العدد 118 - الأربعاء 01 يناير 2003م الموافق 27 شوال 1423هـ

المشـاغبـون نقصـوا واحـدا

الوسط - غسان الشهابي 

تحديث: 12 مايو 2017

ماذا لو كانت الحياة من دون وجود مشاغبين؟

كم ستكون مملة.

عبدالحميد المحادين عندما التقيته وجها لوجه أول مرة في مدرسة الهداية الخليفية إذ كان حينها قد مضى على وصوله البحرين والتدريس في هذه المدرسة وحدها... وحدها فقط... أكثر من عشرين سنة حين أراد أن يتعرف بنا، فلما وصل دوري قال لي: «هل هشام الشهابي عمك؟» قلت له: «نعم»، فقال: «أذكر أنه مر علي طالبا»، وقبل أن أبدي استغرابي لكيفية تذكره طالبا من مجاميع الطلبة الذين يمرون على أستاذ على رغم تقادم العهد والسنون، قال: «اثنان لا يمكنك نسيانهما... الطالب النابه حاد الذكاء... والطالب المشاغب... أما الاعتياديون فلا يعلقون في الذاكرة».

فكما يعطي النابهون للحياة نجاحاتهم، يمنحها المشاغبون زخرفها وحيويتها وألقها.

وليس صالح العزاز إلا واحدا من المشاغبين الذين ما استراح بالهم حتى مع انتقام المرض منهم.

لا أدري ما الذي يجمع هذا الرجل بي، يتصل بين الفينة والأخرى ليعرض علي أعمالا مساندة للشركة الفنية التي وضعها مع المصور المبدع حمد العبدلي، وتذوب الاتصالات بين أماني اللقاء وأماني وصول صوره التي التقطتها له في رحلة في الصين وهو يتسلم جائزة دولية في فن التصوير، وأخرى يتوسط فتيات الفندق، لا لشيء إلا ليبتسم بينهن.

في الصين، في مؤتمر دولي لفن التصوير كان العزاز الهارب الأكبر من التزام جدول المؤتمر، يغيب بعيدا متسللا بين المطابع والأزقة، مصطحبا معه أقرب الصعاليك إلى جوه الخاص، باحثا عما لا تألفه الأبصار الكسولة، ثم يأتي متقلبا بين الكراسي ليسخر من الجدية المفرطة لبعض الحاضرين، يدمدم بضجر: «كله تصوير وكاميرات وأفلام... لماذا كل هذا العبوس»، وهوس المصورين لكي يسجلوا أسماءهم في ذاكرة التصوير العالمي، تراهم يهيمون في كل واد، يتسلقون، يهبطون، علهم يصلون إلى الصورة التي ستمكنهم من الجائزة... ويأتي المشاغب العزاز بعيون نصف مفتوحة وابتسامة ساخرة أبدا، ليلتقط جائزته الخاصة من بينهم ويمضي وكأن شيئا لم يكن.

علق العزاز في الذاكرة ليصنع من نفسه كرسيا فيها.

استهوته المغامرة حتى أقصاها، فأتبع أسبابها، وكان من الأسباب أن عين نفسه مصور مسيرة السيدات بالسيارات في الرياض في العام 1991، فألقت الشرطة القبض عليه، في مركز الشرطة اقتحمته عين الضابط وهو يقول: «صالح العزاز... وصالح العزاز!! وهذا أنت؟!».

ومن يقدر عليه؟

ضحك منهم وبهم ولهم وفيهم وعليهم حتى رأوا أن إخراجه خير من إبقائه محجوزا.

مرعوب من الاعتيادية والرتابة كان.

يخادع اليأس... ولم يخدع ألم المرض.

ذات مرة حاول أن يصور رجلا مهما يمر بالقرب منه في سباق للخيل في لندن، فمنعه الحراس الشخصيون من ذلك، فلما مر الرجل التقط له صورة من الخلف، سأله من بجواره: «هل جننت؟ تلتقط صورة للرجل من خلفه؟!» فرد وهو يطوي الفيلم في الكاميرا: «لقد عاش هذا الرجل خمسين عاما لا يرى إلا صورة وجهه... ألا يريد أن يرى كيف يبدو قفاه؟!».

أكمل العزاز صورة الرجل المهم، في حين أخفق أن يكمل صورته الشخصية لمشروعات ظلت تحوم في خاطره... كلما اتصل أو سحبتنا حبال المصادفة يوما ما يسألني عن تلك الصور التي التقطتها له في المدينة الصينية «شين زين»، ولا أملك إلا الوعد بأن أبعثها إليه ذات يوم، خجلا كنت من أن أبعثها إليه، فالمقارنة مرة، فأمني النفس بلقاءات طازجة أخرى، أتوقع فيها السؤال ذاته، وأخرج من جيبي بقايا أوراق أدون عليها عنوانه في حركة سمجة مع وعد بإرسالها إليه.

عزيزي صالح...

صباح كله لك

كما تلقي علينا صباحاتك الساخرة فتتغضن لها الوجوه التي لا تقوى على شغبك.

هذه صورك

لعلها تصلك

وأنت في أحسن من تلك الحال التي كنت عليها في هذه الدنيا





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً