العدد 2228 - السبت 11 أكتوبر 2008م الموافق 10 شوال 1429هـ

نخلةٌ بلا ظلالْ

علي عبدالشهيد علي التاجر 

11 أكتوبر 2008

القصة الفائزة بالجائزة التقديرية لجائزة أحمد الشملان للإبداع الوطني (الثقافة والأدب) للعام 2008

وراء الباب الخشبي، تقفُ أمي أمام مرآتها العتيقة وذاكرتها، تخلع ملامحها، ثمّ تلبسُ وجعها، ترى نفسها كما تقولُ: نخلة مهيضةَ الأعذاق لا ظلّ لها، تُصفِّق، تغني، وترقص، تحرقُ ما تنبتهُ من عتابٍ في غصن العود ومبخرها كل ليلةٍ إلى أن يهيجَ الغلس.

كانت تغسلُ بالدخانِ جدرانَ غرفتها وملاءة السرير الصوفية، وفساتينها الملونة، وتدوِّرُ يديها كأنها تمسك رحى، وهي تسفُّ بالمبخر على صندوقها الهندي المزخرف بالمسامير الذهبية ذات الرؤوس المحدبة اللامعة.

ثمّ تضفرُ موجَ شعرها الفحمي، وتلقي فوقَ كتفيها جديلتين نسيقتيْن، بعد أن تعقدهما بالمشموم وقلائد الرازگي الناصعِ، وتطوِّقُ معصميها بسوارينِ مزخرفين، تشمُّهما وتقبِّلهما، وفي راحتيها ينبت الحناءُ كأنها عروسٌ يزفها القدر في كل ليلة.

كانت دائما تهمسُ لنا وتحذِّرنا، أنا وأختي الصغيرة، ألا نتكلم أبدا عندما نراها طالعة مثلَ القمر التَّم، شامخة القِدِّ، متوردةَ الوجنتين، حاسرة القذال، لأنّ الملائكة والأرواح الطيبة يحفُّونَ من حولها، وسيحملونها لأبي البعيد، عابرة على غيمةٍ بليلةٍ باردةٍ بصحبة نجم سهيل، لتنشدَ ونحنُ نمشي أمامها موّالا قاتما:

يا ليل رد لي خـبر

وينه حبايبنا

في البر لو في البحر

يا ليل جاوبنا

تركونا ويه القــهر

والحزن ذوَّبنا

ثمّ تَشخص ببصرها إلى السماء، وتشيرُ إلى القمر الطالعِ كعيونٍ خرساء تحشرُ بؤبؤها في قميص الكون الأسود، وتغني:

يا گمر وين الـگمر

يزهي بمرابعنا

لفراگُ أوضيم الدهر

سيـَّـلْ مدامعنا

ملنا الصبر والسـهر

يا ربي تجمـعنا

ونسمعها تتمتمُ، ثم تفزعُ وترتعد، فتتوقف عن الهمس، وتقولُ لنا إن القمر يصرخُ في وجهها:

- سهيل فقأوا عينيه، فشربَ دمهُ الليلُ، وجعلوه جذاذا، لا ينور ولا يدور!

* * *

أمي وراء الباب الخشبي، تنتظرُ حقيقتها وظلّها، وجهها المنقوش بالليل وغربته، وعينها التي تصحَّرت يومَ انفجر رحيقها دما وماء على الخدود، فبقيتْ عينها الأخرى عارية مشدوهة، لتنعاها برثاءٍ مرٍّ في الغدوِّ والآصال، وتبكيها ونحن ملتصقان بصدرها، لأنها سُرقت عندما سافر أبي.

وكلما عنّ لنا أن نسألَ عنه أو عن عيونها، توقفنا بهزّ رأسها، فندفنُ أسئلتنا كي لا نوقد ذلك السرِّ الذي يستوطن ذاكرتها. لم تكن لتتركنا نلجُ فضاء الأسئلة، وبسرعةٍ تأخذنا من بين عطفيها وتنظرُ باسترحامٍ في وجوهنا الخائفة، بعد ما تهرقُ نهرا من اللوعةِ، وتقولُ بصوتٍ كأنهُ يخرج من بين أحشائها:

- حتى انتون يا بعد عمري؟!

ثمّ تطلقُ تنهيدة، وتهزُّ رأسها فتنسدل خصلاتٌ سوداء، تحجبُ عينها الميتة:

-إيه...الدنيا تبعّد الگريب!.

كنتُ أحسُّ بأن الصوتَ لا يخرجُ من شفتيها الغامقتين، إنما تسحبه من كلِّ عرقٍ يضربُ في جسدها، أشعرُ أنّ خلاياها المنشطرةَ تتقيأ كل هذه الغربةِ والعذاب، لتنحتَ كلّ كلمةٍ فوقَ فؤادينا الصغيرين. وإذا طأطأت برأسها، أو سرَحتْ بخيالها وأطبقَ الصمت؛ نعرف أنها ستقومُ تفرع قامتها لترقص وتندبَ ويذيبها الجزعُ، فنلاحقها ونعلقُ أظفارنا بأهدابِ فستانها، وهي تركضُ في كل أنحاء الغرفة الباردة، فنسقطُ وننهضُ مرة أخرى، ونرىَ الدُّموعَ تنسربُ من محجرٍ واحد، ونلمحُ شمسا غريقة تصرخُ للنجاة بين جفون عينها الصامتة.

كنا لا نملك غيرَ أن نبكي معها، وأن نشفق عليها، ونتركها لتُخمدُ أساها بنفسها، ليظلّ السؤال الذي حُفر في صدورنا؛ سكِّينا نابتة في المدرسة والدكاكين، في الشوارع والبيوتِ، وخلف كلمات ووجوهِ الكبار والأطفال التي تلاحقنا بهذا السر!.

وآنَ يهجعُ الكون، تقبلُ بنا إلى الغرفة المجاورة لغرفتها، حيثُ كانت تطلُّ على فناءٍ صغير يشرئب فيه جذعُ نخلةٍ سامق، يملأ خوصها البيتَ غناء عندما تلكزها الريح، وأغصانا مورقة لشجرةِ لوزٍ ساحرة، فتوسِّدنا، تقبِّلنا، تعانقنا، تدثرنا، وتملأنا عشقا لننام. أعرفُ أنها لم تعد بقربي حين أحلم بعيونها الضائعة التي أركب البحر في طلبها، كنتُ أسمعُ الموجَ يغني، والـگنَ(1)، ويامال الفقراء؛ يعزفونَ في أذني، كان رملُ سِِيفِنا الذهبي يقول لي:

- عين أمكَ في دمي، امتطِ هذا الجالبوت، واعبرني يا فتى البحار.

وأسمعُ بعدها قهقهة خبيثة يرتعدُ لنشازها البدن، فيما كنتُ أذرعُ الشاطئَ ببصري، مظللا عينيَّ بكفي التي أُلصقها تماما فوق حواجبي، وأرى المايةَ(2) وقد ثبرتْ(3)، والطينَ بارزا، وطيف قمرٍ بعيدٍ، فأعرفُ أن الليل سيزرعُهُ في سمائنا مخروما، ضنينَ الضوء، فأعقد ثوبي بقوةٍ حول خاصرتي وأخبطُ الطينَ بقدميّ الصغيرتين، ثم أشقّ الموجَ وأنا أسحب الجالبوت من هنّامه(4)، حتى إذا استويتُ على ظهره، جعلتُ أشدُّ الساريةَ وأمطُّ بردةَ الشراع، ثمّ أبحر إلى حيثُ الأفق الذي أكون فيه وحيدا أمام الشمس الغاربة، فأقف حائرا فوقَ رداء الماء البرتقالي، أثقبُ البحر والسماء ولا أرى شيئا، وأغوصُ فأغرسُ أصابعي في القاع، أدفنها بينَ الصخور وشعب المرجان الخشنة، وأخرجُ بعدما تغورُ رئتاي. وعندما أقفلُ عائدا، تدفننا موجةٌ متوحشةٌ، أنا وجالبوتي والشراع وعين أمي التي أحلم بها.

وأستيقظُ على فزعي، فأرى خيوط الشمس متسللة من الدريشةِ(5) وقبالتها أمي تنظرُ إليّ عند الباب باسمة، معلقة أغانيها الخصبة على خديها.

كانت كل يومٍ تودعني عند باب مدرستنا الصغيرةِ، تلوِّحُ لي بيديها، بعد أن تلبسني الحقيبة التي تحملها عني طوالَ الطريق، ثم تقبِّلني وتترك أصابعي التي عرقت داخل يدها، وأراها واقفة قربَ البابِ حتى أخوضَ في حشد الأطفالِ وأختفي بينهم، وأقومُ أركضُ وأحلِّقُ مع الجميعِ الذين يتهامسونَ إذا رأوني ويلصقُ أحدهم شفتيه بإذن أصدقائه، وأسمعُ همزا، لا أعرف معناه!.

* * *

هاجَ الغلس في الدِّيرة (6) وسمائها، وارتعدت النخيل وغصون اللوز والكنار(7)، سهيلُ يأتي مع الريحِ التي تهدهد اللنج ورمول السِّيفِ الناعمة. كانت الطرقات خالية، إلا من "نعيمة" التي تدورُ في الطرقات والأزقة، ميمِّمة شطرَ بيت غائبها الحبيب، لتراهُ مقفرا ومظلما، فتغني وتذرفُ مواويلها، وهي تحملُ فنارها المعدني الصغير، وتجعلهُ أمامها أينما ذهبت، فتمرُ في الظلام الدامس، ويعجز فنارها عن بسط أجنحة ضوئه إلا بقدرِ هالةٍ صغيرةٍ، تقيها السقوط في الحفر والأوحال، حتى إذا شارفت على البيوت، أضيئت النوافذ والشبابيك واحدة تلوَ الأخرى، فترى الطريق سالكة أمامها، لتفتح النوافذ بتؤدةٍ، وتمسك أصابع الجيران القضبان الحديد التي تطلع من ورائها العيونُ التي أضناها النوم، محدِّقة في نعيمة، المرأة الهائمة التي يروق لبعضهم صوتها الحزين، ويتأفف البعضُ من جنونها وطيرها الذي لا يهجرُ عشَّ فؤادها إلا عندما تتناسل العتمة، فيناديها بعضهم:

- نعيمة، ألا تنامين؟ الله يهديش بس!

وينهرها البعضُ الآخر:

- لا تأتين إلى هنا مرةُ أخرى، لا نستطيع النوم أيتها المجنونة.

أما المشفقون عليها، فيغلقون نوافذهم وهم يهزون رؤوسهم حزنا على بنتِ الديرة، ويتحسرون على ذهاب عقلها وعيونها. وأمامهم يأخذها الظلام وهي تسيرُ بخطى وئيدةٍ، فيظلمُ طريقٌ من خلفها، ويضاءُ طريقٌ آخر، وصدى صوتها يرنُّ بإيقاع حنجرتها المبحوحة، وكان المؤذن أبوعلي، يصادفها في الطريق بعض الليالي، فتقفُ أمامهُ وتسأله:

- أبوعلي، ألن يرجع الغايبْ؟

ويردّ أبوعلي بعد أن يتنهد وهو ينظرُ إلى الأرض غضّاَ للبصر:

- لا أعلم يا نعيمة، دائما تسألينني وأجيب، الله يردِّ الغِيَّاب.

ويراها شيخُ القرية الذي يحمل سبحتهُ وفناره، ويعتمر بشته وغترته وهو متجهٌ إلى المسجد ليؤمّ الناس فجرا، فتعبرهُ باكية، وعلى شدقيها كلماتها التي لا يجفّ فيها الفراق ومرّ صبابتها المنحوتةِ فوق الشغاف. ولا يجد الشَّيخُ مندوحة سوى أن يرفع كفيه، وهو يحدِّقُ في السماء، فتنسدل غترته على كتفيه، ويقول بصوتٍ حزين:

- لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، اللهم اهدها يا كريم.

ويمضي الشيخ لدربه، ويسمعُ رجاء من نعيمة وهي تدسُّ قامتها في العتمة:

- يا شيخ حسن، أرجوك ادعُ الله أن يرجع الغايب.

فيقفُ الشيخ ويطلقُ شهقة طويلة، ويقول متضرعا:

- اللهم يا رادّ يوسف على يعقوب، ردّ عليها زوجها، وفرج كربتها وكربتنا يا كريم.

* * *

صوتُ أمّي الريان، يحيلُ الصخر الأصمّ كما تقول ياسمينا ومحمديّا وعشبا طريّا، ويجعلُ سعف النخيلِ والخوصَ الأخضر، ضافرا كغدائرها الطويلة، فتتفتق الجذوع وتتقشر ليخرج منها الحور الحسان يرفلنَ بفساتينهنّ القشب، يتراقصن ويتمايلنَ على صوتها الرَّنيم، فتطلعُ من كلِّ مكانٍ غزلان وحمائمُ وأفرسٌ ذوات أجنحةٍ من الذهبِ الخالص، ويترصع الكون فيروزا ولازوردا، ويبلعُ الليلُ سمرته.

ولكنها منذ الصباحِ تبكي كطفلةٍ أخذوا من بين أذرعها دميتها التي لا تمتلكُ غيرها، فهي لم توقظني هذا الصباح للمدرسة، ولم تغمز في وجهي ببسمتها الرائعة، ولم تغنِِّ لي، وإنما لزمت غرفتها، واعتمرت مشمرها(8) المرقط، وركنت في زاوية الغرفة، قرب صندوقها المبيت(9)، وقامت تصرخُ وتندبُ حتى التمّ جيراننا وأهل الفريـگ بأجمعهم.

جاء خالي الوحيد يهرع لبيتنا برفقة الشيخ حسن الذي لم يسعه الوقت لأن يلبس قلنسوته أو بشته، فجاء بثوبه وغترتهِ المنسابة على فوديه، ودخلا الباحة، فاستظلاّ نخلتنا السامقة، وبعد أن دخل خالي لغرفتها، خرج بعد هنيهةٍ وأبقى بابَها مواربا، فلاح طيفُ أمي متكومة على نفسها، وقد سترت جسدها بمشمرها، ولم يسطع خالي أن يكبتَ صراخها، فناداها الشيخ حسن من وراء الباب:

- ما بكِ يا نعيمة؟ لقد أفزعتِ أهل الديرة؟

سكتت قليلا، فزرعَ الجميع آذانهم في بابِ بيتنا الخارجي، ووقفتُ أنا وأختي الصغيرة قرب باب غرفتنا، فغطيتها بذراعي، ومسحتُ دموعها بأصابعي، ومررتُ راحتي على شعرها النَّظِر، وقلتُ لها بصوتٍ أجش، ليبحرَ في خاطرها الأمان: إنني "حزامُ ظهرها"، كما كانت تردد ذلك أمي في حضور أخيها الوحيد:

- أنا نخلةٌ بلا ظلال، أنت أخي وحزام ظهري.

ثمّ قمنا نراقب خالي والشيخ حسن، ونغرس أعيننا في المساحة الضئيلة التي تلوح من خلفها أمي، التي فاجأت الجميع، حين قالت بلوعة:

- لقد سرقوني يا شيخ حسن، سرقوا كل شيء أملكه، باگوا ذهباتي، ولم يتركوا لي شيئا، حتى التَّراكي(10)، لو لم أعطهم إياها لقلعوا أذني بلحمها وشحمها.

فردَّ عليها خالي غاضبا:

- ألم أقل لكِ لا تخرجي في هذا الوقت؟ تعبتُ يا نعيمة.

وعاضده الشيخ حسن:

- لقد قلنا لك يا نعيمة لا تخرجي في مثل هذا الوقت، ولكنك لا تطيعين أحدا.

تنهد الشيخ حسن، واحمرّ وجه خالي، فقال الشيخ:

- إنا لله وإنا إليه راجعون، وهل تعرفين أحدا منهم؟

فأجابت أمي بصوتٍ مبحوح:

- كانوا ملثمين بغترهم، وقد صكوا فمي، وربطوا يدي، وأخذوا قلادتي ومعاضدي والتَّراكي التي كادت أن تنقلع معها أذناي.

رانَ الصمتُ على المكان، وظلّ خالي ينظرُ في الوجوه ويغمض عينيه أسفا، ويهز رأسه ويتأفف، فحشد الجيرانِ على بابنا جعلَ منه لقمة سائغة للألسن، وما زادهُ إحراجا؛ أن أمي صرخت:

- أريد ذهبي، سيعود غائبنا، وليس عندي ذهب، سأظلّ أبكي للأبد!

وظلتْ تبكي، فرتج خالي بابَ غرفتها، ثمّ أمسكهُ الشيخ حسن وهمس في أذنه كلاما لم يدركه أحد، وأمر الجميع أن يذهبوا، ولم يعد خالي ولا الشيخ حسن منذ ذلك الوقت، وأمي لما تزل تصرخُ وتندب، ورأسُ أختي مدفونٌ في صدري، وقد أسلمت نفسها إلى النوم، بعد أن لم تأتِ أمي، ولم توسدنا كعادتها، ولم تزهو كعروسٍ رامحة بقدها الفضاء، ولم يتضوع منزلنا بالعود والبخور.

كنتُ ساهما، محلقا في فضاء ذاكرتي، وأنا أحتضنُ أختي وأمسِّدُ خصلاتها، وأحدق في الجدران التي ورّقت مشموما وريحان، فقد سمعتُ خالي صباحا، يرجو أمي أن تفي لرياحين والديها اللذين أُلحدا في قبرين متجاورين، وأن تذكر الوردتين اللتين ذبلتا هاهنا، في هذا البيت، وتجعل المشموم الراقد على مثواهما أخضر كقلوبهم الطيبة، ولا تلطخَ هذه الجدران بجنونها، فكان أن قرعَ قلبي، لأنها المرة الأولى التي أعلم أن هذا البيت هو بيت جدي!.

قال لها، إنها كانت أجمل بنات الديرة، وقد فقأت عينيها نخلةٌ غاضبةٌ في ليلةٍ عاصفة، عندما كانتْ تذرعُ الأزقة المظلمة، وقد أهاجت الريحُ البحر الساكن، فلفظ فنارها الصغير صُفرته، ورشقَ الماءُ واجهات البيوت، وأظلتِ القريةَ غيمةٌ مرزمةٌ، أهرقت ما ببطنها فوقَ ترابنا، واحتضرت في سمائنا ببروقٍ ورعود، وتفجرت، فتساقطَ جسدها ضوء صاعقا، وثلجا يابسا فوقَ الأسقف والشرفات، ولم يكن يجرؤ أحدٌ على الشخوص، إلا أمي التي أنشبت نخلةٌ دانيةٌ مخلبها في عينها، عندما كانت تسيرُ بمحاذاةِ داليةٍ يرتعُ فيها النَّخلُ وشجر اللوز، فسحَّتْ ماءها فوق خديها وأصحرت منذ ذلك الحين.

ما أن سمعتُ ذلكَ، حتى دثرتُ أذن أختي بأصابعي وأدفأتها، لأحجب سمعها عن تلكَ الكلماتِ التي ستحيلُ طفولتها الورديةَ لهشيمٍ من حسرتنا ويتمنا الغامض، وقمتُ أضربُ رمل ذاكرتي،

لأنبش وجهَ أمي الجميل، ولكنني لا أعرفه إلا بعينٍ غريقةٍ وعينٍ عسليةٍ نجلاء. لم أعرف وجهها قبلَ ذلك، وعلى رغمَ أن شعرها يسترُ يباس عينها، إلا أنني بقيت أتخيلهُ مستوسقا من غير رثاءٍ أو مواويلَ تذرفها أينما راحت.

* * *

بلا دثارٍ ولا حلمٍ طليقٍ، قضيت الهزيع الأخير، وها هو الصَّباحُ ينزعُ عن الأفقِ لجَّتهُ الكئيبة، ويفردُ جناحه الكونيّ مع أجنحة العصافير التي أجرست نافذتنا الصغيرة، أما أمي فظلّ صوتُها متقطعا، مبحوحا، تحملهُ النَّسمات الشاردة.

هزّ بابنا طرقٌ خفيف، فقمت على إثرهِ مسرعا، وسمعت خالي من وراء الباب يأمرني بفتحه بعد أن عرّف نفسه.

أشرعت البابَ، فإذا بخالي وفي يده كيسٌ صغير، عرفتُ أن فيهِ أسورة وحلية بفضل الصوتِ الذي تناهى إلى أذني. وضعَ خالي قدمهُ في فناء البيتِ من غيرِ أن ينظر في عينيّ الجاحظتين، وهو يعبرُ غاضبا لغرفة أمي.

قال خالي وقد دمعت عيناه:

أمامكِ الذَّهب والأسورةُ الرَّنانة، خذي ما شئتِ منها، وأرجعي لي قليلا من ماء وجهي الذي سُفحَ منذ زمنٍ على ألسنِ الناسِ وفي أعينهم، لم أعُد أملكُ شيئا سوى ذهب زوجتي، ومعضدينِ أرغمني الشيخ حسن على أخذهما، وقد وضعتُها بين يديكِ، بعد أن دفنتُ ذكريات زوجتي ومشاعرها، وضحيتُ لأجل كرامةٍ طعنتها سنيُّ التيهِ التي عشتِها أنت في الطرقات، ولولا الدم الذي في عروقي، لتبرأت منك براءة الذئب من دم يوسف، ولكنّ وصية مكنونة من أمنا الراحلة، ظلتْ تتردد في داخلي، وتتمثل أمامي وهي تحتضرُ، وقد طوقت كفي، واعتصرت الكلمات في حلقها:

- أختكَ نخلةٌ بلا ظلال، أنت حزامُ ظهرها يا بني.

والبارحةُ أتى غائبكِ الذي ترتجين...، فصعقت أمي، وكأن قلبها توقَّف عن الخفق، وفغر فاهها، فقاطعته وصرخت مسرورة:

- هل حقّا أتى الغائب ؟

فانقضَّت على المعاضدِ والحلي، وقامت تلمها بيدٍ وتمسحُ دموعها بأخرى، ثمّ قالت:

- لا بدّ أنه سيسرّ إذا رآني.

قال خالي موجها لومه الشديد:

الغائب الذي ترتجينَ أتى ومعهُ امرأةٌ أخرى، لقد جزّكِ من قلبه، وداسَ على الوردتين اللتينِ أثمرهما عشقكما الأعمى، أما أنتِ فقد دفنتِ عيونكِ النجلاءَ في رمل الداليةِ تلك، وأحرقتِ غصنكِ الرطيب في الشوارعِ من أجله؟!.

ثمّ استذكرَ قصة أبي الغريبة:

قال لنا إنه سيسافر، وتركَ وراءهُ طفلينِ كنجمتين حائرتين، ثمّ قيلَ لنا بعد أنْ طالَ بعاده؛ إنه أخذ لسجنٍ ناءٍ في قلعةٍ صخريةٍ ذات أسوارٍ سامقة، مأخوذا بجريرةٍ لا أحد يعلم كنهها، ولم نستطع أن ندركَ له سبيلا. وإذ لم نجدْ لهذه الأحجيةِ تفسيرا، جاءنا خبرٌ آخرٌ كسابقهِ بعد أن لاكتهُ الألسنةُ ومضغهُ القريب والبعيد، فقيلَ إنه سافرَ لبلادٍ بعيدةٍ، بعد أن تاهَ مركبهم في خضمِّ بحرٍ أثارهُ جنونُ عاصفةٍ هوجاء، فصاروا يتنكبون على قمةِ موجةٍ جبليةٍ شاهقة، حتى ظنوا أنهم ألصقوا بالسماء، ثمّ قذفتهم فراسخُ من وجهتهم، على شواطئ بلادٍ قاصية، بعد أن عضوا بأناملهم ونواجذهم على الحطام حتى أدركوا الساحل. ولكنه عادَ الآن، وأتاني البارحة قائلا إنه سيطلقكِ والشيخ حسن شاهدٌ على ذلك، فقد أتاه قبلا، وطلب منه أن يجري الطلاق، ولم تفلح جهود الشيخ في إقناعه بالعدول عن بغيته، فذكَّره بمحبتك البالغة وعياله الصغار، إلا أنه أصرّ وقال للشيخ: إذا لم تقم بذلك، فإنني سأذهب إلى شيخٍ آخر.

صرخَ خالي وهو يضربُ بقبضته الجدار:

- أيتها المجنونة، لقد لفظكِ مثلما تُلفظُ نواة التمر بعد تلمظها.

أجابته أمي، غاضبة:

- أنتَ كذاب، الغائب لن يخون العيش والملح، وعشرة العمر.

زمّ خالي شفتيه، وتميز غيظا، ثم صكّ جفنيه، ليلجم طوفانا من الحسراتِ والأسئلةِ في قلبهِ، وخرج لا يلوي على شيء. أما أنا فذهبت لغرفتنا، وظللت أمسح على رأس أختي، وقد سفحت عيناي دمعا جارفا، بينما كانت أمي تبكي، وتغني، وترقص.

أيقنتُ أنها ستتوجه الليلة للبيت الذي كانت تمر على رسمهِ وطلوله، ورغمَ الحزنِ الذي أيبسَ هذا القلب الصغير، فقد أورقَت فيه أمنيةٌ خضراء، شوقا لرؤيةِ أبٍ لا أتذكره، ولم أعرفه إلا عبر صورةٍ يتيمة، مزقتها الدموع، وحلمت أن يصبح لي أبٌ كأطفال القرية، يأخذني للبحر والنخيل، ويذود عني، ويردمَ الأسئلةَ وهمز العيونِ للأبد!.

* * *

زحفَ الظلامُ على قلبي قبلَ أن يظلّ قريتنا، ورأيت أمي تلبس أجمل فساتينها، وتبخر المنزل، وتغني مواويل غير تلك التي كنت أسمعها، مواويل تمجد العودةَ واللقاء، بعد هجرٍ قاسٍ، أرَّق عينيها، وأجج نار شوقها.

خرجت أمي من غرفتها وقد تضوّع المنزل عودا، وفاحَ من شعرها الضافر، أريجُ الرازگي والمشموم، وأشارت لي أن لا أتكلم، فعرفت أن الأرواح الطيبة معها الآن، وسمعتها تقول:

- الليلة...الليلة، خذوني لمن أضنى القلب فراقه، سيرجع لعيني النور، وسينضح ماءها الغائر، بعد أن أكحلها بطلته.

ثمّ أخذتنا لغرفتنا، أوسدتنا، هدهدتنا، ودثرتنا، غير أنني تظاهرتُ بالنوم، لأرى أبي البعيد، وأرى عين أمي الضائعة. أمسكت باللحاف الصوفي وجعلته محاذاة عيني، وفتحت جفني قليلا، فرأيت أمي تغلقُ باب غرفتنا، فنهضتُ وبقيت أرقبُ الليل من نافذة غرفتنا، فلاحت السماء وقد افترشها الغيم، وكانت سحابةٌ كأنها ماردٌ غاضبٌ تبعثرُ دخانها في الفضاء، وتقذفُ ضوءها المرعبَ في الأزقة الخالية. وبعد أن مرت أمي صوبَ النافذة حاملة فنارها الصغير، عرفتُ أنّها في طريقها لأبي، كما وعدتها الأرواح الطيبة، فدثرتُ أختي وقبلت جبينها ومضيت. أشعلتُ فنارا كنا نحتفظ به في روزنة(11) الغرفة، وقمتُ أسيرُ خلف أمي خلسة، فأسمعها تغني، وتنشد مواويل العتاب، وتلوم هجر الأقربين وعذلهم، ثم تتجه للبرية المظلمة، التي يسيج خاصرتها البحر، وتسور خاصرتها الأخرى دوالٍ كثيفة يطلُّ من أسوارها الخوصية نخلٌ باسقٌ وشجرٌ ميّاد. واضطررت لأن أطفئَ ضوء فناري، فنفخت في بطنه حتى أخمدته، وظلت علامتي التي أتبعها هي نور الفنار الطالع من يد أمي، وكانت الريحُ تسوطُ الماية وتقودها، ليصبح مدَُّ البحر في أوجه.

بقيتُ أسير خلفها متسترا بالظلام، فهطلَ مطرٌ خفيفُ، أعقبته ريحٌ باردةٌ، بدأت تزأر في الأنحاء، فقمتُ أرتجف وأمي تشق دربها للناحية الأخرى من القرية، ثمّ إذا وصلنا للجهة التي فيها البيوت، أبرقت السماء، وشاهدتُّ الغيمة المتوحشة، تمطُّ أذرعها، ثمّ تتقيأ فوق أرؤسنا ماءها الغزير، ولم يمنع ذلك أمي من المضي، وقد فاض جسدي بالماء، وارتجفتُ، واصطكت أسناني ببعضها، ولمحتُ دفّتها مبللة، ملتصقة بجسدها، وفي يدها الفنارُ تجهد لبقائه مشتعلا، حتى وصلت عند أحد البيوت ووقفت مقابل بابه، فما كان مني إلا أن اختبأتُ خلف أحد الجدران، وصرتُ أنتظرُ طلة أبي البعيد.

طرقت أمي باب البيت أكثر من مرة، وهي تديرُ رأسها يمينا وشمالا، فخفق قلبي، ونبتَ عودُ مشمومٍ في خاطري، ممنيا النفسَ بأبٍ عطوفٍ ومنزلٍ عامر. وبينما أنا أحلم، إذ فتح الباب، وخرجَ رجلٌ طويل القامة، حاملا فنارا كبيرا، فلاح وجهه المسفوعُ بالسمرة، ومنكبيه العريضين، وكان أن بادرته أمي:

- أهلا بالغايب، ألا تتذكرني؟

ظل صامتا، فأردفت أمي:

- أيهون عليك أن تتركنا كل هذه السنين لوحدنا؟

بلعتُ ريقي، وكنت أودّ أن أخرج وأركضَ ليتلقفني بذراعيه، ويصهرني بصدرهِ، وأصرخَ في الديرة كلها، أنني أملكُ أبا مثل أصدقائي، ولكنّ عود المشموم ذبلَ واهترأ، عندما تأفف أبي، وصرخ في وجهها:

- لا تأتين إلى هنا مرة أخرى، أنتِ طالقٌ ألا تفهمين؟

ثمّ رتجَ الباب بعنفٍ، فأصدرَ ارتطامهُ صوتا مدويّا، وظلت أمي تطرقُ الباب حتى هدها التعب، وبلل جسدها الماء، فجثت على ركبتيها، وصرخت:

- أيها الخائن الظلوم، بعتني وقد بعت لك عيني، وأحرقت من أجلك قلبي.

ثم وقفتْ، وأحنت رأسها وهي تسلكُ الأزقة الملتوية، وكانت تتأوه وتنتحبُ، ويغيب صوتها في هدير العاصفة، وظل فنارها ينوسُ بين يديها، علامة لي، لأنني لم أستطع إشعال الفنار الذي أحمله، فتبعتها حتى أتينا البرية، وبانت حمرةُ السماء، وسمعت البحر يصرخ غاضبا، وقد قذف اللنجَ والهواري الراقدَة عن ظهره، ورشق البيوت التي تنتصبُ بخوفٍ قبالته، أما الدوالي فقد أرقصتها الريح والمطر، حتى ضجَّت البرية بأصواتٍ متداخلةٍ تبعث على الخوف.

وفجأة توقفت أمي، وقذفت فنارها، فحملته الريح مسافة حتى سقط، وساح زيته على التراب وانطفأ، وكانت تصرخُ بأعلى صوتها، وكأنها ستحترق من وجعها الدفين، فركضت نحو البحر، لتصارعَ موجهُ وتخمد وجيبها، فناديتها وقمت أركض خلفها وأصيح، وكانت العاصفة تدفع جسدي الهزيلَ، ورذاذ الموجِ يرغمني أن أغلق عيني، فسقطت في الأوحال، وساخت قدماي في طين البرية اللازب، فنزعتها بقوةٍ، وصرتُ أغسلها بالمطر الهطول، ثمّ قذفت نعلي وقمتُ أركضُ حافيا للشاطئ، وقد قهرني الموجُ على أن أقاربَ ألسنته الشرسة، فناديت أمي ورجوتها أن تجيب، ولكنني لم أسمع صوتها، ولا نحيبها، ولا حتى وقع أقدامها وهي تخبط رمولَ السِّيفِ، فخشيتُ أن يدفن أمي هذا الموج المتوحش، وخيل لي أن البحر يناديني:

- عينُ أمكَ في دمي، امتطِ هذه اللجة، واعبرني يا فتى البحار.

وإذ أسرعتُ الخطوَ ضائعا على قارعة البحر، قذفَ أماميَ الماءُ عباءة مبللة، وقلادةَ مشمومٍ ذابلة. فجثوت واحتضنتهما، ونظرتُ للبحر، وناديتُ أمي بكل قوةٍ، حتى نزّ الدم من فمي، وبقيت أبكي، وظلّ يغسلني المطر، وأنا أضمُّ عباءتها التي مازالَ يعبق فيها العود والمواويلُ الخصبة.

الهوامش:

(1) الگنَ: كلمةُ باللهجة المحلية تطلق على النوارس.

(2) الماية: لفظٌ باللهجة المحلية يطلق على ماء البحر، وخصوصا للتعبير عن حالة المد والجزر.

(3) ثبرت: لفظٌ باللهجة المحلية يطلق على البحر في حالة الجزر.

(4) الهنام: مقدمة الجالبوت.

(5) الدريشة: لفظٌ باللهجة المحلية يطلق على النافذة.

(6) الديرة: لفظٌ باللهجة المحلية يطلق على القرية للتخصيص.

(7) الكنار: ثمرٌ أخضر مصفر، ذو أحجامٍ متعددة، اشتهرت به البحرين، له طعمٌ لذيذ.

(8) المشمَر: عباءةٌ من قماشٍ خفيف، تلبسها النساء في المنازل أو تحت العباءة.

(9) المبيت: وهو صندوقٌ خشبيٌ أسود، مطعمٌ بمسامير محدبةٍ لامعة، وكان من عادة أهل البحرين، أن يملأ العريس هذا الصندوق بالثياب والفساتين، ليلة زفافه، ويهديها لعروسه.

(10) التراكي: الأقراط.

(11) روزنة: حفرٌ في الجدار، يكون عادة في المكان الذي تقع فيه النافذة، ويضع البحرينيون، حاجياتهم عليه، لاستواء سطحه.

العدد 2228 - السبت 11 أكتوبر 2008م الموافق 10 شوال 1429هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً