العدد 2257 - الأحد 09 نوفمبر 2008م الموافق 10 ذي القعدة 1429هـ

ما الأشياء الأخرى التي تحرّكك وتثير مشاعرك بعمق؟

البراءة. حالا أستسلم لأي شخص بريء وأحاكم نفسي بصرامة. الأطفال، الحيوانات، الطريقة التي بها تنظر إليك بعض الكلاب. يزعجني الاحتشام المفرط الذي أراه أحيانا في رغبات أناس متواضعين.

الجمال يحركـّني أيضا: نظرات عجلى من نساء جميلات على نحو فاتن واللواتي يملأن الجو من حولهن بضوء خاص/ مناظر مثيرة للمشاعر/ تعبير إبداعي: الكاتب أو الرسام الذي ينجح -على الورق أو على الكانفاس- في أسر الإحساس بحالات العالم، الرؤيا التي سوف تدوم إلى الأبد، تحرّك مشاعري في انفعال عميق.

من ناحية أخرى، الطبيعة تجعلني محايدا، لا مباليا، وفاتر الهمّة. أعرف أن ذلك شاذ ومرَضي، لكنني لا أستطيع أن أعلل هذا العيب والنقيصة فيّ. أنا في الحقيقة لا أرى الطبيعة ولا أختبرها إلا كذكريات: الغابة التي كنت أراها في طفولتي، البحر، الغسق. لكن الريف الجميل اليوم، الغروب، الجلال البدائي للجبال، صمت الثلج المتساقط... كل هذه الأشياء لا تحركّني إلا إذا استطعت أن أعيد إنتاجها في الأستوديو، حين أصهرها معا بالحرير والجيلاتين.

ما الأشياء التي تثير فيك الإحساس بالخجل؟

الحماقات التي أتفوّه بها أثناء المقابلات الصحفية، الأحاديث الحميمة، الثرثرة العقيمة عندما لا يُطلب مني أن أتكلم، الصمت الذي استغرق فيه حين يتعيّن علي أن أتكلم. أخجل عندما أكون مبهما، متكيّفا، طائشا.

أحيانا أخجل قليلا عندما لا أكون واثقا من أي شيء. كل شخص يدّعي، بطريقة ملطـّفة وبريئة، أنه غير واثق، يجعلني أشعر بشيء من القلق والارتباك والالتباس والتنافر.

أنا أشبه بسائح فضولي لكنه ضجر، أشبه بعابر سبيل. شخص يوجد هناك ولا يوجد.

من يستطيع أن يكون غاضبا على نحو انفعالي ومتقد، الذي يراوغ وينقلب، الذي يحلف باقتناع، الذي يكره ويحب بتهوّر... أنظر إليه بمزيج من الانشداه والإعجاب.

لا أذكر أين قرأت بأن النموذج السيكولوجي المحدد كفنان يتذبذب باستمرار بين شعورين بداخله: شعور مشع بالقوة والأهمية، بالرضا شبه السماوي. والشعور بالوهن والإحباط، الذنب، اللوم، العقاب.

هذان الشكلان المتباينان من الشعور هما وجهان متعارضان من حياة الفنان... يختبرهما بوعي تقريبا. أحيانا يراها كلعنة، وأحيانا كحالة وجود مُرضية وسارة على نحو استثنائي.

الكنيسة الكاثوليكية، بمعرفتها العميقة للنفس البشرية، قد تعاملت -على نحو ممكن تبريره- مع الفنانين باعتبارهم أطفالا: هي من جهة تحفـّز إبداعاتهم بالهدايا والجوائز، لكي يكرّسوا مواهبهم لتمجيد قدّيسيها وشهدائها وأساطيرها، لكن في الوقت نفسه تعزّز الإحساس بالإثم الذي يجب على الفنان أن يشعره تجاه العمل الذي لا يقدم فائدة مباشرة، وتجاه الحياة التي تـُعاش خارج القوانين... حياة مغزوّة من قِبل قوى شريرة خفية تقوده إلى ارتكاب الخطيئة ضد النظام والأعراف التقليدية والوصايا الشرعية.

تحدثت عن الهدايا والجوائز التي تقدمها الكنيسة إلى الفنانين... أين مكان المال في حياتك؟

لدي فكرة غامضة وغائمة عن القيمة الحقيقية للمال، وعلاقته بقيمة الأشياء. أشعر بلا مبالاة وعدم اكتراث بالأرقام الكبيرة (بالتالي فإني أنفق المال بحماقة وبلا حذر). من جهة أخرى، ردود فعلي تجاه المبالغ الصغيرة من المال تبدو سخيفة ولا معقولة، إذ أني أدفع هذه النقود بعد تردد وممانعة كتلك التي يشعرها من يتعرّض للسرقة.

أظن أن نظرتي غير الواقعية للمال لها مشاعر متجذرة عميقا في أجزاء من فترة شبابي المبكـّرة عندما وصلت بشق النفس إلى روما أثناء الحرب، مقتصدا في الإنفاق حتى لا أتخطى حدود دخلي. الحياة آنذاك تجربة درامية. في ذلك الوضع كانت قيمة المال مضخّمة جدا: ألف ليرة تعني سلاما وهدوءا، تعني جائزة نوبل.

في الأيام المبكرة تلك كابدت مرحلة بوهيمية حيث التشرد والصعلكة، لكنها كانت فترة قصيرة جدا استثمرتها في قصص لاحقة مضفيا عليها لمسات رومانسية. وجبات العشاء كانت تتألف من قهوة وقشدة، والفنادق شهدت هروبي بعد إخراج الحقيبة من النافذة.

أنا أكسب المال على نحو سريع وبسهولة نسبية. لست غنيا ولا أعرف كيف أخطط لكي أصبح ثريا، لأن ذلك لا يثير اهتمامي. وليس لدي ميول تملكـيّة: أمر مزعج بالنسبة لي أن أمتلك أشياء. لا أحب اقتناء وحيازة أي شيء. سريعا أتخلـّص من الأقلام، ساعات اليد... حتى خزانة الثياب المليئة تجعلني أرغب في رميها كلها خارجا.

أنا لا أعبث، لا آخذ إجازات، ولا أفهم شيئا عن القوارب. أما السيارات، فقد سبق أن قلت لك بأنها لم تعد تروق لي. لا رغبة لي في التملك، التجميع، الادخار، التخزين. لحسن الحظ، ضمن حدود متواضعة، مثل أغلب النساء، زوجتي جولييتا تحب أن تقتني الأشياء التي تكفل أسلوب حياة سخية إلى حد ما، مع أنها أكثر حذرا مني بعض الشيء.

أحيانا نمرّ بفترات صعبة وقارصة، فجأة أحط من قدر نفسي بحرمان عبثي. لمدة شهر كامل، على سبيل المثال، أستقل الحافلة بعد أن كنت استقل عشرين سيارة أجرة في اليوم. لا أعرف كيف يستولي علي هذا التوق إلى الحافلات وعربات الترام: رغبة في العودة إلى زمن مضى كنت فيه شابا، أو ضرب من الأمنية اللاواعية للاحتكاك بالناس... ربما هي حاجة لإعادة اختراع مرحلة بإعادة فعل الأشياء التي فعلتها في 1937... واقف عند محطة الترام مع ربة منزل تحمل كيس الخضار: لا بد أنه نوع من التفاعل تجاه شيخوخة تتحرك دونما شفقة إلى الأمام.

لنقم بانعطاف وجيز قبل العودة إلى الأفلام... حين لا تعمل في فيلم، كيف تقضي يومك؟ هل تستيقظ باكرا؟

نعم، ودون حاجة لأن يوقظني أحد. لدي ساعة ذهنية أستطيع بها أن أضبط الوقت سلفا. إني أصحو فجأة وحالا... مثل إضاءة مصباح. من عادتي أن أنام قليلا، حتى عندما كنت صغيرا. حين أصحو أحاول أن أتذكر شظايا الحلم الذي نسيت أن أدوّنه في الليل، إذ وقتذاك -في الليل- أكون كسولا، نصف نائم، وواثقا من أنني سوف أتذكر الحلم في الصباح... لكن هذا لا يحدث.

بعد ذلك أتجول في أنحاء البيت الصامت الخالي، فاتحا الأبواب، مضيئا الأنوار، أجلس على كرسي أو أريكة أو خلف طاولة مثل هرّ يريد أن يجرّب كل موضع.

أدندن، أتثاءب، أفتح وأغلق عددا كبيرا من الأدراج مكتشفا الكثير من الأشياء التي تخص البيت والتي كنت أجهل وجودها أو نسيتها. أخيرا أفتح النوافذ، وهو الشيء النافع الوحيد الذي استطيع أن أفعله في البيت، إذ أني أفتقر تماما إلى البراعة اليدوية. أجهل كليا إشعال الغاز. حتى جهاز التلفزيون، ويخجلني قول هذا، يصبح تشغيله مغامرة أجهل نتائجها.

في الحمّام، وأمام المرآة، أتحرك إلى الأمام وإلى الخلف ثلاث أو أربع مرات مراقبا نفسي بطرف عيني، ثم أقرر النظر إلى نفسي ممتحنا التغيّرات والتحولات: أضرار جديدة؟ تخريب وانهيارات؟ وتلك الهيئة... من يثق بشخص له هذا الوجه؟!

هل تجيد طهي البيض؟

لا، لا صبر لي ولا أحتمل ذلك، مع أن عملي كمخرج يقتضي أن أتحلى بصبر قديس. بوسعي أن أنفق ساعات طويلة، أحيانا فترة ما بعد الظهيرة كلها، في إعداد وتنسيق الإضاءة الملائمة. لكنني لا أستطيع أن احتمل الانتظار دقائق معدودة لتسخين كوب من القهوة.

ثمة تناقض آخر: أعرف أن لدي قدرات يدوية معينة... أصمّم، ألهو بالصلصال،أصنع نماذج، وفي الموقع أشغل نفسي بكل شيء من تعديل اللوحات إلى تنسيق الباروكات ومرورا بنقل قطع الأثاث... باختصار، أعرف كيف استخدم يديّ جيدا. أما في مطبخ بيتي فكل فعل أمارسه يفضي إلى كارثة، عندها أتحوّل إلى شخصية خارجة من مشهد هزلي في فيلم قديم: أطباق تنكسر، انزلاقات، تعثـّرات، جروح، حروق.

ذات مرّة في فريجيني اضطررت أن أطبخ لحوالي خمسين قطة جائعة كانت تموء على نحو مهدّد في حديقة بيتنا. كان الوقت شتاء، والفيلا التي نسكنها كانت الوحيدة المفتوحة وقتذاك. أعددت لها مينيسترون هائل (حساء كثيف من خضر ومعكرونة إلخ)، مفرغا محتويات الثلاجة كلها، حتى إنني أضفت سوائل وتونيك وما شابه... وأعتقد أن الوجبة كانت شهية ونالت استحسان القطط.

صار شائعا الآن الحديث عن الاهتمام بالبدن... ماذا عنك؟

على نحو غريزي أميل إلى الاعتناء ببدني وأن أحافظ على صحته من أجل أن أعمل دون انقطاع. المرض عقبة غير متوقعة ومخيفة، مثل إشعار الضرائب، أو إلغاء موعد إقلاع الطائرة، أو الالتقاء بصديق قديم من أيام الدراسة لا تتذكّره على الإطلاق لكنه يتذكرك جيدا.

عند المائدة أنا مقتصد، معتدل، لا أسرف في الأكل، لكنني لم أهتم بتنمية الجسم وبنائه، وأنا نادم على ذلك لأنني أحب أن أكون قويا وأتحدى القوي الذي يهدّد الضعيف، مثلما يفعل البطل في الرسوم الهزلية.

عوضا عن ذلك، منذ الطفولة كنت أعطي الآخرين انطباعا بأني مصاب بمرض غير خطير -ربما هو إرث كاثوليكي آخر- لكي أبدو في صورة الضحية، المضطهد، ولكي أتذمر من الظلم الذي يعانيه المرء.

هل ترتاد صالونات التجميل؟

هل أنت تفعل ذلك؟... عندما أرى آثار الصلع، وبقع اليرقان على الجلد، والتجاعيد، والأورام، فإني أفكّر في الاتصال يوما بصديق عزيز يقيم في ميلانو كان قد أخبرني عن عيادة في موسكو تدخلها في السبعين من العمر ولا تخرج منها إلا وقد كبرت عاما، ذلك لأن العلاج يستغرق عاما واحدا. لكنك تغادر المصح وأنت تتمتع بصحة جيدة وتبدو في التاسعة والستين من العمر. هذا ما أخبرني به ذاك الصديق الذي يصغرني في السن لكن الشيب يملأ شعره، ولم يعد يتذكر بدقة مكان وجود هذه العيادة.

هل يمكنك أن تخبرنا بدقة عما تحبه وما لا تحبه؟

إحدى المجلات، وأظن أنها «ليسبريسو»، وجهت إليّ قبل مدّة سؤالا مماثلا، وقدمت لهم قائمة بما أحب وما لا أحب، وهي تقريبا مشابهة لما سأقدمه لك هنا...

لا أحب:

الحفلات، المهرجانات،المقابلات، الموائد المستديرة، طلبات التوقيع على الأوتوغراف، السفر، الوقوف في الطابور، الجبال، المراكب، جهاز الراديو وهو دائر، الموسيقى في المطاعم، الموسيقى عموما (عندما يتعين عليّ أن أتحمّلها)، النكت، المشجعين في مباريات كرة القدم، الباليه، ملجأ الأيتام، الجبن الأزرق الإيطالي، الجوائز، المحار، الاستماع إلى الآخرين وهم يتحدثون عن بريخت مرارا وتكرارا، وجبات العشاء الرسمية، الخبز المحمّص، الخطب، تلقي الدعوات، عندما يطلبون مني تقديم النصائح، همفري بوجارت، الألغاز، رينيه ماجريت، دعوات حضور العروض الفنية، البروفات المسرحية، آلات الكاتبة الفونوغرافية، الشاي، البابونج، الكافيار، العرض المسبق لأي شيء، الدعوة للمثول أمام القضاء، الأفلام المعدّة للشباب، الأسئلة، بيرانديللو، الكعكة المحلاة، الأرياف الجميلة، الاشتراكات السنوية في المجلات، الأفلام السياسية، الأفلام السيكولوجية، الأفلام التاريخية، الالتزام والإعفاء من الالتزام، صلصة الطماطم.

أحب:

الفصول، ماتيس، المطارات، الرز، أشجار السنديان، روسيني، الزهور، الإخوة ماركس، النمور، أن أحدّد المواعيد وبينما أنتظر أتمنى أن يتغيّب الشخص عن الحضور (حتى لو كانت امرأة جميلة)، توتو (الممثل)، أن لا أكون موجودا هناك، بيرو ديلا فرانشسكا، كل ما هو جميل في المرأة الجميلة، هوميروس، جوان بلوندل (ممثلة)، شهر سبتمبر، الحلوى البيضاء المعجونة بالفستق، الكرز، المؤخرات الجميلة على الدراجات الهوائية، القطارات، الوجبات الخفيفة في القطارات، أريوسطو (الشاعر والمسرحي)، الكلاب الصغيرة ذات الشعر الحريري، الكلاب عموما، رائحة الأرض الرطبة، رائحة القش، أشجار السرو، البحر في الشتاء، الأشخاص الذين يتحدثون قليلا، جيمس بوند، رقصة الخطوة، الأماكن غير الآهلة، المطاعم المهجورة، الكنائس الخالية، الصمت، أوستيا، رنين الأجراس، أن أجد نفسي وحيدا في أوربينو بعد ظهيرة يوم أحد، الريحان، بولونيا، فينيسيا، كل مناطق إيطاليا، ريموند شاندلر، النسوة العاملات في المباني كبوّابات، جورج سيمنون، تشارلز ديكنز، كافكا، جاك لندن، الكستناء المشوي، مترو الأنفاق، ركوب الحافلة، الأسرّة المرتفعة الكبيرة، فيينا (التي لم أزرها بعد)، الاستيقاظ من النوم، الذهاب إلى النوم، محلات البطاقات البريدية، أقلام رصاص فابر2، حفلة منوعات (فودفيل) قبل عرض الفيلم، الأسرار، الفجر، الليل، الأرواح، ويمبي، لوريل وهاردي، لانا تيرنر، ليدا جلوريا، جريتا جوندا، الممثلة التي تؤدي دور فتاة مستهترة في المسرحيات الهزلية، راقصات الباليه.

ملح الهذيان الذي يحرّر الرؤى

بالعودة إلى أفلامك، وصلنا إلى «إغواء الدكتور أنطونيو»، وهو جزء من فيلم «بوكاشيو 70»، الذي كتبته كهجاء للرقابة التي مورست ضد «الحياة الحلوة»... كما أنه أول أفلامك الملوّنة... لماذا اخترت الألوان؟ ومتى تفضّل الألوان على الأسود والأبيض؟

ليس هناك قانون يفرض عليك استخدام الألوان بدلا من الأسود والأبيض، أو العكس. في الفيلم الرديء، الألوان تكون مفضلة دائما، خصوصا حين ترى كم هو عليل وسخيف الاستخدام الواقعي للألوان وإلى أي مدى يمكن أن يخنق ملكة الخيال. كلما اقتربت من محاكاة الواقع، انحدرت نحو التزييف. في حالة كهذه يقدّم الأسود والأبيض فرصة عظيمة للخيال.

متى تختار الألوان؟

عندما يحتاجها فيلمك، عندما تأتي صورك الأولى بالألوان، عندما تصبح الألوان مادة تعبيرية تماما، تصبح القصة والبناء والجو العام للفيلم... تصبح الوسيلة التي بها تترجم وتسرد كل ذلك: كما في الحلم حيث اللون مفهوم وشعور، كما في الرسم.

كم هو أحمق وأبله السؤال الذي يطرحه الكثيرون: «هل تحلم بالأسود والأبيض أم بالألوان؟»... إنه أشبه بالتساؤل عما إذا كانت هناك أصوات في الغناء، في حين يعلم الجميع بأن الصوت وسيلة للتعبير عن الأغنية. عندما تحلم قد ترى مرجا أحمر، حصانا أخضر، سماء صفراء. هذه ليست أشياء سخيفة، إنها صور جوهرية بالنسبة للإحساس الذي يخلقها.

المشكلة، إن كانت هناك مشكلة، تكمن في تقنية ترجمة الألوان. في الصور السينمائية ليس ممكنا تحديد الألوان بنفس الدقة في كل الفوارق غير المدركة في النسق اللوني، مثلما يستطيع المرء، على سبيل المثال، في صور زيتية تمتاز بإضاءة مركـّزة، ثابتة، غير متغيّرة. العدوى، حرفيا، تفسد ألوان المشهد. التبادل الرشيق والمرن يساعد على التحطيم المستمر للتخوم.

أظن مع ذلك، علاوة على الإحساس بالعجز الذي غالبا ما يستحوذ عليك حين تلقى تلك العدوى غير المتوقعة، ويجعلك تنتحب لأجل الأسود والأبيض الجميل الأثير، فإن الألوان تثري الفيلم ببُعد جديد، بُعد يتصل برمزية الحلم، الخاصية المترابطة بعمق مع الفيلم.

والإضاءة؟ ماذا عن الإضاءة؟

الإضاءة هي الجوهر الحقيقي للفيلم. في الفيلم -و قد سبق أن قلت هذا- الإضاءة هي أيديولوجيا، شعور، لون، نغمة، عمق، جو، سرد قصة. الإضاءة هي كل ما يضيف، يحذف، يختزل، يكثـّف، يثري، يخلق فوارق دقيقة، يؤكد، يلمّح.

الإضاءة تجعل المتخيّل أو الحلم قابلا للتصديق ومقبولا. من جانب آخر، تجعل الواقع خياليا ووهميا، تحوّل الرتابة اليومية إلى سراب. إنها تضيف شفافية، تقترح توترات وذبذبات.

الإضاءة تحفر الوجه وتكتشفه أو تصقله. تخلق تعبيرا حيث لا يوجد أي تعبير. تهب البلادة مع الذكاء، والشيء التافه وغير المشوّق تجعله يبدو مغويا.

الإضاءة ترسم محيط الجسد وتحدّد أناقته. تبجّل الريف الذي ربما لا يكون ذا قيمة بذاته. وتضفي سحرا على الخلفية.

الإضاءة هي المؤثر الخاص البارز، ضرب من الماكياج، البراعة في الخداع، الافتتان، مختبر الكيميائي، آلية العجائب.

الإضاءة هي ملح الهذيان الذي، مشتعلا، يحرّر الرؤى.

كل من يحيا في الفيلم يحيا بواسطة الإضاءة. كل تصميم أوّلي للمناظر، أو تصميم فج وغير مصقول، يمكن بواسطة الإضاءة أن يكشف عن منظورات غير متوقعة، أو يغمس القصة في جو حاضن ومهدّئ. بمجرد استبدال المصدر الضوئي القوي بالظلال، فإن تغيّر الإضاءة يمكن أن يبدد الإحساس بالألم ويحوّل كل شيء إلى حالة من الصفاء، الحميمية، الطمأنينة.

الأفلام مكتوبة بالإضاءة،+ تعبّر عن أسلوبها بواسطة الإضاءة.

فيلمك «ثمانية ونصف» يعتبر من أفضل أعمالك، وقد حاول الكثيرون محاكاته إلى حد أنه أصبح نوعا سينمائيا مثل الويسترن، الخيال العلمي، التاريخي، البوليسي، الحربي... في مختلف أنحاء العالم كان هناك، وعلى الأرجح سيكون هناك، مخرجون يرغبون في تحقيق فيلم مشابه له يعبّر عن رؤيتهم الخاصة للحياة وللفن معا...

أما من جهتي فلم أكن راغبا في تحقيقه. قبل ليلة من تصويره كنت يائسا ومشوّشا. جلست في مكتبي بالأستوديو وكتبت رسالة إلى ريزولي العجوز، منتج الفيلم، بدأتها على هذا النحو: «عزيزي أنجلينو، أدرك جيدا أن ما سوف أخبرك به الآن قد ينهي، على نحو يتعذّر إصلاحه أو ترميمه، علاقتنا المهنية. وحتى صداقتنا ستكون مهدّدة ومعرّضة لخطر التفكك. كان ينبغي أن أكتب هذه الرسالة قبل ثلاثة أشهر، لكن حتى ليلة أمس، كنت أرجو أن... ... «

مع أن الاتفاق قد تم مع الممثلين الأساسيين، وشيدت الديكورات، حتى أنني من المكتب الذي أجلس فيه وأكتب، تصلني أصوات مطارق النجارين وهم يعملون في تركيب الديكورات، إلا أنني أردت التخلي عنه وتركه يتبدد في الهواء، أن أبتعد عنه... ذلك لأنني لم أعد أتذكر ما كنت أرغب في فعله، في تحقيقه.

الإحساس، الروح، النكهة، الجوهر، الصورة الظلية، الوميض... كل ما أغواني وسحرني كان قد اختفى، تلاشى، ولم أعد أستطيع العثور عليه. خلال الأسابيع الأخيرة حاولت، بتوق شديد، أن أستعيد مجرى نشوء ذلك الفيلم الذي لم أستطع حتى أن أحسم عنوانه. كنت قد اخترت له عنوانا مؤقتا: ثمانية ونصف... إشارة إلى عدد الأفلام التي حققتها. لكن كيف ولدت الفكرة؟ ماذا كان الاتصال الأول، الاحتكاك الأول، الشعور السبقي الأول، بذلك الفيلم؟

رغبة غامضة، مشوّشة، لخلق بورتريه لرجل في يوم معين من حياته، بكل ما يشتمل عليه من وقائع مختلفة، متناقضة، مراوغة... بكل احتمالات وجوده ومستوياتها. ذلك أشبه بمبنى تتقوّض واجهته كاشفة عن الباطن كله: سلالم، أروقة، حجرات، أدوار علوية، أقبية، أثاث، أبواب، أسطح، أنابيب مياه، زوايا حميمية وسريّة.

الحياة مركـّبة من متاهات متعرّجة، متغيّرة، مائعة، تتصل بالذاكرة، بالأحلام، بالمشاعر، بالتعقيد اليومي المرتبط على نحو لا ينفصم بالذكريات والتخيلات والأحاسيس والحوادث التي وقعت منذ زمن طويل والتي تتحد مع تلك التي تحدث الآن. مزيج من النوستالجيا والشعور السبقي في وقت رائق لكنه مختلط، حيث لا يعود بطلنا يعرف هويته أو ماضيه أو إلى أين ستمضي حياته... حياته التي تبدو الآن مجرد نوم يقظ طويل، يخلو من المشاعر.

كنت أتحدث عن هذا، ذات مساء، مع فلايانو فيما كان يقود سيارته نحو البحر في أوستيا. بالتحدث عنه حاولت أن أوضح لنفسي غرض ومغزى الفيلم. فلايانو كان يصغي في هدوء، لم ينطق بكلمة، لم يطرح أي تعليق. كان مفعما بالارتياب، الاستخفاف، الحذر. وتكوّن لدي انطباع بأنه يعتقد أن الثيمة لا تنتمي إلى الفيلم، وأن ما سردته هو عبارة عن تدفق مفرط في الادعاء والغطرسة، ولا يمكن تحقيق أبعاده إلا من خلال الأدب وحده.

توليو بنيللي، الذي إليه حاولت أن أنقل الإحساس بهذا الخيال العابر بعد بضعة أيام، كان أيضا صامتا في حيرة وربما في شك من إمكانية بناء قصة على باعث غريب وصعب جدا ترجمته إلى حالات وأحداث.

أما برونيلو روندي، بحماسته الفائضة المعهودة، فقد عبّر على الفور عن موافقته بالمشاركة. إنه يمثّل الجمهور النفيس: يحب كل شيء، كل مشروع يثيره، وهو مستعد لأن يسلك أي سبيل ويتعاون في كل اتجاه وفي أي شيء.

هكذا بدأنا، نحن الأربعة، في الكتابة على نحو مستقل. قد أقترح ثيمة، صراعا، حالة معينة، ويشرع كلّ من بنيللي وفلايانو وبرونيلو في كتابة نسخته أو ترجمته الخاصة للمشهد.

لكنني لم أقرر بعد أي نوع من الرجال نسعى إلى تصويره، وأية مهنة يمارس: محامي؟ مهندس؟ صحفي؟... يوما قررت أن أضع بطل فيلمي في منتجع صحي، عندئذ بدأ غرض الفيلم يتسع لاحتمالات أكثر صلابة. كتبنا مشهد الحريم. الليل في الحمامات مع الصديق المنوّم المغناطيسي. البطل الآن لديه زوجة وعشيقة. لكن عندئذ بدأت الحبكة في الانحلال. لم يكن هناك لبّ مركزي منه تنمو القصة، لا بداية ولا نهاية، ولا أقدر أن أتخيّل كيف ينتهي العمل. كل صباح كان بنيللي يسألني عن مهنة بطلنا، وأنا لا أعرف بعد، ولا يبدو لي أن ذلك مهم، رغم شعوري بشيء من التوتر إزاء ذلك.

ذات نهار فكرت أن من العبث الاستمرار في السيناريو. شعرت أنه، لكي أنسجم مع الفيلم، يتعيّن عليّ أن أباشر في النظر إلى الشخصيات عن قرب، أن أختار الممثلين وأحدد المواقع وأحسم أمورا كثيرة ثم أمضي باحثا عن فيلمي بين الناس وفي كل مكان... في محلات الملابس، في المسارح. كان عليّ أن أتظاهر بأن الفيلم جاهز ويمكننا الشروع في تصويره خلال شهر.

قررت أن أختار ماستروياني، ساندرا ميلو، وجعلت أنوك إيميه تأتي من باريس. وفي غابة بالقرب من روما بدأنا في تشييد المبنى الضخم، وفي استوديوهات سكاليرا بنينا مزرعة الجدّة وغرف الفندق. آلية الإنتاج الضخمة كُرست للفيلم وتمت المباشرة بالعمل: مواعيد، عقود عمل، خطط إنتاجية، تقديرات وتخمينات، ديون.

لكني، أنا المعتكف في مكتبي، لم استطع بعدُ العثور على فيلمي. لم يعد هناك، كان قد مضى بعيدا، وربما لم يوجد أبدا. وها نعود إلى حكاية الرسالة التي كنت أكتبها إلى ريزولي، النابعة مباشرة من القلب. كنت في منتصف تلك الرسالة عندما سمعت صوت مينيكوشيو المدوّي، رئيس العمال، يناديني من الفناء طالبا حضوري إلى الموقع للحظة لأن غاسبارينو، وهو ميكانيكي آخر، كان يحتفل بعيد ميلاده ويقدّم كؤوسا من الشمبانيا. هكذا ذهبت إلى حيث ينتظرني الجميع، النجارون والميكانيكيون والرسامون، وكل واحد منهم يحمل كأسا في يده. كنا في المطبخ الهائل، قيد الإنشاء، والذي سيكون نسخة طبق الأصل من المطبخ في منزل جدتي الريفي لكن مضخم بفعل الذاكرة. غاسبارينو، بخوذة البناء على رأسه والمطرقة مشدودة بطوق إلى فخذه، فتح الزجاجة وهو يقول: «سيكون فيلما عظيما يا دكتور. في صحتك... عاش فيلمنا ثمانية ونصف».

فرغت الكؤوس وكل شخص صفق في استحسان، أما أنا فقد انتابني إحساس غامر بالخجل، وشعرت أنني أكثر البشر ضآلة... الربان الذي هجر بحارته. لم أعد إلى المكتب حيث الرسالة التي لم تكتمل تنتظرني، وعوضا عن ذلك جلست، شاردا وخاويا، على مقعد صغير في الحديقة وسط الحركة النشطة والدءوبة للعمال والتقنيين والممثلين العاملين في فيلم آخر.

كنت في موضع مغلق لا منفذ له. كنت المخرج الذي يريد أن يحقق فيلما لم يعد يتذكـّره. فجأة، في تلك اللحظة، سطعت أمامي الفكرة، ومضيت مباشرة إلى قلب الفيلم. سوف أروي كل ما حدث لي. سوف أحقق فيلما يسرد قصة مخرج لا يعود يعرف أي فيلم يريد أن يصنع.

لكن هناك أيضا عناصر أخرى تنضم بصفاء جديد، مثل الأحلام ولغة الأحلام... كيف تشكّلت هذه العناصر التي ميّزت الفيلم؟

قراءة عدة مؤلفات لكارل يونج، اكتشاف رؤيته للحياة، كان ذلك بالنسبة لي نوعا من الكشف المبهج، توكيدا استثنائيا وحماسيا غير متوقع لشيء كنت أحدس به إلى حد ما. وأنا مدين بهذا الاكتشاف المبهج، المحفّز، الآسر إلى طبيب نفساني ألماني يدعى برنهارد.

لا أعلم إن كان التفكير اليونجي قد أثـّر في أفلامي منذ «ثمانية ونصف»، أعرف فقط أن قراءة عدة كتب ليونج قد ساعدتني بلا شك، وشجعت اتصالي بمجالات الخيال الأكثر عمقا وتحفيزا. كنت دائما أعتقد أن لدي موطن ضعف رئيسي: هو عدم حيازة أفكار عامة بشأن أي شيء، وانعدام القدرة على تنظيم عواطفي وميولي ورغباتي تجاه نوع genre أو تصنيف. لكن بقراءة يونج شعرت بالتحرر من الإحساس بالذنب ومن مركـّب النقص.

هل تعتقد أن التحليل النفسي، الذي يساعد الإنسان على معرفة ذاته بشكل أفضل، يجعل الفرد أكثر سعادة؟

لا أعرف كيف أجيب على هذا السؤال لأنني لا أعرف كيف أحدد السعادة. أعتقد أن من الضروري تدريس التحليل النفسي كمادة أساسية في المنهج الدراسي. إنه علم مهم وأساسي تتوجب دراسته قبل العلوم الأخرى.

يبدو لي أن من بين مغامرات الحياة العديدة، المغامرة الجديرة أكثر بالتبني والاضطلاع هي تلك الرحلة التي تقحمك في أبعادك الداخلية لكي تستكشف الجزء المجهول من ذاتك. وهل هناك مغامرة أخرى قادرة أن تكون آسرة، مدهشة، وبطولية بنفس الدرجة؟

يبدو لي أنك تتبنى، على نحو صارم، وجهة نظر يونج... هل هذا إنكار لدور فرويد؟

لا أقدر أن أعطيك إجابة علمية أو نقدية بشأن مفكريْن يتبوءان مكانة رفيعة، واللذين ساهما في إحياء مظاهر جوهرية من النفس الإنسانية، وأفكارهما تغلغلت في ثقافتنا. إننا نتلقى ونتقاسم أفكارهما بإفراط.

قراءتي لفرويد أقل، لذا لا أستطيع أن أفصح إلا عن انطباعات حذرة وغير مؤكدة. ربما يكون فرويد أكثر موهبة ككاتب من يونج على المستوى الأدبي، لكن صرامته -التي هي موضع إعجاب- تثير لدي القلق والاضطراب. هو أستاذ يغمرني بكفاءته ومقدرته ويقينه. أما يونج فهو رفيق سفر، أخ أكبر، حكيم، عالم ورائي في آن، وهو يبدو لي أقل اعتدادا بنفسه وباكتشافاته المدهشة. فرويد يريد أن يفسر لنا ما نكونه، يونج يرافقنا إلى بوابة المجهول ويدعنا نرى ونفهم بأنفسنا.

أحب تواضع يونج العلمي في مجابهة لغز الحياة. اهتماماته وأفكاره لا تطرح نفسها كعقيدة أو تعاليم، إنه يقترح فحسب وجهة نظر جديدة، موقفا مختلفا يمكن أن يثري ويطور الهوية الشخصية. أفكاره ترشدنا نحو الاتجاه الأكثر إدراكا وانفتاحا على الحياة، وتوفـّق بيننا وبين الأجزاء النائية، المحيطة، الكابحة، العليلة من ذواتنا. يونج بلا شك هو الأكثر ملاءمة لطبيعتي وحاجاتي، الأكثر دفئا وصداقة، الأكثر تعضيدا بالنسبة لشخص يؤمن بأنه في حاجة إلى أن يجد نفسه في بُعد الخيال الخلاق. فرويد، بنظرياته، يجعلنا نفكر. يونج، من جهة أخرى، يتيح لنا أن نتخيل، أن نحلم، وأن نتحرك إلى الأمام نحو المتاهة المظلمة من وجودنا، لكي نعي ونفهم الحضور اليقظ والصائن لهذا الوجود.

من القليل الذي قرأته، أقدر أن أشير إلى الشيء الذي أثـّر فيّ أكثر من غيره:

الرؤى المختلفة لكل من فرويد ويونج بشأن ظاهرة الرمزية. هذه المسألة أثارت اهتمامي لأنني كمخرج سينمائي أستخدم بالضرورة صورا رمزية في أفلامي. الرمز، من منظور يونج، يعبّر عن الحدس على نحو أفضل من أي أسلوب تعبير آخر. أما فرويد فيرى الرمز كبديل لشيء آخر والذي ينبغي التخلص منه، ومن الأفضل التغاضي عنه بدلا من التعبير عنه. الرمز، إذن، بالنسبة ليونج، وسيلة للتعبير عما لا يمكن التعبير عنه وإن يكن على نحو غامض. أما بالنسبة لفرويد فالرمز هو دائما وسيلة لإخفاء ما هو محظور التعبير عنه.

يونج وفرويد مفكران عظيمان، ولكل منهما طريقته المختلفة في تصوير النفس الإنسانية... وطريقة يونج تأسرني أكثر

العدد 2257 - الأحد 09 نوفمبر 2008م الموافق 10 ذي القعدة 1429هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً