العدد 5236 - الجمعة 06 يناير 2017م الموافق 08 ربيع الثاني 1438هـ

نقوش في جدارية... «أول الألف وآخر الياء» لسهير الداود

سهير الداود
سهير الداود

محمد القضاة - كاتب وأكاديمي أردني 

تحديث: 12 مايو 2017

جاء نص جدارية الشاعرة سهير الداود مثقلاً بمعاني الألم وتجليات الوحدة والانكسار الروحي، ويحمل في ثناياه كثيراً من الأسئلة الحيرى التي تحلم بالحياة وتبحث عنها لتجدها بلا معنى بلا طعم بلا روح بلا حياة، غير أنها تُعلن بأعلى صوتها أنها لن تستسلم بسهولة لهذا الغياب الذي أخذ منها شجرة الحياة، وتركها وحيدة تُصارع نصوصها بجرسٍ يخلخل السكون والوهن والاستسلام، ها هي الشاعرة تتمرد على الحيرة بنقوش جداريتها التي فاقت مثيلاتها في الخيال والحزن والوجع، ها هي تعلن أن رغيف الحب الذي كتبنا عنه قبل ثلاث سنوات جاء اليوم رغيفاً بمذاق الأسى والغياب، غير أنه مذاق الشعر الذي لا توقفه الفواصل والصفحات، يمتد من الألف الى الياء بحرارة لاذعة تعرف فيها ان أولها كما آخرها نزاعة للشوى .

وهنا تقول الشاعرة عن اختيارها لعنوان ديوانها: «أول الألف وآخر الياء» الصادر عن المؤتمر الدولي للمونودراما للإبداع بالكويت: «إنه اختصار للأبجدية التي تختزل اللغة وتعيد صورة الكون المجرد في رمزيتها، لاعتقادها أن الحرف كان في البدء صورتنا» (انظر صحيفة الرأي في عددها بتاريخ 8 أغسطس/آب 2016). وهنا أتذكّر ذلك الرغيف الذي طار شعراً فكم كان يومها مندغماً في جمال صورها وأخيلتها ورغبتها بمداعبة الفرح والحزن، كم كان الفرح طاغياً، كانت الحياة في أجمل مباهجها تطير فرحاً مع حروفها؛ وكأنها أول دمعة فرح تذرفها حروفها، كانت شاطئ الحياة تغمس رغيفها بصحن مذاقه أشهى من نسيم الصباح، وكنت حين أسمعها؛ أسمع دفقات روحها تطير زهواً وهي تغني للحياة ولأم مروان حين كانت تداعب معها خصلات خيالها، تضيء لها المكان بالشعر والحياة والخيال والطبيعة، كان المذاق كما الشعر في صعود وانطلاق نحو الأعالي، كان لكل شيء عندها له معنى، وفي «أول الألف وآخر الياء» تنقلب الصور وتتناسل الأخيلة من الوجع والغياب، من صهيل الزمن المولّي وهو يحمل وجعها وألمها وهي تردد:

«ما فهم ما فهم يا أمي

أن الشعر أبقى

لعزلتي ولبوحي

أو لقلم أمتهن الحب وندرته

كأنه راهن على القلب

ونسي أنني أمتهن شيئاً أصح

هو لا يعرفه

عرف شيئاً منه

ربما الكرامة

ما فهم ما فهم يا أمي

راهن على زمن كنت أنا

قبل أن تتجرد السفن من الماء

والأشجار من ورقة

كيف هو الآن

وكيف صدى الزمان

غبت أنت ولَك طعم آخر

الآن الآن الآن

يشبه الهواء الذي احترق».

وعي اللحظة

إنه الغياب صدى الألم، والألم صدى الغياب، إنها التجربة الشعرية في محطتها الجديدة تأخذ بتلابيب المعاني، وتغرف من بحر الشعر أجوده وأعذبه، إنها صوت حيّ يمتلك ناصية الشعر، تقرأ الألف لتمضي في صيرورة جديدة تنهج من وعي اللحظة المثقلة بالحزن والغياب، وحين تتواصل الحروف تعيش في نص يخترق قواعد الشعر وكأنه يمتح من أجناس الشعر كله، غير أنه ينحو إلى ما بعد الحداثة وتجلياتها الجديدة في قصيدة النثر وتهويماتها، لنرى ذلك في مطر دموعها وأزهار عصافيرها وهي تبكي زمانها:

«سألت الله عنكِ في غيابك

فأصر أن يبعث ملائكتُه خلفكِ

كي تعود ولم تعد

قام الشعرُ ونزع ثوبه

لا حاجة له بِنَا

سيربي العصافير في حديقته

ويغازل الأزهار

غداً صباحاً غداً صباحاً

وهذا المطر كله من دموعه

خنت كل الديانات في عينيك

والرهبنة وضحكة أمي

وخنت الرب وهدنة الروح

كنت تكتب على صدري تهويمات العشق

وتخطها بأناملك وهي مبلله

وأنا أدونها قبل رحيلك

كي يقرأ الصبيان كم أحبك

من صمت صوتك

ومن لغة تتعرى

من شفتين تتأوه

استدلوا عليك ذات حزن

النساء يعرفنك الآن

يقولون إنك رجلهن

رغم بلل أصابعك بالنبيذ

سألت الله عنك كثيراً

وفي آخر الأمر أحبك وحدك».

«ألف» سهير و «ياءها» الشعرية تنطلق من أفيائها ونفسها وروحها وجوانيتها إلى قارئ يعيش أحزان الحاضر ومآسيه؛ وكأنه مثلها في الغياب جسد مسجى في اللامنتهى، وعقل في شرود بأزمان تختلط بين ماضٍ كل ما فيه ينطق حباً وهياماً وعشقاً وحاضراً تغمّسه لوعات الأسى والوحدة والصبر والاغتراب بمذاقات لا طعم لها، ومستقبل يفقد معانيه قبل التفكير فيه، وكأن خيال الكلمات لا تعرف كيف جاءت ولا تدري بأي جنس تكتب؛ إنه رحيق الخيال يهوم في نصوص متعبة بجرسٍ غريب حبيس في نفس مترعة تعيش فوضى الحواس، بروح متعبة ينهكها حتى بكاء الورد:

«لا تجعل الوردَ يبكي

كنتُ يوماً أمَّك،

قطةً أحومُ حولَك

مِن الوهن أهدهدُ العينين

وأصلّي ركعتين

لم يكنْ ممكناً أكثر

حبستُ البحرَ في زجاجة

غرست أصابعي بالطين كي يُزهر الرماد

لم يكن ممكنا أكثر»...

القصيدة بوصفها خلاصاً

إنها الكيمياء بين الرحيق وزهرة، كما الأم تحوم حول وليدها، تتحسسه بوجع شفيف تذرع بصلاتها لله، بلغة تعيد للحياة معانيها، وللمكان مباهجه، تفتح الشاعرة النص بألفاظ وصور تتجاوز فيها المألوف فتنحرف اللغة عن إطارها لترسم لوحة ناطقة بألوان البحر والطين والرماد والورد والبكاء؛ ولأن هذا النص (الجدارية) يمتلك لغة حية تعيد رسم مشاهد طافحة بالحركة والحوار الذاتي والهواتف النفسية شديدة الحساسية تجاه الغياب والحنين والحيرة، وهو ما أشار اليه الناقد علي جعفر العلاق على الغلاف الأخير من الديوان بقوله: «القصيدة لدى سهير الداوود خطابٌ دافئ مثل جرح، وطريّ مثل وردة، لكنها تظلّ في كلتا الحالتين مفتوحة على الحبيب المحصّن بغيابه الطويل، أو المهموم بوحدته ومكابداته»، وأضاف أنها لا «تذهب إلى القصيدة إلا بوصفها خلاصاً من عائق ما، من حب مغشوش، أو إحساس بالوحدة لا يهدأ، وأن القصيدة في مجموعتها هذه لا تنبثق من تصيّد للمعنى أو تربص بالتعبير الذي يتغذّى على دهاء عابر، بل هي عصارة كلام حميم لا أثر فيه لكمائن معدّة مسبقاً، أو لغة يحركها الافتعال». هكذا تمضي الداود في مكابداتها وإحساساتها تفتح نصها على نسائم حلم يزورها طيفاً مثل ريشة فنان يرسم بها لوحته برشاقة كأنه السراب في المدى البعيد، تقول:

«حلمتُ

ومددتُ يدي للمدى

تحبيني؛ فأصدق الوهم

لا تحبيني؛ فتأكلني الدهشةُ

قل لي؛ ما ذنب المدى»؟

في أنْسَنَة الدهشة

ها هو الحوار بين الشاعرة والمدى والدهشة، يطفح بالأسى ويرسم بحروف تأكل الدهشة؛ فكيف تؤنسن الدهشة وتسند لها فعل الأكل؛ أليست هذه سمة الشعر الملحمي الذي يحيط بالأبجدية في حديها -المبتدأ والمنتهى- على حد قول الشاعرة: «ليقول الوجود بما هو حالة من التأمل اللغوي الذي يتجلى عبر الحرف الذي كان في الأصل صور الأشياء البرية»، أليس الحوار الداخلي والخارجي من تقنيات السرد الذي يتماهى طوال نص هذه الجدارية التي تلتئم عناصرها المتنوعة في فضاء يتسع لهواتف الشاعرة وغنائها بصيغ متعددة تتوزع بين الماضي والحاضر والمستقبل، يتماهى بين القبول والرفض والصلاة؛ تقول :

«من أعطاك عصا موسى وهذا البهاء

حين أطيل الصلاة عند قدميك وقلبي

وكي لا تنسى؛ انا أحبك

على بياض ورقةٍ وفوق عتمة

أنا لا أغار؛ فحبنا كله خيانات

أولها حين غازلت حمامة وهي فوقك

وحين أبكي وأنت كل الفرح

يا أميري كل حبنا خيانات

كيف تفسر أني أكتبك من دهرٍ ولا أراك!

غداً سأدس القهوة بالسم

وأخون مثلك كل النساء

غداً سأخون كل الرجال

حين أسبغ عليهم أوصافك وملامحك

هل جربت أن تحب شاعرة؟

ويلك! ستخدعك بالتحرر وتسجنك

خلف القضبان مثل المجرمين والسلاطين

هل أحببت شاعرةً

لا ترى الرجال إلا بك

تقيس العيون ببريقك

يتعقبها الرجال وتتعقبك أنت

هل جربت القرب من شاعرة

تبقى دائماً بعيدةً لا تثقل عليك

وترحلُ مع أول حرفٍ

أميري لا تكلمني». (ص70).

إن التداخل اللغوي والانتقالات بين أنا الشاعرة وبريق عيون الحبيب، وبين الماضي حين كانت تكتبه ولا تراه، والحاضر وهي تحاوره بقولها: هل أحببت شاعرة؛ والقادم غداً سأدس القهوة بالسم، إنها اللغة الحية التي تتناوب فيها الأفعال بحوار تحمله كلمات البهاء والحب والغيرة والخيانة والسم والرجال والنساء والتحرر والسجن والرحيل والعيون في توليفة غريبة تؤكد أن اللغة هي من تشكل هذا الحضور البهي للصور المتقاطعة بين البياض والعتمة والبهاء والخيانة، وبين الحضور والغياب، بين خيانة الرجال وخيانة النساء وبين التحرر والسجن، وهي صور تتوهج بين الدفء والحزن تنفتح على مستويات ودلالات وخطوط تخلخل السائد والمألوف، تبوح فيه عن صراع وتهديد حين تقول:

«هل جربت القرب من شاعرة؟!

ويلك! ستخدعك بالتحرر وتسجنك»...

هذا الصراع يعبّر عن جمر السؤال ومتاهة الجواب؛ هل جربت ان تحب شاعرة؟ وتستمر الحكاية لتعبر عنها في صور متقاطعة تنساب في سلاسة وعذوبة تحتفظ بوهج لغة شعرية موحية، إنها جدارية.





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً