العدد 2150 - الجمعة 25 يوليو 2008م الموافق 21 رجب 1429هـ

أنا... و «عشيقتي»!

جلس خالد في مقهاه واستراحته المسائية اليومية «كافيه الوطن» الجديد في آلامه القديم في همومه! والمدهونة جدرانه باللون الأبيض، لون المحبة والسلام، حيث لا أمن ولا سلام! «كافيه الوطن» يؤمه جميع الشباب على مختلف أطيافهم وهمومهم إذ هو الوحيد في الحي... هذا الحي الصغير الذي لا تتعدى مساحة بيوته الستين قلبا، ولكنه كبير برجالاته، والمعروف بكثرة صحفه الجدارية اليومية وقسوة شعاراته على جدران البيوت والحوانيت التي تهاجم المحتل الإسرائيلي وتفضح جواسيسه والتي يديرها «عمو فريد» القريب من حيهم كعادته، إذ يرتادها خالد كل مساء ينفث دخان سيجارته مع أدخنة الآخرين الغارقين في هموم الدين والفقر والحاجة، في الفضاء الفسيح الأزرق الجميل الذي مل منه، إلى أن يرتفع إلى السماء، بعد ذلك يرتشف قهوته التركية السوداء المفضلة وهو يستمع إلى أناشيد فيروز الوطنية عن سرقة واغتصاب الوطن كأنه يراها واقفة أمامه تبكي حال الوطن العربي من راديو المقهى الذي بالكاد يعرف أنه (راديو)!

وأي وطن هذا الذي بقي لنا يا فيروز؟! تساءل خالد، فهذا الراديو كان شاهدا يوما على العصر، بل على العدوان الإسرائيلي وجرائمه على فلسطين ولبنان آنذاك، الذي انقطع فجأة وكاد أن يقع على الأرض من شدة الصواريخ وقوة القنابل الحارقة، فإذا كان جهاز (راديو) وهو يبعد عن لبنان آلاف الكيلومترات لم يستطع تحمل صوت القنابل والصواريخ فكيف ستتحمله قلوب الأطفال والنساء والشيوخ اللبنانيين والفلسطينيين وهي تقصف أكواخهم وسراديبهم إن بقيت لهم أكواخ وإنسانية وكرامة؟!

يظل خالد هائما مع عقله بعيدا في فكره وأحلامه عن حاله المنكوب ووطنه المسلوب! وبعد هذه الجولة يعود ثانية فيتسامر مع زملائه في لعب الشطرنج، ويختمها - وكما أطلقها عليه شقيقه - مع «عشيقته «حتى طلوع الفجر! إذ يعود إلى غرفته فيرمي بجثته على فراشه حتى الصباح حيث ترسل له الشمس رسالته عبر أشعتها من زجاج نافذته المهشمة بسبب أعمال الشغب، كي يصحو من سكرته الأولى، إذ وكعادته يشاهده خارجا من باب العيادة القريبة من الحي مرتديا زي عمله الرسمي، و»السيك ليف» تتمايل من يده كأنها شهادة التفوق!

هذا هو حاله وحال كل شاب! ينام طول النهار غصبا ويتشاجر بالليل مع زملائه قهرا! إلى أن ينتهي بهم الحال بالطرد على يد «عمو فريد» أو إلى أقرب مركز للشرطة الذي ضج هو الآخر بسبب كثرة شجارهم وجدالهم اليومي الحاد في السياسة! «عمو فريد» الذي بالكاد يعيش على القهوة التركية والشاي الهندي وليس على التناحر والتشاجر!

فجأة تتوقف فيروزعن الغناء ويسود المقهى صمتا ليعلن عن خبر عاجل من الـ «بي بي سي» عن آخر التطورات في الوطن العربي الكبير! في السودان تناحر، وفي العراق مجازر، وفي لبنان مقابر، وفي سورية تآمر، وفي الجزائر تشاجر، وفي فلسطين تنافر! وأما في الخليج فتفاخر بارتفاع سعر برميل النفط إلى 140 دولارا! وينتهي الموجز على عجل من أمر المذيع الذي هو الآخر مل من قراءة هذه الأنباء اليومية الحزينة! وترتفع أصوات الشباب «عاش الوطن، عاش الوطن».

مسكين الوطن! ضائع بين المتنفذين والمتآمرين! ومسكين خالد تائه في عالم السياسة والأحلام مثله مثل الكثير من الشبان المحبطين والتائهين في مشكلات الوطن وهمومه!حتى سئم من عمله وكاد أن يتركه لولا تدخل شقيقه، كما سأم منه اليوم غالبية الشباب، بل قل جيل هذا العصر كله سأم من العمل اليومي، وراحوا يبحثون عن المتعة واللهو والراحة والاستستلام في المقاهي والحوانيت الشعبية!

غريب أمركم وسلوكياتكم يا شباب، فمن سيعمر هذا المستقبل ومن سيبنيه كما بناه آباؤنا وأجدادنا!

وعاد خالد إلى عشيقته «أرجيلته»، وإلى «كافيه الوطن»، وإلى أناشيد فيروز، وإلى قهوته السوداء، لعلها تشفي غليله!

مهدي خليل

العدد 2150 - الجمعة 25 يوليو 2008م الموافق 21 رجب 1429هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً