العدد 4865 - الجمعة 01 يناير 2016م الموافق 21 ربيع الاول 1437هـ

التاريخ الموريتاني في عوالم الباراسيكولوجيا

رواية «منينة بلانشيه»

منينة وبلانشيه، اسمان لا علاقة لهما ببعضهما. بعيدان جغرافياً واجتماعياً، كما أنهما بعيدان لفظياً ومجازياً، فمنينة اسمٌ لفتاةٍ موريتانية بدوية، وباتريك بلانشيه، اسمٌ للكولونيل الفرنسي العقيم الذي كان ضابطاً في الصحراء الموريتانية في عهد الاستعمار.

في صوتين يأتيان من زمنين مختلفين، يتحدث جوزيف عن نفسه وعن أمه منينة. ذلك الأربعيني العازب الذي يعيش في بروكسل، ويقتات على إرث أبيه الذي لم يجعله عرضةً لسطوة الزمن طلباً للقمة العيش، لكنه بقي حتى هذا العمر أسيراً لحكاية أمه التي قتلت في تحطم طائرةٍ بصحبة أبيه الفرنسي بلانشيه، عندما كان يبلغ من العمر ثلاث سنواتٍ فقط.

الفرنسي صاحب الملامح الموريتانية، يعيش بهويته المكعبة أو ثلاثية الأبعاد. قانونياً، فإنه جوزيف بلانشيه، أما عضوياً وبيولوجياً فهو أحمد ولد خيبوزي، يحمل اسم بلانشيه بوثيقةٍ تثبت أنه فرنسي، ولكنه يعيش مع أبيه الموريتاني الذي لديه ما يثبت ذلك قانونياً أيضاً.

صراع الهويات المحتدم حول شخصيته، جعله يندفع أكثر لنقب تاريخه بالرجوع للماضي وعبور الزمن الذي تمّ إكلينيكياً بفضل التجارب السرية في مختبرات الدكتور برنارد، حيث يقوم بأبحاثه العلمية التي لا تتبع الأصول العلمية المعتادة، متخذاً من المتطوعين والمغامرين وسيلةً لتحقيق النجاح في تجاربه الخطرة.

وهكذا تنشأ بيئة الرواية التي تربط شوارع باريس وبروكسل وأنحائها مع إنسان «الزمكانين» البعيدين عن بعضهما تاريخياً وجغرافياً، فتارةً يقف جوزيف ليتحدث عن حالته وهو يعاقر بطالته المزمنة ووحدته، وتارةً أخرى نرى منينة تذرع الصحاري مع شعراء بلادها، حتى ترعى أباها الأسير «مختار الأعيور» الذي كان اسمه كما وجهه ذا صيتٍ في البلاد كلها، فهو الشجاع والشهم الذي فتك بأسدٍ كان يخشاه الناس، لكنه قضى حياته مشوهاً عندما تهتك وجهه وفُقأت عينه فكان يتلفع بلثامه طوال الوقت كي يخفي قبحه.

قبيلة مختار الأعيور، تتعرض «للتسييب» من قبل الفرنسيين، وهي إحدى العقوبات التي ينزلها المستعمرون بالقبائل المتمردة أو المدانة، فيقومون بمصادرة ممتلكاتهم وأخذ نسائهم كالسبايا، وجعلهم عرضةً للأعمال الوحشية مدةً من الزمن، قبل أن تبدأ المحاكمات القضائية، فيساق الأعيور إلى السجن الذي يحكمه الضابط الفرنسي جيروم، وسرعان ما تصبح منينة الفطنة خادمةً في قصره، حتى تصل إلى مبتغاها في أن ترعى أباها عن قرب، حتى إذا حان وقت محاكمته، تأخذ توصيةً من الضابط جيروم للبقاء معه، فتلتقي هناك بباتريك بلانشيه، الفرنسي الذي لقيها وهو على صهوة جواده فقرع قلبه لها وأعجب بتجشمها عناء السفر بحثاً عن أبيها المدان بجريمةٍ كبرى جعلته أسير زنازين القلاع الحصينة.

يتزوج بلانشه من منينة بعد أن يُسْلِمَ شكلياً على يد شيخٍ صوفيٍ يدعى الرحموني، لكنهما يقضيان سنين طويلة من غير أن ينجبا إلا عندما تزوجها ولد خيبوزي سراً بموافقة بلانشيه نفسه لكونه عقيماً، فلمّا أنجبت جوزيف، أتبعه باتريك باسمه إرضاءً لمنينة، قبل أن تتحطم طائرتهما ويموتان معاً في حادثٍ غامض.

حكايات منينة بكل تفاصيلها الدقيقة جاءت كلها من الكشوفات التي يحظى بها جوزيف بعد أن يتناول قرص الدكتور برنارد ويسلم نفسه للنوم ليسبر أغوار ذاكرته العميقة، فيعرف أن أصل الأرض التي بني عليها القصر الجمهوري في العاصمة الموريتانية نواكشوط تعود لأمه، فيعود لموريتانيا لرفع دعوىً بهدف إثبات امتلاكه للأرض، ويتجه فعلاً لأحد المحامين ويقوم بتقديم الوثائق تلو الوثائق التي تؤكد ذلك.

انتهز المحامي هذه القضية سياسياً ليقحمها في إطار صراعه مع الرئيس، مستغلاً كل الوسائل المتاحة كالصحافة والقضاء لإنجاح هذا الملف وصولاً بالاستقواء بدعم فرنسا، لأن جوزيف من حملة جنسيتها. كل ذلك في سبيل ربح القضية التي من المؤمل أن يحصل منها جوزيف على تعويضات مالية كبيرة تقدر بملايين الدولارات، سيأخذ منها المحامي العتيد مليوناً فقط، وهي القضية التي ظلت حبيسة الأدراج، بسبب البطء الإداري والبيروقراطية القاتلة، شأنها شأن آلاف القضايا الأخرى التي تم إغلاقها قضائياً لكنها مازالت مفتوحةً على أرض الواقع.

وبهذا يختم الروائي الموريتاني «محمد ولد أمين» روايته بنهايةٍ مفتوحةٍ على جميع الأسئلة والانطباعات التي تظلّ ملحةً عند القارئ لمعرفة تاريخ موريتانيا، وسكان الصحراء العربية في المغرب العربي. لقد كانت هذه الرواية كما يقول الكاتب نفسه محاولةً جادةً وبعيدةً عن استقطابات النخب العربية المتأثرة باليسار، لدراسة حقبة الاستعمار ومسيرة بناء الدولة الموريتانية.

إنها صوتٌ من ذلك المكان الذي ظلّ متعلقاً باللغة العربية فأصبح يحوي أكبر عددٍ من الشعراء، وهو صوتٌ روائيٌ مختلفٌ بنى عمله الأدبي بتقنيةٍ سرديةٍ حديثةٍ، ومزج بين زمنين مختلفين بأبعادهما، وأشبعها بحقائق التاريخ الذي لا يعرفها كثيرٌ من العرب، ثم جعل من أحداثها بحراً يجدف فيه ليشرح من خلاله وجهة نظره في في مثالب المجتمع والواقع السياسي المريض، وهي فوق كل ذلك ذات لغةٍ رصينةٍ ومتدفقةٍ يجزم قارؤها أنها تتحدث عن «منينة» التي كانت تسافر في الصحاري الموريتانية وعن جوزيف اليتيم والوحيد، كحقيقةٍ لا يشوبها الخيال!

العدد 4865 - الجمعة 01 يناير 2016م الموافق 21 ربيع الاول 1437هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 3 | 5:18 م

      اشهد ان الأستاذ محمد ولد امين كاتب روائي من الطراز الاول ومحام محترف وسياسي محنك ولاغرو ان تعددت مواهبه فهو من معدن عجنت طينته بالذكاء والفطنه والسيادة والرياده حفظه اللّٰه وانار دربه

اقرأ ايضاً