العدد 5296 - الثلثاء 07 مارس 2017م الموافق 08 جمادى الآخرة 1438هـ

نادر كاظم يقترح «المخرج» بتحويل الدراسات إلى ممارسة «تحدث التغيير»

تحدث في أسرة الأدباء حول حل أزمة النقد عبر الدراسات الثقافية...

الأكاديمي نادر كاظم يتحدث حول أزمة النقد بإدارة عبدالقادر المرزوقي
الأكاديمي نادر كاظم يتحدث حول أزمة النقد بإدارة عبدالقادر المرزوقي

اختار الأكاديمي والكاتب نادر كاظم عنواناً فرعياً نصه: «اللامبالاة تجاه العالم: قراءة المجزرة عبر صراع الديكة!» ليتساءل: «هل وصل النقد إلى طريق مسدود؟»، لكنه في الوقت ذاته يجيب بأنه لا يبدو أن أحداً يشك أو ينكر أن النقد يمر بأزمة حقيقية غربياً وعربياً.

وتوسع في محاضرته التي ألقاها مساء الأحد (5 مارس/ آذار 2017) بأسرة الأدباء والكتاب عنوانها :»هل تكون الدراسات الثقافية هي الحل لأزمة النقد؟» وأدارها عضو الأسرة عبدالقادر المرزوقي، في الحديث عن أزمة النقد عربياً وغربياً خاصة بعد أن أفل عصر الحماسة النظرية والانفجار النقدي الذي بلغ أوجهه غربياً في الستينات والسبعينات، وعربياً في الثمانينات والتسعينات، حتى أن بعض الدارسين ظن أن أزمة النقد تكمن في ضيق موضوعاته وانغلاق الاهتمام النقدي على النصوص الأدبية فقط، إلا أنه أومأ - من أجل تجاوز هذه الأزمة - إلى توسيع هذا الاهتمام من خلال توسيع مفهوم النص بحيث ينطبق على كل شيء يحمل معنى ويتمتع باتساق مقبول من شعر وسرد ومسرح وفن وأغنية وشائعة ولعبة شعبية ومقالة صحافية وكتابة تاريخية وتصريح سياسي.

أزمة تتصل بوظيفة النقد

ويصف كاظم هذا (التشخيص) بالمتداول، ذلك لأنه يحصر أزمة النقد في حدود الاشتغال النقدي وموضوعاته اتساعاً أو ضيقا، وزاد قوله : «إلا أنني أتصور أن أزمة النقد تتصل بما هو أكثر جذرية من هذا، فهي أزمة تتصل بوظيفة النقد ومسئوليته السياسية والأخلاقية وبالتنكر لطبيعته التدخلية تجاه العالم وقضاياه... صحيح أن كل المدارس النقدية الحديثة من بنيوية وما بعد بنيوية كان لها إسهامها المميز في انفتاح موضوعات الاشتغال النقدي، إلا أن الصحيح كذلك أن كل الذي أنجزه هذا الانفتاح هو تحويل الظواهر والأحداث والأشياء والأفكار والخطابات إلى مجرد نصوص، الأمر الذي يعني انتزاعها من حضورها المادي الفعلي، فصار بإمكان أي ناقد أن يكتب عن «الإرهاب بوصفه نصاً»، أو عن «حرب تحرير العراق بوصفها نصاً»، أو عن «حرب تموز 2006 بوصفها نصاً»، أو عن «حرب غزة بوصفها نصاً»، أو عن «ثورات الربيع العربي بوصفها نصاً».. صار كل هذا ممكناً، إلا أنه لم يسهم إلا في إغراق هذه الوقائع الخطيرة والمؤلمة في نصوصية ناعمة ورقيقة ولعوب حدّ العبث والخواء والتفاهة واللامبالاة».

صراع الديكة في بالي

وأشار إلى أن هذه «اللامبالاة» انتقلت إلى عوالم الأدب والفن والنقد، ومن هذه العوالم إلى مجالات معرفية مجاورة كالأنثروبولوجيا والتاريخ، فصار المتخصص في الأنثروبولوجيا، على سبيل المثال، معنيّاً بالتأويل النصوصي لجمالية لعبة شعبية أكثر من اهتمامه بما يجري في مجتمع دراسته من صراعات وأحداث مزعجة. ويشار في هذا السياق إلى عمل كليفورد غيرتس، الأنثروبولوجي الأميركي، حول «صراع الديكة في بالي»، وهي المحاولة التطبيقية الأبرز الذي اجتهد فيها غيرتس من أجل أن يثبت فكرته حول «تأويل الثقافات» والممارسات الثقافية كما لو كانت نصاً، أو صورة، أو قصة، أو مسرحية، أو مجازاً أو فناً أي مجرد «وسيلة تعبير» أو «شكل تعبيري ودلالي»، وكأن ما يفعله «صراع الديكة» في المتحلقين حوله هو ذاته «ما تفعله مسرحية الملك لير أو رواية الجريمة والعقاب بالنسبة إلى أشخاص ذوي أمزجة مختلفة وأعراف مختلفة، إنه يلتقط تلك المواضيع - الموت، والذكورة، الكبرياء، الفقدان، حب الخير، المصادفات - ويرتبها في تركيبة شاملة، ويقدمها بطريقة تبرز نظرة خاصة لطبيعتها الأساسية».

و«أمام جمالية تغرق الإنثروبولوجيا»، يعرج كاظم نحو التعامل مع الثقافات كما لو كانت نصوصاً وأشكالاً تعبيرية، و «الحياة كما لو كانت نوعاً من الفن» نقرؤها كما نقرأ «مسرحية ماكبث» لشكسبير، وننصت إليها كما ننصت إلى موسيقى بيتهوفن، إلا أن قراءة الحياة والثقافات بهذه الطريقة النصوصية ستقود حتماً إلى نوع من اللامبالاة المعرفية تجاه الحياة وحوادثها مهما كانت فظيعة وقاسية؛ لأنها تبقى، في النهاية، نصوصاً يمكن أن تقرأ كرواية أو مسرحية، وهذا بالفعل ما حصل مع كليفورد غيرتس، حيث يذكر راسل جاكوبي أن غيرتس أنهى عمله الأنثروبولوجي الميداني في جزيرة بالي الإندونيسية قبل سنوات قليلة من «انقلاب شيوعي فاشل أدى إلى اضطرابات دموية قُتل فيها الكثيرون» يقدّرهم غيرتس نفسه بأربعين أو ثمانين ألفاً من أصل عدد السكان البالغ مليوني نسمة تقريباً، فيما يقدرهم آخرون بربع مليون، وآخرون يصعدون بالرقم إلى أكبر من ذلك بكثير، إلا أن غيرتس حين أراد أن يكتب عن تجربته في بالي لم يجد موضوعاً يكتب عنه أعظم من «لعبة صراع الديكة» بوصفها نصاً قابلاً للتأويل الدلالي، ويكتفي بالإشارة إلى تلك الأحداث الدموية في الهامش الأخير من مقالته، وكأن «صراع الديكة» في بالي أعظم من مقتل ثمانين ألفاً أو ربع مليون من الإندونيسيين! بل إنه يذهب، في هذا الهامش، إلى مطالبتنا بالنظر إلى بالي والقتل الفظيع الذي حصد الأرواح في ديسمبر 1965 «ليس فقط من خلال فنونها ورقصاتها ومسرحيات خيال الظل فيها وفن النحت والفتيات، وإنما أيضا - كما يفعل البالينيون أنفسهم - من خلال صراع الديكة فيها». هذا هو المطلوب: أن نقرأ المجزرة من خلال «صراع الديكة»!

ظاهرة اختفاء المفكر الحر

وبدا واضحاً أن كاظم بذل جهداً بحثياً متخصصاً وعميقاً في ورقته، حتى أنه في الحديث عن (السيرورة العامة للنقد المعتزل)، قدم مثلاً بالرجوع إلى العام 1987 عندما نشر راسل جاكوبي، المفكر اليساري الأميركي، كتابه «آخر المثقفين: الثقافة الأميركية في عصر الأكاديميا»، وهو كتاب يرسم معالم حقبة جديدة يهيمن فيها نوعية جديدة من المثقفين، وهو يطلق على هذه الحقبة اسم عصر «المثقف الأكاديمي»، والكتاب، بشكل عام، رثائي وهجائي في الوقت ذاته، فهو يرصد، بحزن، ظاهرة اختفاء «المثقف العام» أو «المفكر الحر» الذي كان يكتب بحيوية وقوة، ويتمتع بالجرأة والشجاعة والوضوح في طرح أفكاره في «الحياة العامة». وباختفاء هذا النوع من المثقفين الذين أثروا «الحياة العامة» بكتاباتهم ومواقفهم، حلّ محلهم مجموعة من أساتذة الجامعات الذين يستحوذ عليهم تخصصهم الدقيق ولغتهم الاصطلاحية الغامضة. والمفارقة أن المجتمع لم يعد يعيرهم أي اهتمام، وهم، في المقابل، لم يعودوا يعيرون هذا المجتمع اهتماماً كبيراً.

وبحسب جاكوبي، فإن نموذج هذا «المثقف الخصوصي» يتمثل في أستاذ جامعي متخصص في الأدب، منغلق على نفسه وعلى تخصصه، ولا يستهويه التعاطي مع العالم خارج حدود قاعة التدريس، وإذا كتب فإنه يكتب كتابة مُملَّة، وبلغة اصطلاحية عصية على الفهم، وغرضه الأساسي من الكتابة هو الترقي الأكاديمي لا التغيير الاجتماعي أو السياسي، أما إدوارد سعيد، من جهته، لم يجد أفضل من مثال الناقد الأكاديمي أو أستاذ الأدب في الجامعة لتوضيح فكرته عن «المثقف المحترف» والمستسلم للنزعة التخصصية الآخذة في التوسع. وهذا نموذج لمثقف «توقّف عن التفكير في أي شيء خارج الحقل المباشر لاختصاص المرء - مثلاً، شعر الحب في مطلع العصر الفيكتوري - وتضحية المرء بثقافته لأجل مجموعة من السلطات والأفكار الشرعية أو المعترف بها». وتكمن مشكلة التخصص في النقد والأدب، من وجهة نظر إدوارد سعيد، في كونها تؤدي «إلى تزايد في الشكلية التقنية، وتناقص مستمر في حسّ التقدير التاريخي للتجارب الحقيقية التي يمرّ بها عمل من أعمال الأدب». ثم إن الضريبة التي يدفعها المثقف المتخصص في الأدب في عالم الأكاديميا هو أن يصبح «وديعاً وراضياً بما يسمح به المدعوّون قادة في هذا الحقل» المرتكز على تراتب هرمي استقرّ ولا أمل في تغييره.





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً