العدد 19 - الثلثاء 24 سبتمبر 2002م الموافق 17 رجب 1423هـ

من يقف أمام سماسرة «الرقيق الأبيض»

لا أحد يجرؤ على التأييد والمعارضون كثيرون

وجهت المسيرة التي نظمها عدد من رجال الدين ضد الفساد الأخلاقي وتجارة الدعارة في البحرين في 16 يونيو/ حزيران الماضي، الأنظار إلى حقيقة واضحة تتباين صعودا وهبوطا بحسب الطقس الذي تفرضه توجهات السياحة في البحرين.

وعبرت المسيرة التي انطلقت من جامع رأس الرمان لتمتد على طوال شارع المعارض في العاصمة المنامة وشارك فيها المئات من المتظاهرين عن ردود الفعل الشعبية الساخطة على انتشار عدد من النسوة الصينيات اللواتي يترددن على الأسواق العامة بحثا عن الزبون الأكثر سخاء.

فكانت تلك الممارسات الخارجة على حدود المألوف تجر وراءها تداعيات كثيرة تعود إلى العام 1994، لا تجد الذاكرة صعوبة في استحضارها بصيغة مشاهد كانت تتغير فيها الشخوص لكنها تظل لتدلل على السيناريو ذاته.

الروسيات اللواتي قدمن إلى البحرين قبل ثماني سنوات لبيع «الأنتيك» والكاميرات والتحف القديمة في سوق «المقاصيص» المحاذي للسوق المركزي في المنامة سابقا، كانت المدخل الرئيس في مسلسل الدعارة في البحرين.

الشارع البحريني الذي انقسم طوال تلك السنين بين مستفيد ومناهض، كان يعبّر بطرق مختلفة عن وجهتي النظر لكلا الطرفين، فكان يؤثر بصورة أو بأخرى في تحفيز الجهات الرسمية المسئولة لاتخاذ إجراءات أكثر صرامة ضد الأطراف التي تصوغ تفصيلات الظاهرة، سواء من بائعات الهوى، أو الشركات السياحية التي تكفل لهن تأشيرة الدخول، أو التجار الذين تضخ عليهم تجارة من هذا النوع أرباحا طائلة، تصل في بعض الأحيان لتكون ضربا من ضروب الخيال.

قبل المضي في هذا التحقيق، ارتأينا أن نطلق على من يقومون بتسهيل ممارسة هذا النوع من التجارة الرخيصة، لقب «سماسرة الرقيق الأبيض»، واختصارا أطلقنا عليهم «السماسرة» من دون أن ينصرف الذهن إلى مهن أخرى محترمة.

لم نتمكن من الوصول إلى أرقام أكثر حداثة من وزارة الداخلية، إلا أن الأرقام الرسمية المتوافرة والصادرة عن وزارة الداخلية تشير إلى أن عدد جرائم الفجور والدعارة بلغ 177 جريمة سجلت في العام 2000 من مجموع 13,215 جريمة مختلفة، وسجل العام 2000 أيضا ارتفاعا طفيفا مقارنة مع العام 1999 الذي بلغ فيه عدد الجرائم التي تندرج تحت المسمى ذاته 172 بزيادة قدرها خمس جرائم دونتها سجلات مراكز الشرطة في المحافظات الخمس، بنسبة أكبر في محافظتي العاصمة والمحرق.

هذه الأرقام «المتواضعة» لا تشير إلى ظاهرة لافتة تستدعي وقفة من هذا النوع، ذلك أن ما يصل إلى مراكز الشرطة يعد نتاج خلاف أو مشكلة لم تستوعبها الجدران، ولا تعبر بالضرورة عن حجم المشكلة، ولكنها استدعت أن يقف رأس المملكة عظمة عاهل البلاد ليطالب بـ «سياحة نظيفة» ومحاربة الأفواج السيئة الآتية من كل مكان، بشتى الطرق، لضمان غد أجمل.

انطلاقا من رأس الرمان

عقيل الساري، كان أحد قادة المسيرة التي انطلقت من رأس الرمان في ذلك المساء، يقول:«نحن لا نتطلع إلى مدينة فاضلة، ولكننا في بلد إسلامي ولا بد لنا من مناهضة الفساد والانحلال الأخلاقي، ومساءلة من يتاجرون بسمعة البحرين ومستقبلها».

لا يختلف اثنان على أن تجارة «الرقيق الأبيض» ـ كما درجت تسميتها في لغة الصحافة - تدر الأرباح الطائلة من الناحية المادية، وعائدات هذه التجارة تبلغ مليارات الدولارات سنويا، ففي دولة متقدمة مثل اليابان، تقدر عائدات المتاجرة بالجنس بما لا يقل عن 1 في المئة من إجمالي الناتج القومي، وهذا يعادل الميزانية المخصصة للدفاع.

يجزم المراقبون بوجود ظاهرة البغاء بأشكال تقل وتكثر بحسب نشاط حملات الضبط والتفتيش. البعض يرجعها إلى انخفاض الأسعار التي تتقاضاها بائعات الهوى التي تبدأ بمبالغ زهيدة أو ربما بوجبة طعام، أما سقفها الأعلى فيظل مفتوحا بحسب الطالب والمطلوب، والبعض الآخر يرجح أن نوعية السياح المترددين على البحرين يأتون لهدف محدد لا يخرج عن هذا النطاق، فإذا لم يتوافر المناخ «الملائم» فإن محطات أخرى تستطيع استقطاب هؤلاء السياح.

ويذهب آخرون إلى تعليق أسباب الظاهرة على شماعة غلاء المهور وكثرة السلع الإباحية التي تسوّق عبر القنوات الفضائية والإنترنت لتحرض الشباب على ممارسة الدعارة بطرق شتى، لتظل دائرة البحث عن الأسباب التي تبرر تهديد تماسك النسيج الاجتماعي في المجتمع البحريني، تتسع لتضم قائمة أسباب أخرى، ولكن العامل المادي يظل جوهريا.

أموال التجارة

تقدر عائدات الدعارة في هولندا بحوالي 500 مليون دولار سنويا، فيما تقدر منظمة العمل الدولية عائدات تايلاند من التجارة ذاتها بما يتراوح بين 22 - 27 مليار دولار سنويا.

وفي روسيا تنشط تحركات الشركات الوهمية التابعة للمافيا، إذ تتصاعد أعداد الإعلانات التي تطلب (عارضات أزياء، موظفات استقبال، نادلات في المطاعم والفنادق وراقصات) لا يتجاوزن العشرين عاما للعمل في الخارج. وسرعان ما تختزل تلك الوظائف - بعد أن توقع المتقدمات على سداد تعهدات مالية باهضة - إلى وظيفة واحدة تتلخص في ممارسة الدعارة في الدول التي تصدر إليها الروسيات كما تصدر البضائع الرخيصة.

في الوقت الذي تتضاعف فيه أعداد النساء العاطلات عن العمل، ليشكلن ما نسبته 75 في المئة من إجمالي العاطلين عن العمل في روسيا وأوكرانيا والجمهوريات الأخرى، تستغل المافيا هذا الفقر والعوز، للولوج إلى أقدم مهنة في التاريخ.

«إسرائيل» تعتبر أكبر المحطات الدولية التي تستقطب الداعرات الروسيات، إذ تنتشر في الشوارع المحيطة بمحطة الحافلات القديمة في جنوب تل أبيب نوادي التدليك ومواخير الدعارة، فيقول أستاذ علم الجريمة في الجامعة العبرية مناحم عامير:«إن نحو ألف امرأة يتم تهريبهن إلى «إسرائيل» سنويا للعمل في وظائف مختلفة، وبمجرد وصولهن تنحصر تلك الوظائف في الدعارة وبيع الأجساد(...) إنهن يتعرضن في الغالب لاستغلال أصحاب نوادي التدليك والمواخير، ولا يستطعن اللجوء إلى الشرطة لأنها (الشرطة) ببساطة تتساهل مع تجار «الرقيق الأبيض».

وعلى رغم أن الدعارة تعتبر مهنة مشروعة في «إسرائيل» إذ يجوز للعاهرة أن تمارس هذه المهنة لحسابها الخاص وبما أن كل تجارة تقوم على مبدأ العرض والطلب، فإن صناعة الجنس ازدهرت بفضل الطلب المتزايد عليها من قبل العملاء الأثرياء في ظل تردي الأوضاع الاقتصادية في العالم، وازدياد نسبة البطالة إلى أعلى معدلاتها، إذا تشكل الإناث - في الغالبية - النسبة الأكبر من إجمالي العاطلين عن العمل.

الوضع «إسلاميا»

باتت الدعارة مهنة مسموح بمزاولتها في الكثير من البلدان الإسلامية وغير الإسلامية، أما صراحة بنص واضح من القانون الذي يكفل حماية العاهرات ضد أي مضايقات، أو من دون تشريع رسمي مع كونها تمارس تحت سمع وبصر السلطات الحكومية التي تغض الطرف عن الزناة والداعرين.

لم تكن قوانين البحرين تعاقب العاملات في هذه المهنة بشرط ابتعادهن عن أماكن سكن عامة الناس. فليس بعيدا ذلك الإعلان الذي أصدره مستشار حكومة البحرين تشارلز بلغريف في العام 1937 بعنوان «العاهرات» يوجه فيه هذه الشريحة من النساء إلى الإقامة في أماكن محددة بعيدة عن «الأشراف» بحسب منطوق الإعلان الذي يوضح أن «جميع العاهرات المجاهرات يؤمرن بأن يسكنّ بمحلات العاهرات ولا يجوز لهن أن يسكنّ المحلات الشريفة في المنامة أو في المحرق» وحدد الإعلان «فريق قبلة بالمنامة وفريق قراندول بالمحرق» مكانا لسكناهن، وأن «أصحاب البيوت التي بالمحلات الشريفة يكونون مسئولين أمام المحكمة إذا أسكنوا في بيوتهم عاهرات مجاهرات أو لاعبي قمار» و«أي عاهرة أجنبية مجاهرة تعصي هذه الأوامر ستنفى من البحرين».

لكن اليوم، لم يعد هناك مكان مخصص للبغاء وآخر للبيوت الشريفة، فيختلط الأمران في أكثر من منطقة سكنية، فتجاور بعض الفنادق التي تمارس هذا النوع من الترويج بيوت الأسر، مما استدعى ارتفاع الأصوات بالشكوى على أكثر من صعيد.

ففي جمهورية بنغلادش - ثاني أكبر دولة إسلامية من حيث عدد السكان إذ تقدر نسبة المسلمين فيها بـ 84 في المئة من مجموع السكان ـ تضطر نسبة لا يستهان بها من النساء إلى العمل في مهن وضيعة من بينها الدعارة، نتيجة لتخلي الكثير من الآباء عن إعالة الفتيات والنساء في بلد تعيش الغالبية الساحقة فيه تحت خط الفقر.

وتتجاهل السلطات - التي تعتبر الدعارة مهنة مشروعة لكسب القوت - الأحياء الكبرى المخصصة لممارسة الدعارة، وتتغاضى عن كل الخروقات، عدا أيام المناسبات التي يقوم رجال الأمن بحملات تمشيط للمواخير والحانات لأغراض سياسية وأمنية بحتة، وفي خضم الحملات الانتخابية في يونيو/ حزيران من العام 2001 قام مسئولون موالون لرابطة «حزب عوامي» بإغلاق عدد من المواخير في مدينة نارينجاني الساحلية، بهدف كسب أصوات الناخبين للانتخابات المقبلة.

ومن بنجلادش إلى إيران، تسجل الممارسة تباينا ملحوظا، إذ تنتشر في شوارع شمال طهران شابات تغطي رؤوسهم أحجبة خفيفة يبحثن في الغالب عن زبائن يدفعون بسخاء.

واستنادا إلى الإحصاءات الرسمية فإن هناك 300 ألف امرأة متورطة في تجارة الجنس في إيران والأعداد بحسب ما يؤكده المراقبون في تنام ملحوظ. فقبل سنوات قليلة كان رجال الدين ينفون نفيا باتا أنهم يواجهون مشكلة دعارة، أما الآن فالواقع يجعلهم يتجاوزون الاعتراف وينشغلون بالبحث عن حلول شرعية.

«دور الفضيلة» كما أطلق عليها الزعماء الدينيون، كانت الفكرة الأكثر قبولا لإيواء النساء من بيوت الدعارة والتي دافع عنها قلة من رجال الدين، من بينهم آية الله محمد بوجنوردي إذ يقول:«نواجه تحديا حقيقيا مع النساء اللواتي يجبن الشوارع ليبعن الهوى علنا، لذا فإن إقامة دور العفة أو الفضيلة يعد حلا فوريا للمشكلة خصوصا للرجال الذين لا يستطيعون تحمل كلفة الزواج الشرعي».

واعتبرها آية الله بوجنوردي خطة واقعية تتماشى في الوقت ذاته مع الشريعة الإسلامية إذ يعقد الطرفان زواجا مؤقتا صحيحا من الناحية الشرعية بحسب المذهب الاثنى عشري، ويحصلون على وثقة زواج ووسائل مجانية لمنع الحمل ونصائح طبية. وفي السياق ذاته اعتقل في العام الماضي أحد رجال الدين بتهمة التغرير بفتيات صغيرات وتهريبهن إلى دول الخليج للعمل كبائعات هوى، كما أعدم حديثا سفاح أقدم على قتل عشر ساقطات في مدينة مشهد المقدسة. على رغم الكثير من القوانين التي تحاول الحد من ممارسة «أقدم مهنة في التاريخ»، وربما أكثرها إدرارا للأرباح، فإن التاريخ لا يخبرنا عن فترة ما انتهت فيها هذه الظاهرة، فلا العرض يقل، ولا الطلب يتوقف حتى يرث الله الأرض ومن عليها، ولكن هذا لا يعني الوقوف مكتوفي الأيدي أمام هذا الأمر، بل والتشريع بقانونيته أحيانا

العدد 19 - الثلثاء 24 سبتمبر 2002م الموافق 17 رجب 1423هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 1 | 2:58 ص

      طيب

      ليه محرمين لنا ملكات اليمين ..والله محلله ؟؟؟؟؟ ليه ..؟؟؟؟
      ليه تضيقون والله موسع وتقولون للشباب لايزني ...؟؟ خوش والله تحرمون مااحل الله وطالبون بالحلال ؟؟

اقرأ ايضاً