتيريدية، رافضي منافق يدّعي الإسلام، وكافر لا يدعي الانتساب للإسلام.

هذه المقدمة الطويلة نسبياً، كانت ضرورية في رأيي لفهم المرحلة التي نعيشها الآن، والتي بدأت إرهاصاتها المباشرة في الظهور، منذ الغزو الأميركي للعراق. لقد أُطلقت أيادي التكفيريين منذ ذلك الوقت، لممارسة التحريض الطائفي، ظناً من السياسي بأن استخدام التكفيريين، سيكون كفيلاً بنجاحه في إدارة ملفات الصراع الإقليمي وقلب الطاولة على أعدائه وخصومه من الأنظمة الأخرى في المنطقة. لكن ما يحدث الآن، أثبت بأن التكفيري هو من استخدم السياسي لتحقيق أجندته الخاصة. وهي أجندة خطيرة دخلنا الآن في طورها الثاني، حيث تقوم «داعش» باستهداف السعودية والخليج مباشرةً، إضافةً إلى مصر وحتى تونس، في محاولة واضحة لخلق حالة من الفراغ الأمني، على غرار ما يحدث في سورية والعراق وليبيا.

وهي محاولة تعتمد على مهاجمة رجال الشرطة والجيش، وعلى عمليات التفجير الانتحارية المسنودة بالتحريض المذهبي الذي يهدف إلى إصابة المجتمع بالانقسام، أي تهيئة التربة الملائمة للاقتتال الداخلي أو الفراغ الأمني، أو كليهما معاً. وهكذا تكون الظروف قد اكتملت للبدء في هدم كيان الدولة الوطنية، لإعلان مشروع الخلافة كبديل.

المشكلة في رأيي تتمثل في إصرارنا على مواجهة أسباب الظاهرة (الإرهاب)، والهرب من البحث عن أسبابها (التكفير). وهذا بالتأكيد ما يفسر إصرار الأنظمة العربية على التعاطي مع الظاهرة في الحدود الأمنية فقط.

إن بذرة الداء كما أرى، تكمن في الفكر التكفيري أولاً، ثم في كل أشكال الدعم التي يسّرت له أن ينفرد بالمشهد الديني العام، ثانياً. ولكي أكون أكثر تحديداً، فإن الفكر التكفيري حتى في نماذجه التي لا تجيز الخروج على الحاكم، لا يزال يشتبك مع فكرة الوطن، في صراع أوصل بعض المرجعيات الكبرى لهذا التيار، إلى تحريم القتال في سبيل الوطن، على اعتبار أن مفهوم الوطن، وأنا أقوم هنا بدور الناقل فقط، يسوّق لفكرة كافرة هدفها تكريس التغريب!

إذاً نحن في حقيقة الأمر إزاء أزمة فكرية لا أزمة أمنية. وهذا النوع من الأزمات يمكننا أن نطلق عليه: أزمة تأسيسية، لأن الفكرة التي تتمكن من الغلبة ويتم ترجيحها من السلطة، ستحدد علاقتنا مع مفردة الوطن. فإما أن نتعامل مع مفهوم الوطن باعتباره أداةً للتغريب، وإما أن ننظر إليه باعتباره كياناً مقدساً لا يمكن المساومة عليه أو شرعنته أو تبريره، لأنه هو الذي يبرر نفسه.

لا شك أن المنطقة تمر منذ سنوات باستحقاقات تتمثل في وجود الإرادة الواعية بأهمية السؤال: ما موقفنا كسلطات وكشعوب في حال نشوب صراع بين الفكرة أو الفتوى وبين الوطن؟ وهل نحن مستعدون لاعتبار الوطن موضوعاً لجدال ديني ترى بعض أطرافه، افتقار الوطن للشرعية التي تجعله مقبولاً من الناحية الدينية، أم أننا غير مستعدين لذلك؟

الأزمة إذاً، وفي الجانب الأهم منها، أزمة خطاب ديني يرفض كل مقتضيات الحداثة بما في ذلك الوطن والدولة الوطنية. وفي جانب آخر، فإن الأزمة تتجلى في مدى وعي السياسي بحجم الخطر الذي بات يستدعي فك الارتباط بين ما هو وطني وديني، تمهيداً لفك حالة الارتباط بين ما هو ديني وسياسي. والديني هنا يعني القراءات الخاصة التي تقدمها بعض التيارات للدين، وليس الدين نفسه.

إن حالة التعبئة الطائفية التي أدت وظيفتها في خلق وجدان شعبي مناهض للشيعة بغرض الوقوف في وجه محاور دولية وإقليمية ما، بدأ يتجاوز الدور المطلوب منه، لأنه بدأ يطمح في تحقيق دولته على الأرض.

إن كل من يفهم ألف باء السياسة يعرف أن التحريض الطائفي في السعودية والخليج لم يعد ينطلق الآن من منطلقات تعصب عقدي، إنما هو مقدمة لإشاعة الاضطرابات والوقوع في حالة فراغ أمني أياً كان حجمها. وعندها فقط سيتطور الخطاب الديني التحريضي ضد الشيعة ليشمل الدولة الوطنية أيضاً، بعد أن تكون كل الظروف قد تهيّأت لجماعة «داعش» كي تتواجد على الأرض، بحجة السعي إلى ملء حالة الفراغ الأمني.

نحن الآن على مفترق طرق، فإما أن نعيد النظر في مشكلة الخطاب الديني التأسيسي ليكون قادراً على عقد مصالحة مع مفهوم الوطن، ومن ثم المواطنة التي لا يمكن أن يكون لها وجود خارج إطار التعددية، وإما الحفاظ على الخطاب الديني التقليدي بما يمثله من مرجعية تشريعية، دون إخضاعه لمحاولة إصلاح من الداخل. وهي مهمة يمكن لبعض علماء التيار السلفي المتنورين، كالشيخ الدكتور صالح بن حميد مثلاً، قياداتها على نطاق واسع.

نحن أمام مفترق طرق، وعلينا أن نتذكر دائماً أن الوطن لن ينتظرنا حتى نحسم أمرنا. مفهوم الوطن لا يمكن إصلاحه، أما السلفية فمطالبة بإصلاح نفسها حتى تتصالح مع مفهوم الوطن.

إقرأ أيضا لـ "أنس زاهد"

العدد 4690 - الجمعة 10 يوليو 2015م الموافق 23 رمضان 1436هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 2 | 9:25 م

      ابو شامي

      توصيف دقيق للحالة في الوطن القطري و الوطن العربي.
      لك الف شكر على هذا التوصيف الدقيق.مع ذكر العلاج للداء اذا صحت الاسمية..

    • زائر 1 | 2:19 م

      تحليل واقعي جداً ولكن

      على الكاتب ان يسمي الدول المتورطة بأسمائها و يسمي المتورطين بمذاهبهم والابتعاد عن اللف والدوران حتى تصل المعلومة للبسطاء الذين هم أكثر فئة يتم التغرير بها مثلا الدول التي أسست هذه الجماعات الإرهابية و مولتها هي دول ......بالمال و بالتنظير الذي قام به دعاةًا..............في كل بقاع العالم والهدف هو القضاء بعلو الشيعة وخلق حالة عدم استقرار في العراق وسوريا لان فقد صدام الذي كان يتولى أمر إبادة الشيعة قد خلق فراغا لهم

اقرأ ايضاً