العدد 2137 - السبت 12 يوليو 2008م الموافق 08 رجب 1429هـ

وتلك الأيام نداولها بين الناس... عالم يأفل وعالم ينمو

محمد صادق الحسيني comments [at] alwasatnews.com

لا شيء في طهران لا في الحقيقة الظاهرة ولا في المجاز أو التلميح يوحي بأن البلاد قد تكون مقبلة على مواجهة ما مع الغرب، بل على العكس تماما إن المؤشرات الظاهرة أو تلك التي تصل إليك بالتلميح تفيد كلها بأن البلاد قد تكون متجهة إلى مصالحة ما من نوع خاص مع «الاستكبار العالمي» بما فيه ذلك الذي اتخذ مسمى «الشيطان الأكبر».

لكن هذا ليس الوجه الكامل للصورة، وبالتأكيد ليس البعد الوحيد الذي يمكن أن يرى منه، إذ يكفي أن تتعمق قليلا في ملامح الأشياء أو تغور فيها لتكتشف استعدادات «هائلة» وعلى أكثر من مستوى وأكثر من صعيد لمواجهة أي احتمال فوق العادة أو ما يمكن وصفه باحتمال قد يأتي من خارج السياقات المعلنة أو ما يسميه البعض بمقامرة اللحظة الأخيرة التي عادة ما يلجأ إليها الخاسر على كل رهانات القمار.

ولما كانت النخب الحاكمة في طهران تنتمي إلى مدرسة الامام السادس للمسلمين الشيعة أو من يسمون بالشيعة الجعفرية - نسبة إلى الإمام جعفر الصادق (ع) - والذي يقول في شرحه لمذهب الشيعة الجعفرية في اطار مجادلات ومحاججات اصحاب مدارس الجبر والتفويض ما نصه: «لا جبر ولا تفويض إنما هو أمر بين أمرين»، فإن لسان حالها وسلوكها العملي في مواجهة احتمالات الحرب والسلام قد يمكن تلخيصه بالطريقة نفسها بالقول: «إنها تستعد للحرب كأنها واقعة غدا وتعمل من اجل (المصالحة) كأنها قادمة لا محالة».

وإذا كان منطق الوقائع يشير بوضوح إلى أن جموح دول «الروم» نحو نهب المياه والسيطرة على المضائق والاستيلاء على ثروات بلاد المسلمين والعرب وفي مقدمها الذهب الأسود والغاز و... وضمان امن الدولة العبرية، لايزال العامل الأساسي الذي يحدد سياسات هذه الكيانات المنتفخة، فإن هذا المنطق نفسه يشير في الوقت نفسه، الى أن العالم يتحرك نحو التغيير الجذري وإن ببطء ولكن بتؤدة واستمرارية متسقة مع منطق الأشياء، نحو عالم متجدد ومتعدد سيكون فيه لبلاد «فارس» التي تبرز اليوم في إطار الدولة الإيرانية الحديثة شأنا ومقاما لم يعد ممكنا لمجموع دول الروم أن تتجاهله، فما بالك لبلد واحد من تلك البلاد الجامحة نحو الهيمنة والاستيلاء.

نقول هذا الكلام ليس تقليلا من شأن احد ولا نفخا في دور أو موقع احد، وليس تقليلا من احتمالات الحرب ولا تعظيما لشأن المصالحة إن وقعت، بقدر ما نريد القول إن ما كانت تعتبره الولايات المتحدة الأميركية ومعها بعض حلفائها الغربيين وعدد من المنبهرين بجبروتها من ابناء جلدتنا، تحصيل حاصل أو «قدرا لا بد منه» أو كما هي الساعة «آتية لا ريب فيها» كما كان عبر احدهم يوما وهو يحذر من اجتياح العراق، لم يعد اليوم كذلك مع إيران أبدا ولا يمكن مقارنته مع العراق بأي شكل من الاشكال.

إنها الوقائع والمعادلات والموازين المستجدة التي تكاد تقلب معادلة الربح والخسارة فيما لو قرر «الروم» أن يذهبوا بجموحهم التقليدي الى حد تعريض طموح «الفرس» المستجد الى الخطر.

بمعنى آخر، فإن ثمة موازين جديدة تشكلت تمنع كحد أدنى على «الروم» التمدد اللامحدود، وبات من غير الممكن لمجموع دول «الروم» فكيف بواحدة عرجاء أن تفكر بالقضاء على طموح بلاد وقوة أوقفت زحفهم على أسوار عواصم جيرانها إن لم تكن قد اغرقتها في مستنقعاتها.

فلتنظر مجموعة دول «الروم» المتداعية إلى مناقشة قضايا العالم في اليابان مثلا وفي المقدمة من هذه المجموعة بالطبع الولايات المتحدة الأميركية، الى العالم الذي يتحرك من حولها مليا، ماذا سترى؟

ألا ترى كيف أن الروس يطالبون بتعددية مالية أضافوها حديثا إلى الكلام الذي لا يملون في تكراره من ضرورة وقف الأحادية السياسية والامنية والعسكرية؟

ألا ترى كيف أن الصينيين باتوا منتشرين فوق كل شبر من أراضي إفريقيا وأميركا اللاتينية وأن ملياراتهم تغرق أسواق الاستثمار في تلك البلدان، ناهيك عن حضورهم المتنامي في المواقع التقليدية لحضور «الروم» الاستراتيجي في البحار والمضائق المعروفة في منطقة تلاقي القارتين الآسيوية والافريقية، ناهيك عن «الغزو» الاقتصادي المنظم لأسواق أوروبا والولايات المتحدة الأميركية حتى قيل إن اليوم الذي ستوقف فيه الصين تعاملها مع تلك الدولة العظمى فإن الشعب الأميركي سيسير حافي القدمين، في اشارة إلى الارتباط العضوي لعشرات الملايين من هذا الشعب بصناعة الأحذية الممولة صينيا؟

ألا ترى كيف أن أوروبا العجوز وقيصرها الباريسي الجديد على رغم كل ما قيل ويقال عنه يتجه حثيثا حثيثا نحو التحلل من التزاماته الأولية التي اعلن عنها مع صعوده المفاجئ؟

ألا ترى ماذا يقول عنها رئيس مجلس العلاقات الخارجية الأميركي ريتشارد هيرتس في مقاله الأخير في مجلة الـ «فورين افيرز»، حيث يتحدث عن عالم لا قطبي يتشكل بعيدا عن تأثير واشنطن المباشر بل وعلى حساب قوة الولايات المتحدة التقليدية؟

ألا ترى كيف أن رجلا مثل رئيس الوزراء العراقي الذي كانت واشنطن تظن حتى الأمس القريب أنه لن يستطيع الخروج عليها قيد أنملة صار يطالب بجدولة انسحاب لقواتها ومذكرة تفاهم بعد إصرارها على اتفاقية أمنية طويلة الأمد اعتقدت بأنها قاب قوسين أو أدنى من التوقيع؟

إنه عالم يسدل الستار عليه ذلك العالم الذي كان يحلم به المنظرون الأميركيون من تيار المحافظين الجدد ومن والاهم من الغربيين والعرب والمسلمين، مقابل عالم جديد يتشكل من قوى فاعلة حكومية أحيانا وغير حكومية أكثر فأكثر يحدثنا عنها ريتشارد هيرتس مرة أخرى في مقاله الشهير والذي يذكر فيه ما يذكر بروز إيران وتبلورها كقوة عظمى إقليمية ولاعب جديد ومؤثر في المسرح الدولي بسبب الفشل والإخفاق المتكرر للدولة الأعظم كما يقول.

عالم يأفل بسبب تراكم الإخفاقات وتعاظم العسف والظلم مقابل عالم ساعٍ إلى التشكل، حالما بالعدالة والمساواة وتكافؤ الفرص. وهذه هي حال دورات الحياة، «وتلك الأيام نداولها بين الناس» (آل عمران: 140).

إقرأ أيضا لـ "محمد صادق الحسيني"

العدد 2137 - السبت 12 يوليو 2008م الموافق 08 رجب 1429هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً