العدد 5134 - الإثنين 26 سبتمبر 2016م الموافق 24 ذي الحجة 1437هـ

في الانجذاب للمكان... «ياسمينة» التي تحوَّلت إلى كومة من العظْم

إيزابيل إيبرهاردت... السويسرية الروسية... جزائرية الروح...

إيزابيل إيبرهاردت
إيزابيل إيبرهاردت

«أنا ابنة مواطن روسي مسلم وأم روسية مسيحية، ولدت مسلمة إذاً، ولم أغيِّر ديني أبداً، مات والدي بعد مولدي في جنيف، وبقينا فيها مع أمي وأحد أقاربي، وهو عجوز كهْل ربَّاني كصبي، الأمر الذي يفسِّر ارتدائي للزي الرجالي (...)».

كان ذلك جزءاً من تصويب أرسلته السويسرية المسلمة التي أحبَّت الجزائر، وتزوجت مسلماً، إيزابيل إيبرهاردت، إلى صحيفة فرنسية تصدر في مدينة بوردو (جنوب غربي فرنسا) في 27 أبريل/ نيسان 1903م «بعد أن قاموا برسم شخصيتها بطريقة مغلوطة»، كما ورد في ترجمة وتقديم بوداود عميِّر، لمجموعتها القصصية «ياسمينة وقصص أخرى»، الصادرة عن مجلة «الدوحة»، في عددها السادس والتسعين لشهر أكتوبر/ تشرين الأول 2015م.

المجموعة القصصية تقدم لنا الانجذاب للمكان، كما تقدم لنا «ياسمينة» البدوية التي تحاول التقاليد قهر روحها، فتوأد بزواج تقليدي يضعها أمام قدَر مُرعب من الفاقة والوحدة، وصولاً إلى البغاء الذي تحوَّلت من جرَّائه إلى كومة من العظْم.

تتناول موضوعات ثلاثة تكاد تكون غالبة، الصحراء، حيث المكان الذي أحبَّته ولازمته لسنوات: الجزائر، والمرأة، بتلك الرهافة والتحمُّل والجلَد، والظلم الوافر الذي وقع عليها، والحب، الذي لم تعْدَمه تلك البيئة القاسية، وظل مخبوءاً في الكثير من التفاصيل التي وقفت عليها، بتلك القدرة على الإمساك بالوصف الدقيق للبيئة والوجوه، مع غلبة ما يمكن تسميته «اللغة الصحافية» فيما ترصده في البيئة التي كانت جزءاً منها على المستوى المادي وحتى الروحي، عشقاً مفرطاً لها ولبشرها، وللقيم التي انجذبت إليها حتى كادت أن تكون ابنة المكان بمعناه في الجذر. ولذلك لم يكن مفاجئاً أن إيبرهاردت التزمت خياراً يبدو صعباً ومليئاً بالجنون وقتها: أن تتصدى لقضية الدفاع عن الجزائريين، بكل ما أوتيت من ملكات وإمكانات، مُواجهة القوة الاستعمارية التي أحكمت قبضتها على الأرض والبشر، في ممارسات عنصرية وقمعية لم يكن من السهل الوقوف في وجهها إلا لمن أوتي حظاً من الجرأة والشجاعة والضمير الناصع في أجمل تجلياته.

تجليات المكان... البشر

في البيئة الجديدة على ثقافتها وتكوينها، تلك التي هي على مبعدة من بيئات الفتيات من جيلها، في ذلك الوقت. في الدنو وملازمة نساء الجزائر، حبها للغة الأرض الجديدة، وإتقانها، وعدم الاكتفاء بذلك: أن تقدِّم وتصوِّر ما يعانيهن إلى العالم الآخر. العالم الذي لا يكترث من قريب أو من بعيد لما يحدث في ذلك الجزء من العالم، باعتباره الجزء الغامض والمتوحش والمتخلِّف.

في المجموعة التي بين أيدينا، وقوف على تشخيص واقع المرأة هناك، من خلال شخصية «ياسمينة»... مشاهد وصور تمتلئ بالوضوح والغموض في الوقت نفسه. تجليات البيئة القاسية ليس على مستوى مناخها فحسب، بل على مستوى مناخات النظر إلى المرأة وقسوة التعامل معها، والحط من قدْرها في كثير من الأحيان. «في أحد الأيام أبلغ محمد الأعور أبا (ياسمينة) أنه لا يمكنه، قبل فصل الخريف، الالتزام بمصاريف العرس ودفع مهر الفتاة الشابة. أنهت ياسمينة جهاز العروس، وقد ناب شقيقها الأصغر أحمد عنها في وظيفة الرعي، لكنه سرعان ما سقط مريضاً، ثم عادت، من جديد، إلى وظيفتها راعية، وإلى قطع المسافات الطويلة عبر أرجاء السهل».

رصْد لفتك المكان بالبشر، ليس بالضرورة أن يكون فتكاً في اختطاف الحياة النهائي. يحدث ذلك على جرعات تبدو شحيحة، ولكنها جرعات لا تدفع بالحياة كي تمضي، بقدر ما تمتص ما تبقى فيها من رحيق وفتوَّة وضوء شحيح في الليالي الطويلة التي تكاد لا تنتهي.

ياسمينة... الأميَّة إلا من الحب

ياسمينة، تلك الأمية إلا من الحب، البدوية في نباهتها وتحايلها على الحياة من حولها، وما يبدو انتقاماً من ذلك الواقع، هو خروج عليه، ومحاولة لتصحيحه، في بيئة لا تؤمن بالتصحيح ما لم يأتِ من الذكور. كل محاولة من ذلك القبيل هي عنوان وقاحة وتمرُّد لا مكان له في مثل تلك البيئة. الزواج عنوة من شخص يكبرها بسنوات. الظروف التي تقود محمد الأعور إلى الحكم عليه بالسجن لسنوات طويلة بعد عام فقط من زواجهما. الوحدة القاتلة، والفاقة التي تحز في ما تبقى من اللحم والروح. ولوج عالم البغاء، ومآلات تلك الحياة، بافتراس المرض لجسدها بعد ولوج ذلك العالم «صارت ياسمينة عبارة عن خرقة من اللحم، أنهشها المرض والموت بلا مقاومة. لقد تحطّمت في لحظة واحدة دوافع الحياة داخلها».

الوقوع في الحب أو السقوط فيه، كل بحسب زاوية رؤيته. حالتها مع «جاك» الوحشة في الغياب. «في آخر قبلة لهما، استجليا كل ما في روحيهما». «وقت طويل مضى على ياسمينة وهي تصغي إلى صدى إيقاع وثْب حصان، لا يصل إلى سمعها، وعندما يخلد السهل إلى صمته المألوف، تلقي البدوية الصغيرة بنفسها أرضاً، وتجهش بالبكاء. مضى شهر كامل على ذهاب جاك، عاشته ياسمينة كشكل من الخدر الرتيب». والنهاية التي تنبئ عن قدَر مرسوم. مرسوم من المكان وبشره. الصحراء لا تعد بالكثير، ولكنها تظل وفية لما تعد به. يحدث ذلك ولكن لا وقت للصحراء كي تكرر الوفاء بعهودها. هل ثمة صعود في هذه الفلوات المفتوحة على المجهول؟ هل ثمة زهرة برية لا تفتك بها رياح السموم، والظمأ المفتوح على كتاب الحياة المغبَرِّ واللاهث؟

«إيه (...) ماذا تفعلين هنا؟ هل أصعد؟ ولأنها لم تجبْه، عاد الجندي الأحمر الوسيم، بخطاه، إلى الخلف. وإذاً! قال متفاجئاً: بمَ تفكِّرين يا بنتي؟ أم أنك ثملة؟ أمسك يد ياسمينة التي سقطت فوقها. اعتدل المسلم في الحال، وقد بدا شاحباً، ثم قال: لا حول ولا قوة إلا بالله! لقد ماتت ياسمينة البدوية».

الوقوف على السيرة

أسهم عميِّر إسهاماً كبيراً من خلال ترجمته وتقديمه لـ «ياسمينة»، في تقديم إضاءات مهمة عن إيبرهاردت تتيح للقارئ العربي الوقوف بجلاء على طبيعة تلك الشخصية المليئة بالسحر: سحر شخصيتها، وسحر الخيارات التي ظلت وفية لها حتى آخر لحظات حياتها. فهي من مواليد 17 فبراير/ شباط 1877، في فيلا «فندت»، الواقعة في حي الكهوف في جنيف، «وهو الحي الذي لا يزال إلى الآن يحمل اسمها».

وتمضي بنا السيرة في مطلعها بالإشارة إلى أن إيبرهاردت، هو الاسم العائلي لوالدة أمها: ناتالي ديماردير، وهي ألمانية من عائلة أرستقراطية. «أما عن أبيها فقد تباين بخصوصه كتَّاب سيرتها: بين أن يكون مجهول الهوية، وأن يكون تروفيموسكي، المعروف باسم فافا، وهو من أصول أرمينية»، كان قسَّاً سابقاً للكنيسة الأرثوذوكسية، أو ربما الشاعر الفرنسي المعروف آرثر رامبو»، وهو الطرح الذي تبنَّته الكاتبة الفرنسية فرانسواز دوبون، في كتابها «تاج الرمال» الصادر في العام 1967م.

يضعنا عميِّر على الذين نفضوا غبار السيرة من أجانب وعرب، يبرز منهم الباحث محمد رشد، الذي اشتغل على أرشيفها بصبر لافت، وبحسب عميِّر، يظل رشْد أحد القلائل الذين أنصفوها؛ إذ يشير إلى أنه بحسب وثيقة ميلادها «وإلى أن يثبت العكس، فهي فتاة طبيعية، أما احتمال أن يكون تروفيموسكي أباً لها، فما ذلك سوى فرضية غير مؤسسة، ذلك أن هذا الأخير كان في أثناء رحلة إلى روسيا، في فترة ولادة الطفلة، منهمكاً في تسلُّم الفوائد من إرث زوج الأم، وهو جنرال روسي توفي العام 1873م؛ حيث إنه لا يمكن للزوجة الاستفادة إلا من الفوائد، أضف إلى ذلك أن إيزابيل لم تُشر أبداً، في معرض كتاباتها، إلى أن تروفيموسكي كان أباً لها، كانت تصفه، تارة، بأنه عمّها الأكبر، وتارة أخرى تصفه بالوصي (...)».

دفاعها المستميت عن الجزائريين

من المقدمة التي بدأت بها الكتابة نقف على جانب من سيرة إيزابيل، وتحديداً عند بلوغها العشرين من عمرها في العام 1897م؛ حيث أقامت مع أمها في بونة (الاسم القديم لعنابة) «حيث تموت هي الأخرى بعد أن اعتنقت الإسلام»، ولم تلبث إيزابيل بعدها أن عادت إلى جنيف لتكون على مقربة من قريبها المسن، الذي يموت، بدوره، «مخلِّفاً لي ثروة بسيطة». من تلك التفاصيل تبدأ رحلتها إلى إفريقيا، وهي المتلهفة إلى كشف المجهول بحسب تعبيرها، وحياة الترحال «اجتزت وحدي، ممتطية فرساً، كلاً من تونس والشرق الجزائري والصحراء القسنطينية، كنت أزور هذه البقاع مرتدية الزي العربي، لطواعيته في التنقُّل ولجَماله، كما كنت أتكلَّم لغة البلاد التي تعلَّمتها سابقاً في بونة».

تمضي بنا السيرة التي يقدِّمها بوداود عميِّر، في جانبها التفصيلي، استجلاء لمواقفها من الشعب الجزائري، في تلك الفترة العصيبة من تاريخه، ومواقفها التي استماتت من أجل الثبات عليها، دفاعاً عن الجزائريين وقضاياهم «في مواقفها وكتاباتها، من خلال أعمالها السردية التي كانت عبارة عن مزيج من التحقيق الصحافي والقصة التوثيقية؛ حيث كانت تحرِّر مقالاتها الصحافية بصيغة غير بعيدة عن السرْد»، مشيراً عميِّر إلى أنه كان بوسعها أن تفضح أكثر ممارسات الاستعمار لولا ما تعرَّضت له من مضايقات، بحسب ما كتبت «عليَّ أن أبدأ الكتابة كمدافعة عن إخوتي، مسلمي الجزائر... آه! لو كان بمقدوري أن أقول كل ما أعرفه وكل ما يدور في خلدي (...)». وأدَّت بها موقفها تلك إلى أن يتخذ الجنرالات الفرنسيون قراراً بطردها من الجزائر.

الرحلة إلى التصوُّف

الكتب المليئة بالإضافات التي تناولت إيبرهاردت تكاد تكون محدودة. والكتب التي تناولتها بكثير من التحريف والتوظيف الذي لا يخلو من نوايا سوداء كثيرة. المؤرخون الذين ادَّعوا معرفتهم بالحقيقة، والتخمين الذي يُراد له أن يصبح حقيقة بشكل أو آخر، ظل يكتنف الكثير من الأعمال التي سلَّطت الضوء على سيرتها.

هنالك من تتبَّع سيرتها ضمن منحى صوفي، هو من طبيعة بلاد شمال غربي القارة الإفريقية، والجزء المسلم منها خصوصاً. وضمن هذا الجانب ظلت الكتابات متناثرة، أو عابرة ضمن سياق السيرة، ولكنها لم تكن في المركز منها، باستثناء كتاب «الرحلة الصوفية لإيزابيل إيبرهاردت»، لكل من: ماري أوديل دولاكور وجان رونيه هولو، وفيه يتتبعان مسيرتها الروحانية، والتي ابتدأت في المناطق الجزائرية، مهَّد لتلك المسيرة بحسب المؤلفيْن ما أسمياه «الانسجام الداخلي»، والقوة التي وسمت شخصيتها، بدءاً من كونها طالبة معرفة، سعياً وراء «البحث عن المعنى». والمراحل التي تعرفت فيها على الإسلام، وما أتاحه لها المكان من اندماج في حالات التأمل ومواظبة عليه.

في «الرحلة الصوفية لإيزابيل إيبرهاردت»، نقف أيضاً على تأكيد المؤلفيْن تتلمذها على «يد عدد من المتصوفين المسلمين الكبار الذين (أرشدوها إلى الطريق). كذلك يتم تأكيد أنها اكتسبت مستوى عالياً من (المعرفة) و (الممارسة) الصوفيتين. ولكن لم يكتب لتلك التجربة أن تذهب بعيداً فقد توفيت إيزابيل إيبرهاردت وهي في السابعة والعشرين فقط من عمرها. لقد هلك جسدها أما (روحها فقد تسامت). هكذا يتم وصف رحلتها التصوفية».

بقيت الإشارة إلى أن لها عدداً من الكتابات المهمة، من بينها: «أخبار الجزائر»، وصدر في العام 1905م، «في ظل الإسلام الحار»، وصدر في العام 1906م، و «عمَّال النهار»، وصدر في العام 1922م.

آرثر رامبو
آرثر رامبو
غلاف المجموعة القصصية
غلاف المجموعة القصصية




التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً