العدد 57 - الجمعة 01 نوفمبر 2002م الموافق 25 شعبان 1423هـ

«نيلي»: تنظيم قوي في خدمة الإنجليز سانده لبناني وكشفه الحمام الزاجل

هكذا تأسس الرحم الذي انطلقت منه أجهزة المخابرات الإسرائيلية

كان آرون آرونسون ابنا لأسرة يهودية ذات ثراء وعلم. وهو نفسه كان لامعا في دراسته منذ البداية إلى درجة أن الثري اليهودي البارون ادموند دي روتشيلد أنفق على دراسة آرون في باريس. أما أهله فكانوا قد نزحوا إلى فلسطين في العام 1882. وحين أنهى آرون دراسته في فرنسا وقد اختار ميدان العلوم الزراعية، عاد بدوره إلى فلسطين إذ أسس في عتليت إلى الجنوب من حيفا مختبرا للبحوث الزراعية والنباتية، كان أبوه افرايم قد باشر في العمل عليه منذ العام 1910.

إذا، حتى ذلك الحين لم يكن آرون سوى عالم زراعة يحلم بـ «الوطن القوي اليهودي» مثل غيره من الشبان اليهود. وفي ذلك الحين لم يكن المواطن اليهودي قادرا على أن يكون حتى مجرد احتمال. كان، فقط، فكرة نادى بها صحافي نمسوي متحمس. وبدأ يسعى من أجلها عدد من أثرياء اليهود ونافذيهم في العالم. كانت فلسطين قد اختيرت وبدأت الهجرة إليها من قبل شتات اليهود، لكن فلسطين كانت، على رغم ذلك، بعيدة المنال. فهي محكومة من الأتراك، ومحط أطماع الإنجليز. وحين راحت الحرب العالمية الأولى تقترب، وبدت بريطانيا مقبلة لتكون عنصرا أساسيا فيها. وحين بدا أن انجلترا سوف تختار جانب الحرب ليقفوا معها، ضد الأتراك اخوانهم في الدين، بات من الواضح أن على اليهود أن يتحركوا بسرعة... لاكتساب ود الإنجليز.

كانت المسألة، إذا، سباقا بين العرب واليهود، محوره بريطانيا وهدفه فلسطين.

بالنسبة إلى العرب كانت المسألة ممزقة: أي تحتار بين الأتراك والإنجليز؟ وكان يترتب على كل اختيار مستبقات شائكة. أما بالنسبة إلى اليهود فإن الأمور أقل تعقيدا ويجب أن تقدم إلى الإنجليز، في الحرب المقبلة، من الخدمات ما يجعلنا نكسبهم، وبالتالي سيساعدوننا على الحصول على ما نريد. فقط هنا كانت المنافسة قوية بين عرب يملكون كل الحظوظ إذا ما اختاروا، وبين يهود صهاينة عليهم أن يتدبروا حظوظهم.

ونستبق الأمور هنا لنقول: إن «نيلي»، تلك المنظمة التي هي محور حديثنا هنا، والتي يمكن اعتبارها الرحم الذي منه ولدت، لاحقا، أجهزة المخابرات الصهيونية المتعاقبة ولا سيما جهاز الموساد الرهيب، لعبت دورا أساسيا في ذلك كله، على رغم قصر عمرها وانحصار فاعليتها... لأنها كانت الأساس الذي انبنى عليه التعاون الصهيوني ـ البريطاني والذي أدى إلى ولادة وعد بلفور، ذلك الوعد الذي كان له الدور الحاسم في ولادة الدولة العبرية.

دور مسكوت عنه

والملفت أن دور «نيلي» هذا لم يتبين بوضوح، بل كان مسكوتا عنه. وثمة خسائر كثيرة تتعلق به لم تكشف بعد. لذلك نرسم هنا صورة خلفية للأسلوب الذي به تم تأسيسه، وللأشخاص الذين كانوا وراء هذا التأسيس، وكانوا أشبه بمغامرين يلعبون، علما بأن معظم المصادر التي يمكن الاستناد إليها لرسم صورة ذلك كله، مصادر أجنبية أو إسرائيلية، لأن الأرشفة العربية قلما اهتمت بمثل ذلك النوع من العوالم التأسيسية.

وحين يتحدث المرء عن «نيلي» يكون، تماما، كمن يتحدث عن آرون آرونسون وعن رفاقه هؤلاء الذين أسسوا نيلي وارتبط تاريخهم بتاريخها.

آرونسون، إذا، على رغم توجهه العلمي لم يكن ليهتم بالعلم وحده... فهو، ما إن بدأت الحرب العالمية الأولى حتى أتته فكرة واحدة: ان الصهاينة يريدون بناء دولة يهودية في فلسطين، وهم في سبيل ذلك يتعين عليهم أن يلعبوا الورقة الإنجليزية بجرأة. فإذا برهن اليهود على أنهم قادرون على إمداد الإنجليز بما يحتاجون إليه من معلومات عن تحركات الجيوش التركية في فلسطين وسورية، من دون أن يطلبوا منهم أجرا، سيكون من الطبيعي للإنجليز أن يأخذوا هذا في الاعتبار ما إن تنتهي الحرب.

حماس

في صيف العام 1915، تحدث آرونسون عن أفكاره وتطلعاته مع بعض المقربين منه مثل أخته سارة وأخويه الكسندر وزفاي، وسكرتيرته ليوفا شنيرسون، وصديقه العزيز آفشالوم فينبرغ الذي كان ابنا لمهاجرين روس، إضافة إلى آخرين مثل روفن شوارتز وحاييم كوهن ونعمان بلكند. وسرعان ما وجد الجميع أنفسهم على خط واحد يتشاطرون الحماس نفسه، والتمسك بالمشروع الصهيوني القائم على سرقة فلسطين من أهلها بمعاونة الإنجليز.

إذا، بعد التوافق بقي على هؤلاء أن يتصلوا بالمقر العام للقوات البريطانية في مصر. وهو أمر قبل فينبرغ القيام به. وهكذا نجده يصل إلى بورسعيد في شهر أغسطس/ آب 1915 بواسطة جواز سفر مزور. وهناك في بورسعيد التقى فينبرغ بصديق قديم له، هو لبناني مسيحي يدعى شارل بوتاني. ولم تكن مهنة بوتاني بغائبة عن وعي فينبرغ حين التقيا، فهو كان يعمل مترجما لدى مسئول مكتب مخابرات البحرية البريطانية في مصر، ما مكّنه من أن يرتب لقاء بين الصهيوني المتحمس ومسئول كبير في الاستخبارات البريطانية هو الملازم تشارلز ليونارد دولي. وهذا الأخير قبل من دون أدنى تردد بالخدمات التي عرض فينبرغ تقديمها عن طريق التجمع الذي يضمه وآرنسون والآخرين. وهكذا تم تركيز جهاز ارتباط يقوم على كون النقيب ويلدون، من جهاز استخبارات البحرية البريطانية، مسافرا نشطا على متن مركب فرنسي يعمل بين بورسعيد وصور على السواحل اللبنانية، عبر المياه الفلسطينية. وهكذا صار على ويلدون أن ينتظر إشارة ضوئية تنطلق من مدينة عتليت حين مرور المركب ليلا، ليدرك أن هناك أخبارا يراد توصيلها. فإذا شوهدت الإشارة يتوقف المركب بزعم أنه يراد إصلاح عطل فيه وينطلق منه زورق صغير نحو الشاطئ مهمته التقاط المعلومات.

إشارة لم تصل

وفي الموعد الأول المتفق عليه، أطلق آرونسون من على شاطئ عتليت إشارته الأولى، لكن المركب واصلت سيرها نحو السواحل اللبنانية. فما الذي حدث؟ لقد شغل هذا السؤال بال أفراد العصابة الصهيونية، لكنهم لم يدركوا أبدا أن أفراد الارتباط اللبنانيين العاملين مع جهاز المخابرات البريطاني «نسوا» إخبارهم بأن الشيفرة المتفق عليها قد بدِّلت في اللحظات الأخيرة!

هنا، وعلى رغم تردد رفاقه وخوفهم قرر فينبرغ أن يتوجه من جديد إلى بورسعيد. فتوجه من دون أن يدري أنه كان أصلا تحت المراقبة منذ الزيارة الأولى. وهكذا تعقبته الشرطة التركية في بورسعيد واعتقلته، لتضعه وراء القضبان في سجن «بئر سبع». وبواسطة صهيوني يدعى يوسف ليشانسكي يقيم في بورسعيد وصل الخبر إلى عتليت زارعا الرعب والقلق لدى أفراد المجموعة، إذ أن الأمر الآن لا يقتصر على أن الارتباط قد انقطع مع الإنجليز، بل ها هو آفشالوم يخاطر بفقدان رأسه أيضا. فالأتراك لا يتهاونون في مثل هذه الأمور.

بل يفعلون... قال آرون آرونسون لرفاقه وهم يقلبون الرأي في المسألة. كيف؟ لقد كان آرونسون نفسه قد قدم إلى الأتراك، عن طريق الحاكم العام لسورية أحمد جمال باشا (السفاح في نظر العرب الذين أعدم هذا الأخير عشرات من خيرة مفكريهم)، خدمات علمية كبيرة حين صمم الكثير من الأفكار والمشاريع الزراعية، وخصوصا في إبريل/ نيسان 1915 حين هاجم الجراد سورية ولبنان، فكلف جمال باشا آرونسون بقيادة عمليات مكافحة الجراد... فقام بهمته بنجاح.

إذا... ها هو الحل!

أي حل؟

ومن دون أي تردد قابل آرونسون الحاكم العام العثماني وشرح له أن في الأمر سوء تفاهم مريع، وان صديقه المعتقل فينبرغ ليس جاسوسا بل ضحية لسلسلة من الظروف الخارجة عن إرادته، فهو إذا متهم بريء يجب إطلاق سراحه بسرعة.

طبعا لم يبلع جمال باشا هذه الحكاية، لكنه أراد أن يرد «الجميل» إلى العالم الصهيوني الشاب، لأنه كان أكثر نهما إلى التقدم العلمي من أن يتوقف عند مثل تلك الأمور التافهة. فكان أن فينبرغ حوّل إلى المحكمة العسكرية العثمانية التي أطلقت سراحه على رغم تحفظات أجهزة المخابرات.

أما الإنجليز الذين باتوا الآن أكثر إصرارا على الحصول على معلومات عن العثمانيين، فقد أرسلوا إلى آرونسون، ضابطا يهوديا انجليزيا شابا يدعى زفاي رابين حاملا اقتراحا يتعلق بلقاء في سفينة في البحر بين آرونسون والملازم دولي. ووصل رابين إلى عتليت. ولكن هنا، مرة أخرى، كان سوء الطالع في الانتظار، إذ أن المركب التي كانت تقل دولي ضربت بالكوربيد من قبل الأتراك وتم اعتقال دولي على الفور.

غياب طويل

وهنا شعر آرونسون بالغضب إزاء هذا كله، فقرر أن يتوجه إلى القاهرة وإلى لندن بنفسه بأمل أن يقيم علاقات مباشرة مع القادة الإنجليز. والأدهى من هذا أنه تمكن من «إقناع» جمال باشا، الذي أضحى الآن صديقه حقا، بأن يعطيه منحة دراسة تمكّنه من السفر إلى برلين.

وهكذا وصل آرون آرونسون وليوفا إلى اسطنبول في يوليو/ تموز 1916 ليقيما فيها ثلاثة أشهر يتسللان بعدها وقد ضيعا الأتراك الذين كانوا يراقبونهما، إلى لندن. وهناك كان اللقاء الأول بين قائد المجموعة الاستخباراتية الصهيونية الصغيرة، وبين قائد الفرع الخاص في المخابرات البريطانية سير بازيل تومسون. وإذ اقتنع هذا الأخير بجدية عروض وتحركات آرونسون رتب له بسرعة لقاء مع جورج ماكداف رئيس المخابرات العسكرية ومساعده الكولونيل غريبون. وكانت النتيجة إيجابية في الظاهر. إذ في 12 ديسمبر/ كانون الأول من العام نفسه وصل آرونسون إلى القاهرة، وبعد لقاء تشاوري مليء بالأسئلة أجراه مع ضابط المخابرات نورمان بنتوكش، التقى آرونسون، اللقاء الأساسي بالشخص الرئيسي، الرئيس الأعلى لأجهزة المخابرات البريطانية في المنطقة سير جيلبرت كينون ومساعده المايجور ويندهام ديدس.

وطبعا خلال اللقاء «سها» عن بال البريطانيين أن يخبرا الصهيوني المتحمس بأنه سبق لهما أن أرسلا أحد أهم ضباطهما ت.ي.لورانس، في مهمة خاصة لدى الشريف حسين، شريف مكة... فهما ما كان من مصلحتهما أن يكشفا أن الإنجليز يصرون على لعب اللعبة المزدوجة: الورقة الصهيونية والأوراق العربية جميعا في الوقت نفسه.

العودة إلى النشاط

غير أن هذا كله لم يوقف صعوبة كأداء لم يمكن تفاديها، فالاتصال بعتليت كان مقطوعا تماما. وعلى ضوء هذا الواقع الذي كان من الصعب، الآن تجاوزه، أبلغ ضابط مخابرات بريطاني آرونسون، يوم 25 يناير/ كانون الثاني بأن يوسف ليشانسكي قد وصل إلى بورسعيد.

فلم كان ذلك الوصول غير المتوقع؟

إن المجموعة «نيلي» في عتليت والتي لم تكن تبلغها أية أخبار عن قائدها آرونسون منذ ستة أشهر بدأ يساورها القلق، إذ أصبحت الآن تحت قيادة سارة آرونسون، شقيقة آرون، فقررت إرسال اثنين من رجال فينبرغ وليشانسكي إلى القاهرة لمقابلة مسئولي المخابرات البريطانية هناك. والذي حدث على الطريق ان معركة دارت بين الصهيونيين وجماعة من البدو العرب، أدت إلى مقتل فينبرغ (الذي لم تجد البحوث التي أجريت لاحقا للعثور على جثته إلا في العام 1967، إبان حرب الأيام الستة، أي بعد نصف قرن من مقتله)... أما رفيقه فإنه بعدما أصيب بجراح كثيفة تمكن من الوصول إلى مصر، وصار في إمكان الإنجليز أن يخبروا آرونسون أن ليشانسكي موجود في بورسعيد.

وقرّ رأي الجميع على ضرورة استعادة الاتصال بجماعة «نيلي» في عتليت بأسرع ما يمكن. وعلى الفور توجه آرونسون على متن السفينة ـ المخابراتية لاناغام، وبرفقة ليونا شنيرسون والنقيب سمين (من مخابرات البحرية) واللبناني شارل بوتاني، وعضو يهودي جديد في التنظيم يدعى ليبل برنشتاين. وكان هذا الأخير هو الذي تمكن من إعادة الاتصال بجماعة عتليت على رغم الصعوبات كلها. ولنذكر هنا أن ليونا عثرت خلال رحلة العودة تلك على الاسم الذي أعطي للمجموعة «نيلي» انطلاقا من الأحرف الأولى لعبارة وردت في التوراة تقول: «إن إله إسرائيل لا يكذب أبدا». وانطلاقا من هذا تقرر أن يقام تنظيم للحركة جديد بحيث إن سارة تواصل قيادة الشبكة ميدانيا في فلسطين، بينما يؤمن لبيل بورنشتاين الاتصالات (خصوصا عن طريق الحمام الزاجل)، بينما يتولى آرون القيادة المركزية انطلاقا من القاهرة. وتحولت «نيلي» إلى جهاز فاعل، ما أرضى حقا كليتون والقيادة البريطانية ككل. ولسوف تشتغل تلك الشبكة طوال العام ونصف العام من دون أن تواجهها صعوبات باستثناء عداء لورانس المتزايد لها ولأهدافها.

... وانتهى كل شيء

ولكن حدث يوم 3 سبتمبر/ أيلول 1918، أن «اصطاد» شرطي تركي، حمامة زاجلة كان أرسلها بورنشتاين محملة برسالة في غاية السرية. وإذ درست القيادة العثمانية الأمر جنّ جنونها، إذ باتت واثقة الآن من أن الهزائم التي مُنيت بها القوات التركية في معاركها أمام البريطانيين، ليست ناتجة عن ضعف الأتراك... بل عن هذه الخيانة التي مارسها جواسيس صهاينة يعملون لحساب بريطانيا.

وهكذا أطلق الأتراك حملة اعتقالات واسعة طالت كل المشتبهة فيهم، ما أثار، حتى، حنق زعماء الجاليات اليهودية في فلسطين ممن لم يرقهم أبدا نشاط جماعة «نيلي» وقد أدركوا أن هذا النشاط سوف يرميهم إلى التهلكة... كانوا يرون أن «نيلي» تشكل خطرا على اليهود أنفسهم.

وهكذا اعتقل أفراد المجموعة وتخلى عنهم الإنجليز وزعماء اليهود في فلسطين... أما الشرطة التركية فراحت تمعن فيهم تعذيبا: نعمان بلكيند أعدم في دمشق، سارة آرونسون عذبت حتى انتحرت. أما ليشانسكي فإنه انهار وأدلى باعترافات خطيرة أدت إلى مزيد من الاعتقالات. وكان ذلك كله إيذانا بحملة شنتها السلطات العثمانية على يهود فلسطين كلهم.

وهكذا انتهى مسار «نيلي» في العمل الصهيوني. أما آرون آرونسون الذي كان آمنا على نفسه في القاهرة فإنه قتل العام 1919 في حادث تحطم طائرة، فيما كان متوجها إلى مؤتمر السلام، مثله في هذا مثل لورانس والنقيب الفرنسي بيزاني.

انتهت جماعة «نيلي»، لكن عملها كان الأساس الذي قام عليه لاحقا جهاز «الموساد» الصهيوني: عدد مكيل من البشر ذوي الحوافز، وترابط وثيق بين الأفراد لخدمة هدف أيديولوجي، ولعب على عدة أوراق في آن واحد... إضافة إلى معرفة كبيرة بالعالم العربي ونقاط ضعفه..

العدد 57 - الجمعة 01 نوفمبر 2002م الموافق 25 شعبان 1423هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً