العدد 2137 - السبت 12 يوليو 2008م الموافق 08 رجب 1429هـ

المتوسطية فكرة رومانسية تعطلها المصالح

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

تبدأ اليوم في باريس قمة «الاتحاد من أجل المتوسط» بحضور 44 مشاركا من دول حوض البحر الأبيض المتوسط وأوروبا لمناقشة مواضيع تتعلق بالاقتصاد والطاقة والماء والغذاء. النقاط الموضوعة على جدول القمة مهمة ولكنها عموما تعتبر عادية؛ لكون تلك الملفات تتهرب من بحث المسائل السياسية التي تشكل إشارة إلى مدى تقدم العلاقات بين أنظمة متعارضة في هياكلها التنظيمية ورؤيتها للعدالة والمساواة والسلام.

تهرّب دول «الاتحاد من أجل المتوسط» من مناقشة السياسة والذهاب نحو مواضيع عامة يصعب التحكم فيها من دون التفاهم على صوغ آليات تؤسس خطوات تعيد هيكلة التوازنات المختلة لمصلحة أوروبا يعتبر خطوة التفافية تمنع التعثر ولكنها لا تساعد على تطوير فكرة راودت تقليديا مخيلة المؤرخين والأدباء منذ عقود طويلة.

الفكرة المتوسطية ليست جديدة. فهي كانت ولاتزال مدار بحث وموضوعة فلسفية ألهبت حواس وحماس الكثير من الشعراء وشكلت لبعض الساسة نقطة ارتكاز لمشروعات وحدوية تتجاوز حدود «الدولة القومية» التي نهضت في أوروبا بقوة خلال القرن التاسع عشر وبعده.

المؤرخ فرديناند بروديل كتب مؤلفات بشأن المتوسط وحضارته ودعا مرارا إلى إعادة تشكيل علاقات سياسية تعيد خطوط التجارة والمواصلات الحيوية التي اشتهر بها البحر وساهم من خلالها في تكوين نواة متقدمة تركت تأثيراتها على تطور البشرية.

الكاتب والأديب المصري طه حسين كان له صولات وجولات لإعادة الحياة للفكرة المتوسطية. وألقى في هذا الصدد الكثير من المحاضرات ونشط عمليا لتأسيس هيئة تتبنى المشروع المتوسطي بهدف الربط بين ضفاف بحر انتشرت على سواحله حضارات فرعونية وكنعانية وفينيقية ويونانية ورومانية وبيزنطية وهلينية وعربية وإسلامية.

المفكر اللبناني رينيه حبشي أصدر مؤلفات اشتهرت بدعوتها إلى تأسيس اتحاد يجمع المتوسط في مشروع حضاري ينهض بالدول الواقعة على شواطئه التي تربط أوروبا بالعرب والمسيحية بالإسلام والشرق بالغرب والماضي بالحاضر.

فكرة المتوسط ليست جديدة. فهي تحولت إلى ما يشبه الحلم الذي يحرك المخيلة ويدفعها من الحاضر إلى الماضي بهدف تعويض ذاك الانهيار الحضاري الذي لحق بخطوط التجارة حين اكتشفت أميركا (الغرب) وتلك الطرق البديلة الموصلة إلى الهند والصين (الشرق) نهاية القرن الخامس عشر.

الاكتشافات الجغرافية التي تطورت بحريا منذ القرن السادس عشر رسمت خطوط تجارة بديلة أدت إلى تراجع مكانة المتوسط ونهوض قوة الأطلسي بصفته يشكل المركز الجديد للعلاقات الدولية المعاصرة. وأدى نمو الأطلسي الذي جمع غرب أوروبا بشمال أميركا إلى تأسيس هيكلية اقتصادية أضعفت ثقل المتوسط وأخذت بتهميشه في ظل نهضة اقتصادية ثقافية في وسط أوروبا وشمالها على حساب جنوب أوروبا وشرقها. وشكّل هذا التحول الاستراتيجي في خطوط التجارة الدولية بداية انكسار في الموروث التاريخي وخطوة نحو تأسيس طور في التاريخ المعاصر أعاد النظر في ترتيب الدول ودرجات تقدمها وتراجعها.

غياب المتوسط بصفته قوة فاعلة عن مسرح التاريخ أحبط قدرة المدن والمرافئ وخطوط التجارة على الصمود في وجه نمو شبكة علاقات دولية حديثة بقيادة دول الأطلسي. وعدم قدرة دول المتوسط على التنافس في المنظومة الاقتصادية المعاصرة ساهم لاحقا في ضمور ثقافات تقليدية تأسست على ضفاف طريق الحرير الذي كانت خطوطه التجارية تتفرع وتتوزع وتتنوع من الصين والهند إلى البندقية مرورا بسمر قند وطشقند وبخارى واسطنبول وحلب وشواطئ المشرق العربي والاسكندرية. فالانقلاب في المعادلة الدولية أودى بثقافات كان لها دورها في النقل والترجمة والتواصل والاحتكاك بين الشعوب. وبسبب تلك المتغيرات أخذت المدن والمرافئ تتلاشى وتضمحل بعد أن تبدلت خطوط التواصل والمواصلات وأخذ «القديم» يفقد وظيفته الاقتصادية وقدرته على مزاحمة «الجديد».

غياب حضارة

انهيار دور المتوسط وموقعه المركزي في التوازن الدولي عصف بالحواضر الإسلامية العربية ودفعها رويدا رويدا إلى الانكفاء والانعزال والانزواء في زاوية ضيقة من التاريخ المعاصر. فهذا الانهيار التاريخي أضعف السلطنة العثمانية في أوروبا والمتوسط ودفعها إلى التراجع والغياب عن الموقع التقليدي في إدارة الصراع. وتكرر الأمر نفسه مع دول أوروبا المتوسطية التي فقدت زمام القيادة حين انتقل الثقل الاقتصادي (الصناعي) من الجنوب (إسبانيا وفرنسا وإيطاليا) إلى الشمال والغرب (بريطانيا وألمانيا). إلا أن التأثير الأبرز كان على المسلمين ودورهم التاريخي في ربط الحضارات الآسيوية والإفريقية والأوروبية في دائرة متوسطية تجمع خطوط التجارة بين القارات الثلاث. واستمر هذا الوضع التراجعي يتطور إلى المزيد من العزلة والانكفاء حتى أعلن رسميا افتتاح قناة السويس.

قناة السويس أعادت بعض النشاط إلى المتوسط حين أخذت تشق طريقها لإعادة تلك الحيوية الاقتصادية والعمرانية لبحر كان له دوره في صنع التاريخ. الا أن تلك العودة شجعت دول الغرب (الشمال) القوية والقادرة على كسر التوازن وتحويل ضفاف المتوسط إلى مواقع عسكرية لضمان النشاط التجاري وحمايته. وساهم انكسار دول المتوسط العربية الإسلامية أمام تقدم دول المتوسط الأوروبية المسيحية في توليد توترات ودفع المنطقة نحو مواجهة حفرت بالذاكرة التاريخية تلك الصور المشابهة لحروب الفرنجة.

عودة الصراع على المتوسط تطور تدريجيا منذ القرن التاسع عشر وحمل معه ذكريات تزاوج بين حروب عنيفة وجماليات رومانسية. فالبحر من جانب أضحى ساحة اقتتال ومعبرا للجيوش ومن جانب آخر أمسى مجموعة ميادين للاختبار الحضاري الذي انطلقت منه الديانات والفلسفات والدساتير والفنون مستخدمة السفن للانتقال من المدن إلى الضفاف والمعابر والمضائق.

كل هذه التعارضات ألهبت المشاعر وحركت مخيلة الأدباء والشعراء والفلاسفة وشجعت أصحاب المصالح على إعادة التفكير في إنشاء مشروعات سياسية تعيد ربط الذكريات بالحياة المعاصرة. الفكرة رومانسية وهي دفعت بروديل وطه حسين ورينيه حبشي وغيرهم من مؤرخين وباحثين ومستشرقين إلى رسم خطوط لمشروع يوحد المتوسط ويجمعه في سياق دولي مشترك. إلا أن الفكرة كانت تعترضها دائما مشكلة الهوية وما تعنيه من اختلافات دينية ولُغوية ولونية. كذلك كانت تتعطل عمليا بسبب عدم التفاهم على وظيفتها الآنية. فهل مشروع المتوسط مسألة رومانسية مجردة تريد إحياء حضارات قديمة أم الفكرة تستهدف إنشاء منطقة للتجارة الحرة تعتمد على خطوط مواصلات تنعش موقع البحر الاقتصادي أم أن الاتحاد هو عبارة عن جامعة سياسية تربط الدول في هيئة رمزية ترفع هيبة حضارة مشتركة في عصر العولمة؟

غموض هوية الفكرة أدى إلى عدم توافق دول المتوسط على صوغ آليات سياسية تبرمج الخطوات وتنقل المشروع من الرومانسية الحضارية إلى واقع يتعامل مع العصر بروحية تتجاوز تلك الفترات التي اتسمت بالغلبة والنزوع نحو السيطرة والنهب. فالفكرة تشهد حالات نهوض وتراجع بحسب تطلعات قادة الدول الأوروبية وتخضع أحيانا للظروف والمستجدات. وهذا ما حصل سابقا في تسعينيات القرن الماضي حين انهارت «الحرب الباردة» ونهضت مشروعات بديلة تريد تأسيس محطات تاريخية في علاقات دول البحر الأبيض المتوسط فظهرت الفكرة مجددا وأعيد إنعاشها في مؤتمر حوار برشلونة في إسبانيا.

الآن أعيد تجديد «المتوسطية» منذ سنة وتحديدا بعد دخول الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي قصر الإليزيه. فالرئيس النشيط والطامح يريد ربط فرنسا المتوسطية - الأطلسية في دائرة وسطى تجمع أوروبا بالبحر الأبيض المتوسط. وأعطى المشروع الذي أطلقه ساركوزي منذ وصوله إلى سدّة الرئاسة الفرنسية دفعة معنوية للفكرة ولكنه وضعها في دائرة الشك حين أخذت تصدر انتقادات أوروبية ومتوسطية بشأن فاعليتها؛ لكونها تعتمد على رومانسيات ومثاليات يصعب ترجمتها إلى علاقات بين مراكز حضارية غير متجانسة في تضاريسها الثقافية ومتفاوتة في نموها الاقتصادي ومتعارضة في أنظمتها وسياساتها.

المشروع الذي يفتتح اليوم تحت عنوان «الاتحاد من أجل المتوسط» واجه عقبات كثيرة منذ الإعلان عنه وتعرض لتعديلات قبل التوصل إلى بيان ختامي يرجح أن يبقى فكرة رومانسية مكتوبة على الورق. فالمشروع مثالي حتى لو ابتعد عن السياسة والتف حول نقاط الاختلاف ليركز على مواضيع الاقتصاد والطاقة والماء والغذاء. المواضيع مهمة عموما ولكنها تعتبر عادية إذا تجاهلت تداخل التاريخ بالجغرافيا. فالمتوسط ليس جغرافيا فقط وإنما ميادين تاريخية تتوسطها المصالح ومطامح الدول الكبرى.

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 2137 - السبت 12 يوليو 2008م الموافق 08 رجب 1429هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً