العدد 4900 - الجمعة 05 فبراير 2016م الموافق 26 ربيع الثاني 1437هـ

أنشودة السياب والمعنى القرآني للمطر

المنامة - عبدالله جناحي 

تحديث: 12 مايو 2017

أحسب أن قصيدة (أنشودة المطر) للشاعر العراقي بدر شاكر السياب، قصيدة خالدة حيث تنبأ الشاعر فيها بالكثير من الأزمات التي تعيشها منطقة الخليج عموماً والعراق على وجه الخصوص، وهي القصيدة التي نشرت في الخمسينيات وأصدرها الشاعر في ديوان بنفس العنوان في أوائل الستينيات من القرن الماضي.

هذا المقال لا يحاول تحليل أو تفكيك القصيدة فنياً، إنما الهدف الرئيسي هو تبيان بعض تنبؤاتها، ومدى فهمها لمفردة (المطر)، حيث يتجلى إبداع هذه القصيدة في مقاربتها مع معنى (المطر) في الآيات القرآنية.

تنبؤات القصيدة:

في مقطع يقول فيه الشاعر

وعبر أمواج الخليج تمسح البروقْ

سواحلَ العراق بالنجوم والمحار

كأنها تهمّ بالشروق

فيسحب الليل عليها من دمٍ دثارْ

أَصيح بالخليج: «يا خليجْ

يا واهب اللؤلؤ، والمحار، والرّدى!»

فيرجعُ الصّدى

كأنّه النشيجْ:

«يا خليج

يا واهب المحار والردى..»

يتجلى الإبداع في سرقة الثروة العامة وبقاء الجوع والموت حين رجع الصدى دون (اللؤلؤ) كرمز للعيش الكريم وثروة الأمة.

وفي مقطع آخر يتكلم عن آلام وعذابات الشعب العراقي وزيادة في عدد المهاجرين من أرض العراق، وكأنه يشخص الوضع الراهن تماماً.

أكاد أسمع العراق يذْخرُ الرعودْ

ويخزن البروق في السّهول والجبالْ

حتى إِذا ما فضَّ عنها ختمها الرّجالْ

لم تترك الرياح من ثمودْ

في الوادِ من أثرْ

أكاد أسمع النخيل يشربُ المطر

وأسمع القرى تئنّ، والمهاجرين

يصارعون بالمجاذيف وبالقلوع

وينثر الخليج من هِباته الكثارْ

على الرمال،: رغوه الأُجاجَ، والمحار

وما تبقّى من عظام بائسٍ غريق

من المهاجرين ظلّ يشرب الردى

من لجَّة الخليج والقرار

وفي مقطع آخر ينطق وكأنه لسان حاله يفضح الفساد الكبير وسرقة المال العام من قبل الحكومات العراقية المتعاقبة حتى وقتنا الراهن.

وفي العراق جوعْ

وينثر الغلالَ فيه موسم الحصادْ

لتشبع الغربان والجراد

وتطحن الشّوان والحجر

وكلَّ عام – حين يعشب الثرى – نجوعْ

ما مرَّ عامٌ والعراق ليس فيه جوعْ

وحقاً ما يزال في العراق غربان وجراد يأكل الأخضر واليابس.

وفي العراق ألف أفعى تشرب الرَّحيقْ

من زهرة يربُّها الفرات بالنَّدى

ورغم هذا الحزن والجوع والظلم، إلا أن القصيدة تنظر بعين من الأمل للمستقبل القادم:

في كل قطرة من المطر

حمراءُ أو صفراء من أجنَّة الزَّهَرْ

وكلّ دمعةٍ من الجياع والعراة

وكلّ قطرة تراق من دم العبيدْ

فهي ابتسامٌ في انتظار مبسم جديد

أو حُلمةٌ تورَّدتْ على فم الوليدْ

في عالم الغد الفتيّ، واهب الحياة!

مطر...

مطر...

مطر...

سيُعشبُ العراق بالمطر...

المطر والمعنى القرآني:

تعاملت قصيدة «أنشودة المطر» مع مفردة (المطر) فيها بمجازات وإيحاءات قريبة من المقاصد المختلفة للمطر في الآيات القرآنية حسب التفسيرات والتأويلات. فمن المعروف أن جدلاً قد حدث حول هذا الموضوع بين طرف يرى أن كلمة (مطر) في جميع تلك الآيات يقصد بها العذاب والأذى وليس الماء النازل من السماء، وطرف آخر يرى بأن هذه الكلمة يصح إطلاقها على الخير والشر، ورغم إنني لست متبحراً في هذا الحقل التفسيري للآيات القرآنية، لذا سأستعين ببعض التفسيرات من المواقع الإلكترونية.

ففي حديث الصحيحين ورد أن «مطرنا بفضل الله ورحمته» وكما في قوله تعالى في القرآن الكريم (وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن كَانَ بِكُمْ أَذًى مِّن مَّطَرٍ أَوْ كُنتُم مَّرْضَى أَن تَضَعُواْ أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُواْ حِذْرَكُمْ إِنَّ اللّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا) «النساء 102»

ففي تفسير هذه الآية قول ابن عتيبة بأن (وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن كَانَ بِكُمْ أَذًى مِّن مَّطَرٍ) فلا تدخل تحت هذه القاعدة فالمطر هنا يراد به الغيث، وهو رحمة، فلم يستعمل في العذاب، وإنما حصل التأذي بثقل حمل السلاح حينئذ.

وقد جاء في تفسير البغوي: (وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن كَانَ بِكُمْ أَذًى مِّن مَّطَرٍ أَوْ كُنتُم مَّرْضَى أَن تَضَعُواْ أَسْلِحَتَكُمْ) رخص في وضع السلاح في حال المطر والمرض، لأن السلاح يثفل حمله في هاتين الحالتين.

ورغم أن جميع الآيات الأخرى تشير فيها كلمة مطر للعذاب، ما عدا هذه الآية 102 من سورة النساء، فقد استعملت كلمة (مطر) في العذاب كما في «آية الأعراف 84» (وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم مَّطَرًاً فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ) أو في «آية الانفال 32» (وَإِذْ قَالُواْ اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَـذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ) أو في «آية هود 82» (فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ مَّنضُودٍ)، ونفس المعنى في «سورة الحجر الآية 74» أو في «آية الفرقان 40»(وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا بَلْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ نُشُورًا)، أو كما في «سورة الشعراء الآية 173 (وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم مَّطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنذَرِينَ) وهو نفس المعنى في «سورة النمل الآية 58»، وفي «سورة الأحقاف الآية 24» (فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُم بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ).

وصحيح أن المعنى السائد لدى العامة والشعراء بأن معنى كلمة (مطر) هو الماء النازل من السماء، غير أن الآيات القرآنية التي تشير إلى هذا الماء النازل من السحاب، استخدمت فيها كلمة (الماء) و (الغيث) بدل كلمة (مطر)، ففي «سورة الأعراف الآية 57» (وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّىإِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)، وفي «سورة الحج الآية 5» (وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ)، وفي «سورة السجدة الآية 27» (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ)، وفي «سورة فصلت الآية 39» (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)، وفي «سورة الانفال الآية 11»(إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِه). وفي «سورة الحجر الآية 22» (وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ)، وفي «سورة النحل الآية 10» (هُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء لَّكُم مِّنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ ). وغيرها من الآيات.

أما في «لسان العرب» فإنه ينحاز لمعنى المطر باعتباره «الماء المنسكب من السحاب، والمطر ماء السحاب» غير أنه يشير أيضاً إلى أن «ناس يقولون: مطرت السماء، وأمطرت بمعنى، وأمطرهم الله مطراً أو عذاباً» أي أنه ينحاز لقابلية معنى المطر باعتباره الماء النازل من السماء أو بمعنى العذاب.

قصيدة «أنشودة المطر»

وتعاملها مع «المطر»:

في هذه القصيدة شاعرنا السياب في مفهومه لمعنى المطر باعتباره الماء النازل من السماء، ولكنه في مضمون القصيدة تستشف أيضاً كثرة من حالات الحزن والعذاب والألم التي يخلقها هذا المطر، بل تتعامل القصيدة مع المطر باعتباره رمزاً للموت والظلام بجانب كونه رمزاً للميلاد والخصب.

كالبحر سرَّح اليدين فوقه المساء

دفء الشتاء فيه وارتعاشة الخريف

والموت، والميلاد، والظلام، والضياء

فتستفيق ملء روحي، رعشة البكاء

وهناك ترابط وثيق بين المطر والحزن.

تثاءب المساء، والغيومُ ما تزالْ

تسحُّ ما تسحّ من دموعها الثقالْ

وتكملة لهذا المقطع من القصيدة يربطه الشاعر بالموت.

وإِنْ تهامس الرفاق أنهَّا هناكْ

في جانب التلّ تنام نومه اللّحودْ

تسفّ من ترابها وتشرب المطر

بل تعلن القصيدة بشكل واضح مدى ارتباط المطر بالحزن والوحدة والموت.

مطر ..

مطر ..

أتعلمين أيَّ حُزْنٍ يبعث المطر

وكيف تنشج المزاريب إِذا انهمر؟

وكيف يشعر الوحيد فيه بالضّياع؟

بلا انتهاء – كالدَّم المراق، كالجياع،

كالحبّ، كالأطفال، كالموتى – هو المطر

وحين تطرقت القصيدة للبعد السياسي فقد ربطت المطر كرمز للثورة والغضب تارة، ورمز للمستقبل القادم تارة، ورمز للموت تارة ثالثة.

ومقلتاك بي تطيفان مع المطر

وعبر أمواج الخليج تمسح البروقْ

سواحلَ العراق بالنجوم والمحار

كأنها تهمّ بالشروق

فيسحب الليل عليها من دمٍ دثارْ

أَصيح بالخليج: «يا خليجْ..

ويكشف المقطع التالي من القصيدة مدى ارتباط المطر بالدمار والخراب حيث يسترجع قصة قوم ثمود:

أكاد أسمع العراق يذْخرُ الرعودْ

ويخزن البروق في السّهول والجبالْ

حتى إِذا ما فضَّ عنها ختمها الرّجالْ

لم تترك الرياح من ثمودْ

في الوادِ من أثرْ

إن ارتباط المطر في هذه القصيدة بحالات الحزن والألم يطغي كثيراً قياساً بارتباطه بالفرح.

أكاد أسمع النخيل يشربُ المطر

وأسمع القرى تئنّ، والمهاجرين

يصارعون بالمجاذيف وبالقلوع

عواصف الخليج، والرعود، منشدين:

« مطر ...

مطر ...

مطر ...

وفي العراق جوعْ

وكم ذرفنا ليلة الرحيل، من دموعْ

ثم اعتللنا – خوف أن نلامَ – بالمطر ...

مطر ...

مطر ...

بل إن القصيدة تربط هطول المطر بإنتاج الجوع بدل الخصب.

ومنذ أنْ كنَّا صغاراً، كانت السماء

تغيمُ في الشتاء

ويهطل المطر،

وكلَّ عام – حين يعشب الثرى – نجوعْ

ما مرَّ عامٌ والعراق ليس فيه جوعْ

ومع كل هذا الانحياز المجازي للمضمون القرآني لمعنى «المطر» من عذاب وألم وموت وجوع وحزن، إلا أن القصيدة في مقاطع أخرى تتعامل مع المطر كواهب للحياة والأمل بقدوم غد مبتسم وخصوبة مستقبلية للعراق:

في كلّ قطرة من المطرْ

حمراء أو صفراء من أجنَّةِ الزَّهَرْ

وكلّ دمعة من الجياع والعراة

وكلّ قطرةٍ تراق من دم العبيدْ

فهي ابتسامٌ في انتظار مبسمٍ جديد

أو حُلمةٌ تورَّدت على فم الوليدْ

في عالم الغد الفتيّ، واهب الحيا!

مطر .. مطر .. مطر

سيعشب العراق بالمطر..

قصيدة «أنشودة المطر» إن كانت في برانية مفهوم الشاعر للمطر هو المفهوم السائد باعتباره الماء النازل من السماء، إلا أن في جوانية القصيدة فالمطر مرتبط أشد الارتباط بالمعنى القرآني الأغلب لمعنى المطر، وإن انتهت القصيدة بربط المطر بقدوم الأيام السعيدة على العراق.

بدر شاكر السياب
بدر شاكر السياب




التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً