العدد 5381 - الأربعاء 31 مايو 2017م الموافق 05 رمضان 1438هـ

مُثلَّجات الفقمة

محمد عبدالله محمد Mohd.Abdulla [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

صيفُ العراق قد لا يكون له مثيل. فالحرارة فيه قد تصل في أحيان كثيرة إلى الـ 59 درجة مئوية. ومع الانقطاع المتكرر للكهرباء وزيادة معدلات الفقر تتزايد المأساة بين الناس هناك. لذلك انتشرت في العراق في السنوات الأخيرة (وحتى قبل ذلك) مهنة بيع الثلج، إذ يقوم الباعة بتخزين الثلج في صناديق فِلِّينِية أو أكياس، ثم يجوبون الشوارع والأزقة لبيعه على الناس المتلهفين لما يقيهم من حَرٍّ لاهِب يستمر لأشهر.

وقد تطوَّر الحال إلى أن يسعى البعض لأن يبيع «المثلجات» المأكولة التي أصبحت محل طلبٍ بلا منازع في العراق مقارنة مع بقية المرطبات الأخرى وتحديداً خلال فترة الصيف. لذلك عادة ما تجد مثل هذه المحلات في المحافظات العراقية وفي أغلب ساعاتها وقد ازدحمت بالمشترين.

ولأنها كذلك، فعادة ما تكون تجمعات تلك المحلات هدفاً، سواء لبيع سلع أخرى جانبية أو للمتسولين أو للترويج لفعاليات مختلفة. لكن هناك آخرون يختارون هذه التجمعات لأهداف أخرى قد لا تخطر على بال. أهداف لا تقل عن استهداف مَنْ هناك بنيّة قتلهم الجماعي كيفما اتفق ودون تحديدٍ لأحد منهم ربما بينه وبين القاتل تأثير من نوع ما. هذا ما جرى تحديداً في العراق مساء الأحد الماضي.

ففي حيّ الكرادة ببغداد جاءت سيارة مسرعة وقد نزَّرَها سائقها بالمتفجرات ليستهدف الواقفين أمام متجر «مُثلَّجَات الفقمة» ليصيب 38 شخصاً، ثمانية منهم قتلوا بعد أن تقطعت أوصالهم، بينما أصيب الثلاثون الآخرون بجروح مختلفة بعضهم في حالة حرجة. لقد صوّرت الكاميرات المأساة. دماء على الأرض وعلى الكراسي والطاولات المبعثرة بعد أن اختلط بها فتات الثلج فأصبحت البقع الداكنة متمددة أكثر.

لم يمنع ذلك «الإرهابي» كون هؤلاء كانوا صائمين وللتو يفطرون، وأنهم في شهرٍ حرام! فهذه الموانع لا تعمل لدى هؤلاء. والعراق بَلَدٌ خَبِرَ مثل هذه الاعتداءات آلاف المرات منذ العام 2003. ولو جُمِعَت قوة انفجاراتها لزادت عن قنبلة هائلة تسقطها طائرة حربية من نوع بي 52! كيف لا؟ والقتلى بلغوا الآلاف والجرحى مئات الآلاف كضحايا مباشرين، أما تداعيات ذلك فحدِّث ولا حرج من يُتمٍ وترمّل.

الحقيقة، أن دراسة دوافع القتل التي يقوم بها البشر مازالت تبدو غامضة. ربما تصبح هناك مقاربات لها صدقية أكثر عندما تتم معرفة الحالة الاجتماعية للمجرمين ويُكتَشف فقرهم أو تشتتهم العائلي، ليكون تفسير أعمالهم مفهوماً، لكنها لا تصبح كذلك إذا ما عُرِفَ عن المجرم انتمائه لطبقة عالية أو متوسطة، واستهدافه مجموعة كبيرة من الناس كما في حالة مُنفِّذ هجوم مانشستر الذي درس إدارة الأعمال في جامعة سالفورد المرموقة وينتمي لعائلة معروفة.

كثيرة هي الكتابات التي نُشِرت لتفسير ما جرى ويجري. بعضها ما يزال مسكوناً بالتفسيرات التقليدية للسلوك البشري، وبعضهم فسّرها من واقع الصدمة التي نعيشها فجانَبَ الطرفان الصواب.

في شهر أبريل/ نيسان الماضي نُشِرَ مقالٌ تحت عنوان: Human behaviour: Guns and roses لـ آن هارينجتون. والسيدة آن هي أستاذة في تاريخ العلوم النفسية ومديرة دراسات جامعية وعميدة كلية بورزهايمر. المهم في مقال آن هو ما تناولته من قراءة لكتاب يبدو فريداً ونادراً من عنوانه وحتى آخر صفحة منه. إنه بعنوان: Behave (أو تأدَّب) وهو من تأليف اختصاصي علم الأعصاب روبرت سابولسكي.

الكتاب تزيد صفحاته على الـ 700 ويناقش موضوعاً حساساً يتمحور بشأن الإجابة عن: لماذا يكون هناك بشر قادرون على ممارسة القتل بدون توقف وآخرون قادرون على مواساة أقرانهم وبرحمة؟! هذا الكتاب يلوم نوعين من العلماء والعلوم لأنهما استغنيا عن بعضيهما لتفسير تلك الظاهرة. هو يلوم عالِم الاجتماع لعدم استعانته بعالِم الجزيئيات، ويلوم الأخير لعدم استعانته بالأول.

هو يعتقد أن «الأحياء ضرورية، بالإضافة إلى السياق الثقافي والاجتماعي الذي تنشأ فيه تصرفات الإنسان» وفق ما تذكره آن. بل يجب أن يُضاف إلى كل ذلك «نحتاج إلى ما تقوله «علوم الأعصاب والغدد الصماء ودراسة الرئيسيات والأحياء النمائي والنفس السريري والاجتماعي وإلى نظرية التطور» وإلى «تداخلها التام» كما تذهب الكاتبة في حديثها. فهي جميعها وسائل تفسيرية ضرورية.

أهم ما يذهب إليه سابولسكي هو عرضه «لعلم الأحياء السلوكية» من نموِ دماغ وتطور ثم إلى ما نكتسبه في حياتنا، ليخرج لاحقاً بتفسيرات توضح لماذا يجنح الإنسان إلى العنف والرحمة كسلوكين متنافرين، ثم وصوله إلى نقطة ما يُسمّيه بـ «الرموز والأفكار» وكيف يُصبح الاختلاف عليها مدعاة للاقتتال والتوافق بشأنها مدخلاً للصلح عندما تُحتَرَم تلك الرموز المجسِّدة للقيم.

ولأننا نعيش في متغيرات عالمية قلّ نظيرها، فإن من أهم الأشياء التي يجب أن نفهمها هي عن دواخلنا. كيف يحدث كل ما نراه! عندما وقعت الهولوكوست في ألمانيا لم يستوعب ذلك أحد، وفُسِّر على أن شرذمة قليلة هي مَنْ قامت بذلك، وهي ثقافة لم تنتشر خارج معسكرات النازيين. اليوم لا يبدو الأمر كما كان؛ بل باتت ثقافة القتل والذبح وكأنها سقف ممتد يغطي كل مكان. والأكثر ألماً هو جمود مشاعر البشر تجاه بعضهم وكأنها معارك شرف ما بعدها شرف! هذه هي المأساة.

إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"

العدد 5381 - الأربعاء 31 مايو 2017م الموافق 05 رمضان 1438هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 1 | 2:36 ص

      ليس الهولوكوست وحسب
      هناك أيضاً هيروشيما ونجازاكي من قبل الأميركان
      هناك أيضاً مجازر السكان الأصليين (الهنود الحمر) من قبل الأميركان
      هناك أيضاً فييتنام واستخدام الأسلحة الكيميائية فيها من قبل الأميركان
      هناك أيضاً أطفال العراق واستخدام القنابل المغلفة باليورانيوم المنضب ضدهم من قبل الأميركان
      لعن الله من زرع فيهم كلهم هذه الأفكار البغيضة وهذا الحقد على البشرية

    • زائر 2 زائر 1 | 8:12 م

      وهناك داعش وحالش وحزب الشيطان والروس وكافية الشام وكافية ليبيا السابق والحالي. زوزو القائمة تطول لكن من الإنسانية أن يعامل الارهاب كنوع واحد وليس حلال في سوريا وحرام في العراق. او تهجير الموصل وتوقع الهدوء في البصرة. العدل للجميع واجب الإنسانية.

اقرأ ايضاً