العدد 5125 - السبت 17 سبتمبر 2016م الموافق 15 ذي الحجة 1437هـ

قصة قصيرة... بيلسان

- حنانيكِ سيدتي!... أيُ جرمٍ اقترفت؟!

- وتسألين ماذا فعلتِ؟ أنتِ لا تستحقين عفوي لأن الأعمال المشينة تسري في عروقك.

- افعلي بي أي شيء... أي شيء، لكن أرجوك أن تخبريني ما هو الجرم الذي لا يستحق العفو؟!

- لا فائدة من الحديث معكِ لذلك لن أطيله... انصرفي إلى عملك ولا تُريني وجهك مرة أخرى.

سكونٌ قاتل. أبعد ما يكون عن السكون. دموعٌ مكفكفة، وقلوبٌ خائفة. هل حقاً أستحق كل ذلك التوبيخ العنيف؟ وعلى ماذا بالتحديد؟

سيدتي كثيرة الشكوك، متقلبة المزاج، ذات طبعٍ حاد في كل شيء. لا تنفك تسمع صوتًا إلا وجعلتني السبب. حتى حين يبكي صغيرها، تقول لي بأنني لو كنتُ متيقظة لما بكى.

أما أنا فلا أطيل معها الجدال، وألتزم الصمت، وأمضي إلى عملي، حاملة معي أفكاريَ الخرساء مِثلي، تارةً أجزم بأنني مذنبة، وتارةً أخرى كثيرة أحمل شحنة حزني الثقيلة، وأذهب لأكدسها وذكرياتي الأليمة في دفترٍ أخبئه تحت الوسادة الصفراء النتنة، في المكان الذي وضعوني فيه وأسموه غرفتي.

حنانيكَ ربي... كيف لقلبي الخائف أن يسكن إلا بقربك. وكيفَ لحقي القليل أن يضيع عندك. فهل أذنبتُ حين أُحضرت من بلدي هناك إلى هُنا؟ وأيُ جرمٍ اقترفت؟!

لم أجرؤ أبدًا من الاقتراب أكثر من بضعة أمتار من غرفتها، حتى ولو كان الأمرُ طارئًا أسيرُ دون أن أترك لفضولي الفوز بالمعركة، مسمَّرة العينين، منحنية الظهر، بآثار ضربٍ مبرح في شتى ساحات جسدي النحيل، وثغري تعلوه جروح كلماتها التي لا تُداوى.

حتى ابنها الصغير، لم أشعر قط بأنها تكن له القليل من العطفِ والحنان. فحين يبكي توبخه بشدة، دون أن تتكبد عناء معرفة سبب بكائه.

أقضي لياليَ الباقية متكوِّرة على نفسي، أصلي للرب من أجل أن أنسى كل ما عانيته ها هنا حين أعود إلى بلدي، إلى طفليَّ وزوجي. كنت أتحدث إليهما كل ليلة خفيةً فقط كي أستمع إلى كلماتٍ لا تجرح، كلماتٍ طيبة، تُشعرك بأنك من بني البشر، ولست مذنباً لأنك كذلك.

لقد لثمتُ هذا الكون الذي أقطنه بعيني وجسمي كله، وأدخلته قلبي قسرًا بطياته التي لا حصر لها، وسفحتُ فوق أيامه ولياليه شتى الأفكار التي لا فائدة حقيقية ترجى منها، حتى التأمَ الكون مع حياتي، وإنني لأُكلَف بحياتي لأن ربي خلقني، ربَ السماوات والأرض، رب النور الكامن في نفسي، والذي لولاه لما عشت حتى اللحظة.

إنني أعلم بأن الشمس ستوافيني ذات يوم، في غروبٍ داكن بوداعها الأخير، وأعلم أن مثلي لا يعيش طويلًا في مثل هذا العذاب الأليم، ولا منجى من ملاقاة الرب، لكنني أعلم أيضًا بأني سأوافيها بروحٍ مؤمنة صبورة، كالتي تسكنني وأتقاسم معها العذاب في كل يوم.

حينئذٍ، سينفخ الرعاة في ناياتهم اللحن الأخير، وستترادف أيامهم وسط الظلام، وسيهفو هذا الرجاء الخافت من أرواحهم الدامسة:

رباه... لمَ تسلل الموتُ من كونٍ إلى كون؟ لمَ تركتنا في لهونا نربح في كل مرة؟ أرجعنا نعمل غير ما كنا نعمل. أرجعنا... فإنا نرجو عفوك!

حينها ستكنس أرواحهم البالية غبار الساحات وأوساخها، وفيما يدور خلدك ربي، ستطلِعُ في كوننا أرواحًا نادمة، لن ينفعها الندم، فكل الأشياء ستصمت، وكل الأرواح ستتضاءل وتُمحى أيامها. هناك... أمامك يا رب...

هكذا أريده... إيمانًا بأن الظلم لا يدوم، ويقينًا بأن النفس مهما علا شأنها فإنها ذليلة وصاغرة أمام ربها، رب كل شيء.





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 3 | 1:46 ص

      مفردة "حنانيك" لم تعد تستخدم الا في القصص التاريخية الموغلة في القدم او في الشعر احيانا. فهي لغة لا تناسب العصر و لا تؤدي الغرض .. ربما تحل محلها ارجوك .. او اتوسل اليك او استحلفك بالله ..
      عموما التعابير جميلة ولكنها تكاد تكون خاطرة اقرب منها قصة..
      موفقين

    • زائر 2 | 2:33 ص

      بداية القصة كانت رائعة الا وللاسف تحولت لاحقا الى مناجاة وغابت مؤلفات القصة تماما.

    • زائر 1 | 1:56 ص

      الفكرة جيدة، ولكن الكاتبة لجأت إلى اللغة النثرية، والمناجاة الداخلية التي لا تناسب القصة، ماذا لو حكت لنا الكاتبة عن مواقف حدثت للبطلة: أمس ضربتني.... منذ عدة أيام فعلت معي كذا، ووصفت لنا ملامح المرأة، والمكان وبكاء الطفل، لقرأنا قصة ممتازة، هذه القصة تفتقد للنهاية حيث يمكن إنهائها في نهاية أي سطر من سطورها الأخيرة.

اقرأ ايضاً