العدد 5185 - الأربعاء 16 نوفمبر 2016م الموافق 16 صفر 1438هـ

لم يكسبوا حتى الحلاق!

محمد عبدالله محمد Mohd.Abdulla [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

يروي مراسل «رويترز» ستيفن كالين شيئاً عن أحوال مدينة الموصل العراقية هذه الأيام. من الأشياء التي رواها هو ما يجري في محلات الحلاقة! كيف؟ ذهب ستيفن إلى أحد محلات الحلاقة الرجالية التي يملكها عراقي اسمه علي بشار وشاهد العجب العجاب! ففي ذلك المحل ومع دخول قوات الجيش العراقي إلى شرق الموصل، اصطف رجالٌ من المدينة كلٌّ ينتظر دوره كي يحلقوا لِحَاهم الطويلة، التي أرغمهم تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش) على إطلاقها وعدم مسّها.

وحسب وصف كالين فإن «أصوات أدوات الحلاقة الكهربائية والمقصات تغنِي عن الكلام»، وقال له بشار صاحب المحل: «عندما جاءوا (أي تنظيم داعش إلى الموصل) منعوا حلق اللحية، ثم منعوا التزيّن، ثم منعوا القزع (حلاقة جزء من شعر الرأس) والخيط. بعد ذلك لم يبقَ لي عمل؛ لأن كل شيء ممنوع. ثم عرَضَ للمراسل منشوراً وزّعه التنظيم يُبيّن الشروط الواجب اتباعها عند حلاقة الرجال.

بعدها روى له قصة اعتقاله من قِبَل شرطة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر التابعة لـ «داعش»، حينما قام بشار بحلق لحية مصغرة تغطي منطقة الذقن دون العارضَيْن قبل أن يُطلق سراحه. ثم يروي مراسل «رويترز» أنه وخلال تجواله في الأحياء الموصلية تفاجأ من أن أحداً من المحلات لم تكن مفتوحة بسبب الأوضاع الأمنية المتردية، سوى محل علي بشار للحلاقة! ما يعزّز الاعتقاد لديه ولغيره بحالة اختناق الناس بمظاهر التنظيم أكثر من أية أشياء ربما تبدو للبعض بأنها أكثر أهمية.

ثم التقى المراسل بأحد السكان الذي روى له كيف كانت الحياة صعبة جداً في ظل حكم التنظيم، وكيف اضطر هو لإخراج أبنائه من المدرسة. وعن أوضاع فرص العمل والإنتاج قال: «مَنْ أراد العمل فما عليه سوى الانضمام إلى قوات التنظيم». بينما شاهد ساكناً آخر وهو يلتقط صندوقيْن خشبييْن فارغين من الذخيرة قائلاً بأنهما «سيشكلان حطباً جيداً للطهي»، في إشارةٍ إلى انعدام أبسط أنواع الحياة، التي لم يستطع التنظيم أن يوفّر لمثل هذه الظروف أي خطط طوارئ.

لقد وضع الناس رايات بيضاء فوق منازلهم كي يُؤشروا للجيش بأنهم ليسوا محاربين، وأنهم مسالمون. ولم يقم أحدٌ من الموصليين بفتح محله، فهو بالأساس غير قادر على جلب السلع، الأمر الذي جعل المدنيين يعتمدون على المواد الغذائية التي يوفّرها الجيش بشكل يومي حسب ستيفن كالين، على رغم أن بعض السكان قالوا بأن شيئاً لم يصلهم بعد. ما يجعل المرء يتأمل في كيفية دفع التنظيم لأهل المدينة كي يؤمنوا حتى بمن كانوا يعتبرونهم خصوماً لهم في لحظة ما.

الحقيقة، أن موضوع «اللحية» تحدّثت فيه القراءات الدينية للنصوص، وتحدث عنه العلم أيضاً، ونحن لا نناقش ذلك الأمر بقدر ما نناقش استغراق «داعش» في أشكال التديُّن لا جوهره. اللباس وأسمال الوجه وطريقة المشي وأداء الطقوس بصورة جهرية هي أقصى مبتغى التنظيم وأهدافه. لذلك تجد الأمكنة التي يهيمنون عليها سواء في العراق أو سورية، أشبه بالساحة المكتظة بالترميز على وجود نمط محدد من التفكير، لكنه مع شديد الأسف بدون جوهر ملموس.

فبدل أن يطرح هؤلاء رؤاهم ومشاريعهم للتنمية (على الأقل في المناطق التي يُهيمنون عليها) للإرتقاء الإنسان، تراهم ينغمسون في الشكليات التي لا تبني حجراً على حجر. بل على العكس من ذلك، فهم يُساهمون في تدمير الإنسان والحضارة. لقد حطموا تماثيل مدينة نمرود، واقتحموا جامعة الموصل العريقة وحرقوا 2000 من المخطوطات النادرة بحجّة أنها لا تتحدث إلاّ عن حضارات بائدة لا علاقة لها بالإسلام!

مَنْ دخل الموصل لم يجد فيها مَعْلَماً ساهم التنظيم في بنائه. ولم يجد عمراناً ولا صورة حضرية ولا حركة تعليم متطورة. لم يجد مَنْ يقول له إن هؤلاء كانوا منصفين مع العلماء أو الأكاديميين أو أنهم شجّعوهم كي يبقوا لا أن يشدّوا الرحال ويغادروا. كان همّهم هو كيف يفرضون على الناس (رجالاً ونساءً) لباساً ويجعلونهم على هيئة معينة ظناً منهم أن ذلك هو الترجمة الصحيحة للدِّين والتديّن، متناسين أن الدّين والتديُّن هو اعتقاد وإيمان بمشروع يخاطب العقل والقلب قبل أي شيء، وليس أقمصةً ولحى وقصّات شعر.

عندما دخل الحلفاء ألمانيا النازية بعد هزيمتها في الحرب العالمية الثانية، وعلى رغم حالات القتل التي حصلت لليهود والسود وأصحاب الإعاقات نتيجة الفكر والسلوك النازي المتطرف، إلاّ أنهم شاهدوا أيضاً صناعات متطورة عسكرية ومدنية، وشاهدوا سدوداً وجسوراً وطرقاً مُعبّدة وشوارع مرصوفة وسكك حديد، ومزارع للقمح والبطاطس. شاهدوا المدارس والجامعات بمناهج صارمة وكذلك النظم الصحية المتقدمة، وليس مجرد شارات معقوفة ومظاهر لـ «الفوهرر».

ذات الشيء يحصل الآن في كوريا الشمالية التي تعيش عبادة الرمز بأقصى صورها، لكنها على الأقل تمتلك مشروعاً مدنياً يرعى المتفوقين ويُقدّم أبحاثاً علمية ويضطلع بصناعات حديثة ويُنمّي الزراعة. أما هؤلاء فلم يكن لديهم سوى مظهر الإنسان وإنزال العقوبات على الناس، وتقييد حركتهم. والنتيجة، لم يكسبوا عقلاً ولا قلباً، بل لم يكسبوا حتى الحلاقين.

إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"

العدد 5185 - الأربعاء 16 نوفمبر 2016م الموافق 16 صفر 1438هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 3 | 12:28 ص

      الفكر الشاذ وان امتلك المليارات فإن باستطاعته شراء بعض العقول الضعيفة لكنه لن يشتري الخامات والعقول الناهضة
      والحمد لله انه قد بدأ العالم يدرك فساد هذا الفكر وما خلفّه للعالم وحتى المسلمون بدأوا متأخرين بعض الشيء بالتنصّل من هذا الفكر وخيرا ان تأتي متأخرا من أن لا تأتي لكن يجب مضاعفة الجهد في حين الوصول متأخرا ولا ادري هل ستقوم الدول الاسلامية بواجبها في مضاعفة جهودها ام ستعود لتغفوا مجددا وتترك مستقبل الامّة في ايدي شرذمة شوهوا الاسلام والانسانية

    • زائر 2 | 12:17 ص

      الدين لم يقصد تربية اللحى بهذه الصورة القذرة لكي تبدو وكأنها مخمّة مستهلكة ومتناثرة يشمئز منها كل من يقترب منها.
      لتربية اللحى طرق فهي تحتاج لتهذيب وتعديل وقص بحيث يبدو عليها علامات النظافة والتنظيم وجمال المحيّا

    • زائر 1 | 11:56 م

      عندما يعبث مثل هؤلاء البشر في حضارات التاريخ العربي الاسلامي ويهلكون النسل والحرث ، فهم بالتاكيد ليسوا بعرب ولاهم من المسلمين ، فلننظر من اين اتوا وما هي اهدافهم و من الذي بعثهم لبلاد المسلمين العرب ، فلنتقي الله في الشعوب العربية

اقرأ ايضاً