العدد 5106 - الإثنين 29 أغسطس 2016م الموافق 26 ذي القعدة 1437هـ

«الرجل الذي حسب زوجته قبعة» للكاتب أوليفر ساكس

يستخدم الأسلوب السردي الإنساني لاستعراض حالات غريبة خلال مسيرته كطبيب أمراض عصبية

المنامة – محمد عبدالله عبدالرسول 

تحديث: 12 مايو 2017

حلت اليوم الذكرى الأولى لوفاة الكاتب البريطاني أوليفر ساكس والذي كان متخصصًا في علاج الأمراض العصبية لأكثر من نصف قرن ومشهورًا بكتبه التي يتناول فيها حالات مرضية غريبة. «الرجل الذي حسب زوجته قبعة» هو أحد أشهر هذه الكتب، وقد نصحني به أحد الأصدقاء وكذلك أحد بروفيسورات الجامعة. في صفحاته المئتين وخمسين استعرض ساكس أربعًا وعشرين حالة مرضية غريبة مستخدمًا الأسلوب القصصي. حرص الكاتب على أن يظهر الاحترام والتقدير للمرضى الذين استعرض حالاتهم مستخدمًا أسلوبًا إنسانيًا عاطفيًا يغيب في العادة عن التقارير الطبية للمرضى.

في المقدمة ينتقد ساكس الأطباء الذين يشيرون للمرضى وكأنهم مجرد حالات جامدة وليسوا بشرًا بمشاعر وأحاسيس، ويدعو أن تكون التقارير الطبية أكثر شخصية وبطريقة سردية، وينتقد كذلك استخدام المصطلحات الطبية التي لا يفهمها العامة. يمزج ساكس بين العلم والرومانسية ليخرج لنا بقصص تشرح لنا الأمراض بشكل علمي جيد وفي نفس الوقت تنقل لنا أحاسيس المريض وما يمر به، وبفعل أسلوبه الممتاز يجعلنا ساكس نتخيّل المشاهد وكأننا نعيشها معه ونقع في نفس حالة الحيرة والتعجب التي أصابته حين رأى وسمع وأحس بهذه الحالات لأول مرة.

في القصة الأولى يأخذنا الكاتب لمريض يشير له بإسم «دكتور ك». يعمل «ك» مدرسًا للموسيقى وقبل عدة سنوات بدأ يلاحظ أمور غريبة تحدث له، أولها عدم قدرته على التعرف على وجوه الطلبة لديه، حيث لم يعد يستطيع تمييزهم إلا من خلال أصواتهم، ومن ثم بدأ يرى صورًا للوجوه في أماكن غريبة كالطاولة والكرسي رغم عدم وجود أحد. في أول جلسة طبية له، لاحظ الكاتب أن «ك» يستطيع ملاحظة التفاصيل بدقة، إلا أنه لا يرى الصورة الكلية، فهو يستطيع رؤية شكل الأنف والفم والعينين ولكنه لا يستطيع رؤية الوجه كصورة واحدة، فهو لم يستطع التعرف على وجوه أقربائه أو حتى على وجهه، إلا أنه تمكن من تمييز وجوه عدد قليل من الأشخاص كآينشتاين بسبب شاربهم الكبير أو تسريحة شعرهم المميزة.

تسمى هذه الحالة «العمى الإبصاري»، ويمتد تأثيرها حتى للصور في الخيال، حيث أن « ك» لم يكن يستطيع تخيّل الوجوه في عقله، وحتى أحلامه كانت غير بصرية. لم يحس «ك» بأنه فقد أي قدرة، وكأنه ولد هكذا، حتى ذكرياته السابقة لم يكن يستطيع استرجاعها بصورة بصرية. وقد واجه مشاكل في التعرف على الأشياء بسبب تفكيره في الأمور بشكل تجريدي تمامًا وكأنه حاسوب، فالقفاز مثلًا لم يعد قفازًا بالنسبة له، بل كان كيسًا جلديًا به خمس فتحات وكذلك الوردة كانت مجرد شكل اسطواني طويل بآخره جسم ما. بالمقابل كان من السهل عليه التعرف على الأشكال المجردة كالمكعب ورباعي السطوح. رغم هذه المشاكل، فلم يواجه «ك» أية مصاعب في ما يتعلق بعمله في الموسيقى، بل كان يؤديه على أكمل وجه. عند انتهاء الجلسة الطبية، أراد «ك» أن يلبس قبعته ويمضي، إلا أنه عوضًا عن ذلك أمسك رأس زوجته وأراد اقتلاعه من مكانه ووضعه فوق رأسه! ومن هنا كانت تسمية الكتاب «الرجل الذي حسب زوجته قبعة».

في قصة أخرى يتحدث الكاتب عن «جيمي جي» المصاب بمشكلة في الذاكرة، حيث أنه يعتقد أنه يعيش في العام 1945، بينما كان العام حينها 1984. والغريب أن الأحداث الجديدة تمحى من ذاكرة «جيمي جي» خلال أقل من دقيقة، فلا يعود يذكر ما الذي جرى له أو أين هو الآن. يعرض الكاتب عليه بعض التطورات العلمية الحديثة كالهبوط على سطح القمر والعناصر الجديدة المكتشفة وتصميمات الطائرات الحديثة، كل هذا يصيبه بالدهشة الشديدة جدًا والحيرة، ولكن أكثر ما صدمه هو رؤية وجهه في المرآة، حيث أنه كان يعتقد طوال الوقت أنه في التاسعة عشر من العمر، بينما هو في نهاية الخمسينات. تسمى هذه الحالة «متلازمة كورساكوف» وهي تنتج بسبب إدمان الكحول الذي يؤدي لنقص في مادة الثيامين في الجسم.

وهكذا يستمر الكاتب في استعراض الحالات الأربع وعشرين والتي تشمل «السيدة بلا جسد»، «الكلب تحت الجلد»، «الأشباح»، «المسكون»، «التوأمان»، «رحلة إلى الهند»، «الفنان المتوحّد» وغيرها. كل هذه الحالات غريبة ومثيرة للفضول وتقربنا أكثر لفهم كيفية عمل الدماغ، يقدمها الكاتب بأسلوب بسيط وشخصي بحيث يكون التركيز على المريض ذاته وليس على المرض. يقتبس الكاتب كثيرًا من كتب العلوم والأدب والفلسفة ما يظهر إطلاعه الواسع، وتكون هذه الاقتباسات مناسبة لوصف الحالات المرضية وتحليلها.

قبل قرائتي للكتاب، كنت أظن أن الكتاب إما سيكون عبارة عن حالات مرضية مملة بالنسبة لي كخريج جامعة طبية درس علم الأعصاب وشاهد وقرأ عن الكثير من الحالات الغريبة طوال سنوات الدراسة الست، أو أنه سيكون معقدًا وتقنيًا وبالتالي غير مناسب للقارئ غير المتخصص في الطب. ولكني كنت مخطئًا في التقديرين، فالكتاب ينجح في تقديم محتوى يناسب النوعين، فلا هو معقّد جدًا ولا هو سطحي جدًا، والحالات المذكورة فيه نادرة وغريبة لم أعرف كثيرًا منها سابقًا، فضلًا عن أن تقديمها بصورة شخصية يجعل فهمها مختلف عمّا في الكتب الطبية الخالية من العواطف.

قد يرى البعض أن هذه نقطة سلبية، فالكتاب ليس عميق بما فيه الكفاية للمتخصصين، ولكنه يحتوي بعض الأمور غير المفهومة لدى العامة، حيث أن الكاتب يقع في بعض الأخطاء التي انتقدها في المقدمة من حيث استخدامه لمصطلحات طبية دون القيام بشرحها للقارئ. كذلك فإن الكاتب يتعمّق بشكل كبير في القصص في بداية ونهاية الكتاب، بينما كانت بعض القصص في المنتصف قصيرة نسبيًا وبمستوى أقل. بشكل عام ينجح الكتاب في إثارة الكثير من الأسئلة والتأملات حول العقل البشري الذي وصفه الكاتب بـ«أكثر الأمور روعة في الكون» وحول كيفية عمله وعلاقته بالجسد.





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً