العدد 5069 - السبت 23 يوليو 2016م الموافق 18 شوال 1437هـ

«تورنج»... سيرة حياة وأدوار وصدمات أيضاً

المنامة - محمد عبدالله عبدالرسول 

تحديث: 12 مايو 2017

عشقت آلان تورنج وتعاطفت معه منذ أن شاهدت فيلم «Imitation Game»، ولما علمت أن هذا الفيلم الرائع مقتبس من أحد الكتب، قررت أن أقرأه.

يتحدث الكتاب عن حياة العالم البريطاني آلان تورنج منذ طفولته، مروراً بشبابه ومنجزاته العلمية، حتى وفاته المفاجئة. يتطرق كذلك إلى شخصية تورنج وطريقة تفكيره وطباعه، وحتى كتبه المفضلة. ويعطي الكاتب كل موضوع حقه من التفصيل، إذ يبدو أنه قام ببحث عميق لحياة تورنج حتى يقدم لنا هذا الكتاب الذي تزيد عدد صفحاته على 600 صفحة يحتوي الكتاب على بعض الأمور التقنية، وخصوصاً فيما يتعلق بمنجزات تورنج العلمية ولكن تغلب عليه اللغة البسيطة سهلة الفهم.

ولد آلان تورنج في عائلة من الطبقة المتوسطة وكان والداه يخدمان في المستعمرات البريطانية في الهند، لذلك كان قليلاً ما يراهما في صغره. منذ أيام دراسته في الابتدائية كانت علامات الفطنة والذكاء واضحة عليه وكان يحب قراءة الكتب، إلا أنه واجه في البداية مشاكل في دراسة بعض المواد الإنسانية كالإغريقية. وكان هذا على خلاف تفوقه المنقطع النظير في المواد العلمية والرياضيات.

في المرحلة الثانوية تعلق بشدة بأحد زملائه لدرجة تقديس التراب الذي كان يسير عليه، وكانت هذه العلاقة تصل لحد العشق من طرف تورنج إلا أنه لم يصرح بذلك لزميله الذي كان متميزاً في المواد العلمية مثله. قبل التخرج من الثانوية بقليل، تعرض تورنج لأكبر صدمة في حياته عندما توفي زميله هذا بمرض السل. ظل تورنج متمسكاً بذكراه حتى آخر عمره، حتى إنه ضاعف من جهوده العلمية اعتقاداً منه أن روح صديقه تراقبه وتدعمه في عمله.

يحصل تورنج بعد ذلك على بعثة إلى كلية كنجز في جامعة كامبريدج الشهيرة حيث تخصص في الرياضيات. عشق تورنج الرياضيات والمنطق وأبدع بهما، فتم انتخابه للجمعية الرياضية البريطانية وهو بعمر الثانية والعشرين فقط. طوّر تورنج أفكاره حول قدرة الآلات على التفكير وكتب ورقة بحثية شكلت أساساً مهماً لتطور الحواسيب. في هذه الفترة بدأ تورنج يتخلى عن الروحانيات ولم يعد يؤمن بوجود إرادة حرة، بل آمن بالتفسيرات المادية البحتة حتى أنه توقف عن الإيمان بوجود إله.

تبدأ المرحلة التالية من حياة تورنج مع ظهور بوادر الحرب العالمية الثانية وهي المرحلة التي ركز عليها الفيلم، حيث توكل إليه مهمة قيادة الفريق المسئول عن تفكيك الشفرة الألمانية «الإنجما» والتي كان يعتقد أنها غير قابلة للاختراق، ولكن تورنج ينجح في ذلك بمساعدة فريقه، وهو ما يساهم في تقدم بريطانيا وأميركا بشكل ملحوظ في الحرب، وخصوصاً فيما يتعلق بمواجهة الغواصات الألمانية في المحيط الأطلسي والتي كانت تستهدف قافلات المؤن القادمة من أميركا التي شكلت شريان حياة الجزر البريطانية. قدّر بعض الكتاب أن فك شفرة «الإنجما» ساهم في تقليص عمر الحرب العالمية الثانية لأكثر من أربع سنين، حيث إن جميع الاتصالات الألمانية في مختلف أرجاء العالم وكل خططهم كانت مكشوفة لدى الحلفاء.

بعد الحرب يستمر اهتمام تورنج في تطوير آلات تحاكي العقل البشري أو كما أطلق عليها «العقل الاإلكتروني» وقد استفاد من خبرته أثناء الحرب بشكل كبير، إلا أنه لم يكن يصرح بهذا بسبب سرية الأنشطة التي مارسها آنذاك. كان تركيزه هو على صناعة آلة تستطيع معالجة جميع أنواع المشاكل وتستطيع التعلم والتطوير من نفسها. يساهم تورنج في تطويل أول حاسب آلي في مدينة مانشستر بعد حصول المشروع على دعم مالي من الحكومة.

أما الفصل الأخير عن حياة تورنج فيتعلق بميوله الجنسية المثلية والتي اكتشف وجودها لديه منذ بلوغه. يشرح الكاتب الظروف الاجتماعية للمجتمع البريطاني حينها، وكيف أن الممارسة المثلية للجنس كانت تعتبر جريمة وفقاً للقانون. تكتشف الشرطة وجود علاقة جنسية بين تورنج وشاب أشقر أزرق العينين في التاسعة عشر من العمر بعد أن يقوم تورنج بالإبلاغ عن جريمة سطو حدثت في منزله. يعترف بشكل شيء للشرطة وتتم محاكمته. على رغم دفاع أصدقائه عنه وشهادة عدد من العلماء بكفاءته وأهميته للدولة، فإن المحكمة تقضي عليه بالعلاج عن طريق أخذ الهرمونات الأنثوية للتقليل من شهوته، حيث إن المثلية الجنسية كانت ينظر لها على أنها مرض نفسي. تصيب تورنج أعراض كثيرة بسبب هذه الهرمونات منها زيادة حجم صدره وهناك بعض الدراسات تشير إلى تأثير هذه الهرمونات على التفكير أيضاً. بدأ تورنج خلال هذه الفترة بزيارة طبيب نفسي كان متفهماً بشكل كبير لمشاكله وقد كون علاقة مميزة معه ومع أسرته.

في صبيحة الثامن من يونيو/ حزيران 1954، أي بعد عامين من محاكمته وجدت الخادمة تورنج ممداً على السرير بلا حراك وبجانبه تفاحة مقضومة. خلصت الشرطة إلى أنه توفي عن طريق الانتحار بأكل تفاحة مغموسة في مادة السيانايد السامة. تنتهي بذلك حياة أحد أبرز علماء القرن العشرين قبل ميلاده الثاني والأربعين بعدة أيام فقط.

بشكل عام كان الكتاب رائعاً وسلساً، على رغم عدم احتوائه على الكثير من التشويق وهو أمر قد يكون متفهماً لأنه يتحدث عن سيرة شخصية علمية، ولكني قرأت سيراً لشخصيات علمية أخرى أحسست أنها احتوت مقداراً أكبر من التشويق، ربما لا يكون هذا بسبب الكتاب ذاته بل بسبب معرفتي لأبرز الأحداث لمشاهدتي للفيلم وربما أيضاً بسبب المقارنة بين الاثنين. كشف لي الكتاب بعضاً من الأخطاء التاريخية التي وردت في الفيلم وكذلك دفعني للتفكير من جديد في مسألة الأشخاص المختلفين عن المجتمع، وكيف يتم ظلمهم واضطهادهم بسبب أفكارهم أو ميولهم الجنسية على رغم تقديمهم خدمات جليلة للوطن.

في ألمانيا النازية، قامت الدولة بإعدام جميع المثليين جنسياً، وقال رئيس القوات الخاصة والشرطة السرية «الجيستابو» هاينريش هيملر، إنه لا يمكن في ألمانيا القبول بأي شخص غير ملتزم بكل القيم النازية، وإنه لن تشفع لهم أية قدرات أو مواهب خاصة. فكان من سخرية القدر أن يساهم عالم ملحد مثلي جنسياً في إسقاط هذه الدولة الشمولية القمعية. في العام 2009 قامت الحكومة البريطانية على لسان رئيس وزرائها بالاعتذار لما قامت به بحق تورنج وبعد ذلك بأربع سنوات أصدرت الملكة عفواً عنه. وفي 2014 أصدر الفيلم الذي أشرت له عدة مرات والذي نشر قصة تورنج بشكل أوسع للعامة.

يا ترى كم عبقرياً عربياً هرب إلى المهجر بسبب ضغط المجتمع ورفضه لهم؟ ومتى سنفهم أن حياة الناس الشخصية هي ملك لهم طالما لم يؤذوا أحداً؟ لا شك في أن الكثيرين سيختلفون معي في وجهة النظر هذه، ولكن من ينظر لمصلحة الوطن والأمة سيكون حريصاً على حفظ جميع طاقاتها، حتى وإن أتت ممن نختلف معهم بشدة.





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً