العدد 5198 - الثلثاء 29 نوفمبر 2016م الموافق 29 صفر 1438هـ

مِران ذهني يترك الاحتمالات مفتوحة أمام المُشاهد

صالح يكتب عن «صورة طبْق الأصل» لكيارستمي...

مشهد من «صورة طبْق الأصل»
مشهد من «صورة طبْق الأصل»

يقدِّم الكاتب والروائي البحريني أمين صالح، في مقاله «(صورة طبق الأصل)... الظاهر والخفي في لعبة المحاكاة»، الذي نشرته مجلة «البحرين الثقافية» في العدد (86) الصادر في أكتوبر/تشرين الأول 2016، رؤية فنية، يُشرِّح من خلالها عدداً من ثيمات فيلم المخرج والكاتب والسيناريست والمنتج الإيراني العالمي عباس كيارستمي (وُلد في 22 يونيو/حزيران 1940 في العاصمة الإيرانية «طهران»، وتوفي في 4 يوليو/تموز 2016 في باريس)، وإن بدا الفيلم يتمحور حول ثيمة قد تكون المثال، لكنه يترك المشاهد حراً في تأويلاته، فقد يجد الواقع إزاء ذلك المثال. هو فيلم فيه مران ذهني باللعب على الاحتمالات المفتوحة.

لعلَّ من بين أهم خلاصات التأويل لدى صالح عن الفيلم، تلك المتعلقة بعنوانه؛ إذ يكتب «عنوان الفيلم، (نسخة طبْق الأصل)، يشير إلى الأعمال الفنية، تحديداً اللوحة والمنحوتة، مُثيراً هذا التساؤل: لماذا نحن لا نقدِّر ولا نُثمِّن النسخة طبْق الأصل مثلما نفعل مع الأصل؟ لماذا نحطُّ من قدر النسخة ونُعطي الأهمية للأصل فقط»؟ ولهذه الخلاصة تفصيل ستَرِد في أثناء الاستعراض والتناول.

في «صورة طبْق الأصل» (certified copy)، كلام على الاحتمالات المفتوحة، نُكرِّر، هنالك الحب الذي يبدو لساعات بين رجل وامرأة. يضعنا كيارستمي أمام ما يشبه الإقدام على حالة حب. هنا تبقى الاحتمالات مفتوحة أكثر. الاحتمالات تتسلل في الفيلم، ولكن بدرجات متفاوتة. يضعنا أمام حوارات تتاخم العقلانية، وصولاً بها إلى مشاعر... هواجس... أحاسيس تظل هي الأخرى معلقة في الاحتمال. فكرة الفيلم تقوم على تلك اللعبة الذكية بين الأصل والصورة؛ حيث النموذج/ المثال، والواقع الذي يضج بالمتناقضات والتحولات، بين ما يريده كيارستمي في عمله، وما يريده الجمهور... النُّظارة من العمل نفسه. تداخل الموضوعات والقيم الفلسفية في الفن الذي يقدمه المخرج الإيراني العالمي، وبينهما ثيمة الحب.

هو نفسه القائل: «إنني أفضّل أن أصف أكبر عدد مُمكن من التعبيرات عن حالة بعينها، وأعطي الفرصة للمشاهد أن يختار بحرية ما يلائمه. لقد رأيت بعض من شاهدوا أفلامي يملكون من الخيال أكثر مما أملك. أحب أن أترك التفسير مفتوحاً لمشاهدي، وكأنه مالك الفيلم لا أنا».

المنظور الفلسفي والشعري

يرى صالح أن الفيلم يشكِّل إضافة جريئة ورائعة على رصيد كيارستمي الإبداعي؛ إذ نجد «اهتماماً خاصاً بالتفاصيل الدقيقة، الآسرة، إلى جانب التعرُّض، من منظور فلسفي وشعري، للقضايا الجوهرية العميقة في المجتمع: العلاقة بين الرجل والمرأة والفن... الحضور والغياب... الواقع وتمثيل الواقع... النظر والتأمل (...)».

الفيلم تدور أحداثه في بلدة توسكاني الإيطالية، في تكثيف لزمن أحداثه التي تتوالى في يوم واحد، في حياة الشخصية الرئيسة للفيلم، امرأة فرنسية (جولييت بنوش)، حيث تمتلك محلاً لبيع التحف القديمة، وكاتب بريطاني (وليام شيمل)، يتواجد في إيطاليا ترويجاً لكتابه «المترجم إلى الإيطالية، عن المواد الأصلية والمنسوخة، المُعاد إنتاجها في الفن».

اختزال مجموعة من الأحداث في يوم واحد عمل ليس بالهيِّن، بما يحويه من تجارب وقيَم، وذلك ما يشير إليه صالح بالقول: «في يوم واحد (تدور فيه أحداث الفيلم)، وضمن خط سردي محدَّد، نشاهد ونختبر تجارب غنية ومركَّبة تنتمي إلى مراحل مختلفة من عمر شخصين: رجل وامرأة».

كما يشير صالح إلى أن الكتاب «يمتدح مكانة النسْخ في تاريخ الفن، ويستجوب قيمة الموثوقية والأصالة في الفن، مؤكداً أن النسخة الجيدة، البارعة، من عمل فني يمكن أن تكون فعَّالة وذات قيمة كما العمل الأصلي تماماً».

لابد من مشاهدة الفيلم؛ إذ لن يُغني استعراض قصته هنا بشكل مختزل عن مشاهدته، وحين يعمد صالح إلى ذلك الاستعراض الذي يحتل مساحة لا بأس بها من المقال، فلكي يقدِّم تأويله، وتشخيصه، وتشريحه للب الأفكار والموضوعات التي تناولها، وتركها كيارستمي في مهب التأويل.

يوضح أمين صالح أن الاكتفاء بفهم العلاقة على أساس أنها تظاهر، أو محْض لعبة سيفضي إلى تجاهل أو تجنُّب الأوجه المركَّبة للفيلم، وتبسيط القضايا التي يطرحها.

يضعنا صالح أمام التحول في الفيلم، من حالة إلى أخرى، والذي يكون مفاجئاً ومن دون تمهيد. «الفيلم لا يقدِّم تفسيراً له، أو تعليلاً، أو تبريراً للتحول. إنه يحدث فحسب، بشكل طبيعي، تلقائي».

التلاعب بالواقع... تقديم الانعكاس

وكما أشرنا في بداية هذه الكتابة، يترك كيارستمي المُشاهد أمام الاحتمالات المفتوحة، يؤكد صالح أن مخرج الفيلم يتجنَّب على نحو غير مقصود، تقديم إجابة واضحة وصريحة؛ وصولاً إلى قيمة معلَّقة أيضاً تبرز في السؤال الآتي: «هل المعرفة هنا مهمة لنا»؟ في معظم أفلام كيارستمي، ثمة تلاعب بالواقع. لا يقدمه كما هو. لا اجتراح لفرادة فنية فيما لو حدث ذلك. الفرادة تتأتى من القفز على ذلك الواقع، في إجراء يشبه تسييره وتوجيهه كيفما وأنَّى شاء، في قدرة على توليد وضخ قيَم وتفسيرات ورؤى لا تستقر على حال. أن يكون المشاهد صانعاً، وقابضاً على ما يراه من زاويته، وبذلك يتيح كيارستمي للمتفرج «أن يتصل بحيوات الشخصيات، ومشاعرها، وعلاقاتها، وأبعادها الإنسانية من منظور مختلف»، وفي نهاية المطاف، منظور حُر.

يستدعي صالح ما قاله كيارستمي عن القضايا التي يطرحها ويبرزها الفيلم؛ إذ هي عالمية ولا تخص واقعاً محلياً معيَّناً «الشيء الوحيد الذي أستطيع أن أفعله هو أن أضع المرآة أمام الرجال والنساء، أمام المتفرِّج في الصالة، لكي تعكس. ليس هناك شيء غير الانعكاس الذي يمكنني تقديمه إلى جمهور الفيلم».

المرآة... الانعكاس لم يكونا غائبين عن مشاهد في الفيلم، يقبض عليها صالح؛ إذ يرى أن «كيارستمي يلجأ في مواضع عديدة من الفيلم إلى استخدام الأسطح العاكسة، في شكل مرايا، نوافذ، الحاجب الزجاجي للسيارة»، مُعزِّزاً رؤيته تلك بما كتبه الناقد الفني كيث فيبس، من أن لجوءه ذاك، من أجل مضاعفة، وتحريف المحيط، والأشياء والصور التي تتحدَّث عنها الشخصيات؛ لكن تظل مرئية جزئياً فحسب.

التلاعب بالأفكار

وثمة تلاعب بالأفكار، وسط التلاعب بالواقع في عدد من مشاهد الفيلم. لم يأتِ ذلك التلاعب عبثاً بقدر ما هو جزء لا يتجزأ من القيَم التي يُراد إيصالها، والتأكيد عليها، وإن تعدَّدت الرؤى حولها، وإن تباينت الاحتمالات بشأنها. وبحسب صالح فإن كيارستمي «يتلاعب بالكثير من الأفكار: النسخة مقابل الأصل، الهوية، الشك واليقين، التظاهر مقابل الموثوقية». وهو ما يمثل صعوبة في التمييز بين كل ذلك؛ إذ لا تمييز بين «ما هو واقعي وما هو نسخة من الواقع. مثلما تتعرض التخوم بين الأصل والنسخة للتداخل ثم التلاشي، كذلك التخوم بين الفيلم والواقع».

ومن بين العميق في رؤية صالح لمجمل أفلام كيارستمي ما تناوله المقال من أنها «تتحرَّى وتسبر العلاقة المركَّبة، المُعقَّدة، بين السينما والعالم الذي ينتجها ويعيد خلقها. بالتالي هو يشجِّع، وأحيانا يرغم، المتفرِّج على إعادة النظر في علاقاته بالصور وما تمثِّله».

وفي تناول فيلم كيارستمي للشخصيات عبر الوجود الزمني والمكاني، يشير صالح إلى أن «الفيلم في محتواه، وأفكاره، وجمالياته، عمل استثنائي، رائع، مثير للاهتمام ومشوِّق. وهو لا يتبع مساراً خطيّاً في ما يتعلَّق بحركة الشخصيات عبر الوجود الزمني والمكاني، أما حواراته فملتوية، استبطانية، شيِّقة».

وعودة إلى ما قدَّمنا من خلاصة تأويل صالح وقراءته عنوان الفيلم منفرداً، يشير هنا إلى أن «الحديث عن الأصل والصورة (أو النسخة/المحاكاة) في الفيلم، ليس في ما يتصل بالفن فقط، بل أيضاً الرغبة في إعادة خلق الحياة التي نعيشها في هيئة حياة نتمنَّى أن نعيشها»، ولا يكفُّ صالح عن تعزيز رؤيته برؤية صانع التحفة كيارستمي نفسه بقوله: «أعتقد أن من الصعب جداً الإمساك بالحياة، فهي ماكرة إلى حد أن النسخة، الفيلم، لا يستطيع أبداً الإمساك بها أو تمثيلها. لكن ما الحياة إلا نسخة. وأظنُّ أنه جودار الذي قال، إن الحياة ليست سوى نسخة سيئة من الفيلم».

كأن الفيلم، وغيره من أفلام كيارستمي تشتغل على تنشيط حال من إعادة النظر في ما نكرِّسه من أولويات، هي بطبيعتها مُكرَّسة. هل هو اقتراب من الاشتغال الثاني؟ التجربة الثانية. هل لابد لما يأتي من تجارب لاحقة، أن تكون بالضرورة رهينة لما سبقها؟

شهادات... النظرة الحُرَّة

بقي القول، إن الأعمال التي أنجزها كيارستمي طوال تاريخه الفني، ظلت ذات أثر وحضور، ولم تلاقِ الإعجاب فحسب، بل جعلته واحداً من بين أهم المخرجين السينمائيين في العالم، بتلك الرؤى المُغايرة والفارقة، التي أضافت الكثير إلى الفن السابع، من حيث المعالجات، ومن حيث الزخم الشعري والفلسفي الذي كثيراً ما يكون لصيقاً بأعماله. ولم تأتِ شهادات كبار النقَّاد والمخرجين في العالم بدافع النظر بعطف إلى سينما العالم الثالث، بقدر ما جاءت صادقة ومُقدِّرة لإنجازه العميق. الشهادات والآراء التي قدِّمت عنه وحوله كثيرة، نقف على بعض منها هنا؛ حيث وصفه الناقد السينمائي في صحيفة «التلغراف» اللندنية روبي كولين بأنه كان «صانع معجزات بزي ساحر». أما الناقد الفرنسي سيرج توبيانا فوصف أفلامه ومعالجاته بـ «النظرة الحرة» إلى العالم على رغم القيود التي تعيش فيها بلاده. ويمكن الوقوف على تفسير لذلك القول، فيما أسْماه الناقد الإسباني، ألبرتو إيلينا، في كتابه عنه بـ «فن التقية». وضمن الفضاء الذي عمل فيه، قال عنه المخرج الأميركي مارتن سكورسيزي: «يمثل عبّاس كيارستمي قمَّة الحسِّ الفني في السينما».

يُذكر أن من بين أهم أفلام كيارستمي: «طعم الكرز»، ويروي قصة رجل تتحدَّد أزمته في من يدفنه بعد انتحاره. «أين يقع منزل صديقي»؟ ويتناول مخاوف طفل من العقاب بعد نسيانه كراسة واجبه. «كلوس أب»، وفيه شاب يحاول تركيب هوائي التلفزيون ليشاهد إحدى مباريات كأس العالم في فوضي الزلزال المدمر. «عبر أشجار الزيتون». «ستحملنا الريح»، قصة رجل وزميله يعيشان في المدينة، ويذهبان لقرية بعيدة بين الجبال لانتظار موت عجوز، بينما يساعدها أهل القرية جميعاً لتبقى على قيد الحياة. و «آي بي سي إفريقيا»، ويستعرض فيه كيارستمي مُحبّي الحياة الذي يعيشون وسط كارثة الأيدز التي تحصد الأرواح.

عباس كيارستمي
عباس كيارستمي
أمين صالح
أمين صالح




التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً