العدد 174 - الأربعاء 26 فبراير 2003م الموافق 24 ذي الحجة 1423هـ

ديوان أبي جعفر الخطي في تحقيق جديد

تشترك جزر البحرين والساحل الشرقي للجزيرة العربية بروابط تاريخية طويلة، وأكثر ما يقويها هذا الاشتراك في التراث الأدبي والعلمي الممتد من طرفة بن العبد ومرورا بالمقرب العيوني وصاحب ملحمة «سبيطية البحر» الشيخ أبي البحر الخطي. ومثلما حظي الأول والثاني أخيرا ببعض الاحتفاء الرسمي المحدود فإن شيئا من ذلك أيضا قد بدأ ناحية الأخير الذي ينتظر تراثه جهودا نقدية وتوثيقية كبيرة.

الشيخ أبو البحر جعفر الخطي (ت 1028هـ/1618م) من أهم شعراء شبه الجزيرة العربية في القرن العاشر الهجري/السابع عشر الميلادي الذين أحدثوا تطويرات لافتة في نظم القصيدة والخروج بها من بعض تقاليدها الشعرية المتوارثة.

ولد أبو البحر في العام 980هـ/1572 م في قرية (التوبي) بالقطيف، وغادرها مع جملة أخرى من الشخصيات العلمية تبرما من تدهور الأوضاع العامة إبان العصر التركي متوجها إلى البحرين. في ذلك الوقت كان السياق السياسي للبحرين مشوبا بالاضطرابات الشديدة إذ عاصر الشاعر مرحلة انتقالية بين الحكم البرتغالي وابتداء الحكم الصفوي، إلا أن الوضع العلمي كان في حراك قوي، إذ كانط البحرين تعيش انتعاشا فكريا كبيرا دفع الكثير من العلماء إلى المجيء إليها والإسهام في تنشيط هذا الانتعاش الذي انعكست آثاره على النتاج الأدبي والشعري.

بنزوح أبي البحر إلى البحرين العام 1000هـ/1591م انخرط في النشاط العلمي والأدبي وأقام سلسلة من العلاقات السياسية والأدبية مع رموز المنطقة وعلمائها وعبر عن مراحل هذه العلاقات وتطورها وما اكتنفها من ظروف متبدلة في الكثير من قصائده الشعرية. ونقع على ملامح من علاقاته السياسية في انتدابه ضمن الوفد الذي رافق القائد الإيراني الذي فتح البحرين إلى شيراز سنة 1010هـ/1601م.

محققا الديوان عبد الجليل العريض وأنيسة المنصور يستعرضان مواقع التنقل التي مر عليها أبو البحر من خلال متابعة الإنتاج الشعري ويرصدان أهم الموضوعات الشعرية التي أنشدها فيها خلال هذه الفترة، وعلى رغم ما قد يقال من أغراض سياسية أو مادية ارتبطت بتنقلاته فإن المحققين يثبتان حقيقة أساسية تتعلق بتجهزه العلمي الذي استفادته من رحلته إلى إيران إذ اجتمع بالشيخ بهاء الدين العاملي وحصل منه على إجازة علمية كما جرت بينهما عدد من المساجلات الشعرية. وبفضل تجربة الترحال هذه تميزت لغة الخطي بالشوق إلى الربع والديار، واكتست موضوعاته بوهج الحنين الذي يعده المحققان أهم إنجاز أدبي تحقق في هذه المرحلة الأدبية وأروع ما في خطاب أبي البحر الشعري.

وقد بذل المحققان جهدا واضحا في إنجاز التحقيق العلمي للديوان، مع أن هناك قصورا في الدراسة التاريخية لمرحلة الشاعر ومستوى البحث في الأبعاد الثقافية والاجتماعية المختلفة التي ميزتها، كما أنه كان من المفيد توسيع البحث التوثيقي والتحقيقي للديوان الذي تتواجد نسخة منه في مكتبة المرعشي النجفي في قم للناسخ محمد الديلزي ومؤرخة بتاريخ 1242هـ ويبلغ عدد صفحاتها 153 صفحة، وهي غير النسخة التي جعلها المحققان أصلا لتحقيق الديوان وهي نسخة مكتبة الأسد في دمشق المشتملة على 216 صفحة ومجهول ناسخها. علما بأن هناك تحقيقا حديثا آخر أنجزه عدنان العوامي منذ مدة وقد تأخر في طباعته ونشره، إلا أن الدراسة التحقيقية لشعره وشرحه الدقيق والتتبع العام للملاحظات والقراءات الواردة في شعر أبي البحر إضافة إلى الفهارس العامة المدرجة؛ كل ذلك يمنح عمل المحققين صفة الإيجابية الكبرى.

يؤكد المحققان الطموح الشعري الذي دفع أبا البحر إلى الخروج على ملامح الاتباعية التي ميزت عصره الأدبي الذي يصطلح عليه بعصر الانحطاط وسعيه إلى إحداث تجديد شعري يعيد الإنتاج الإبداعي القديم من خلال تمثال آخر يضفي عليه لونه الخاص وحساسيته المائزة ولاسيما في المعجم الشعري الذي تناول موضوعات المدح والرثاء وشعر الحنين. أما الأبواب التي طرقها الخطي في شعره فأكثرها في المدح والرثاء والغزل والحنين والوصف، كما له أشعار في الهزل والمواعظ والرسائل والاعتذار والعتاب.

من الفصول الجيدة في هذا العمل؛ الفصل الخاص برصد القراءات المقدامة في شعر أبي البحر، إذ عرض المحققان أهم الدراسات التي قرأت شعر الخطي في مختلف المراحل التاريخية، وهي حصيلة بإمكانها أن تمنحنا مادة نقدية تصلح لأن تكون منطلقا لاستيعاب تجربة الخطي الشعرية وامتداداتها المختلفة، فضلا عن الفرصة التي توفرها هذه القراءات لاستيضاح الخلفيات والتأسيسات التي يعتمدها المتلقي/الناقد في قراءته للتجربة وطريقة تعاطيه مع نصوصها الشعرية ومتوازياتها التأويلية والتاريخية. ولا يخيب آمال هذه الفرصة ما أفرغه المحققان من تنديد لبعض المقاربات التي تسلخ النص وتستلب قيمته الذاتية بإيغالها في الانطباعية المغلقة والإسراف في تجيير المصطلحات النقدية من غير وعي لبنية النص وما يفصح عنه. ويبدأ استعراض القراءات بقراءة أبي البحر لشعره إذ يصدر عن وعي وظيفي للإبداع الشعري، ويثبت العرض كذلك تلقي قراء الخطي الأوائل بمن فيهم راويته (الغنوي) الذي قدم للديوان وضمن كلامه الإشارة إلى ريادة أبي جعفر الخطي في تجديد الشعر. غير أن قراءة الشيخ البهائي لأبي البحر/الشاعر تكتسب الأهمية الكبرى، إذ أتاح استحسان البهائي لشعر الخطي إعطاء مقبولية واسعة له وانتشاره في الأوساط الدينية والأدبية وذلك بحكم الوزن الديني والسياسي الذي كان يحتله البهائي في تلك الفترة. أما القيمة النقدية لقراءات المعاصرين للخطي فتأتي من ماجد بن هاشم الحسيني الذي جال أكثر الملاحظات النقدية الواردة في الديوان. ومن بين القراءات الثماني عشرة المعروضة نشير إلى قراءة البحريني يوسف حسن التي قدمها أولا في محاضرة استضافها «اتحاد كتاب وأدباء الإمارات»، وقد تمحورت القراءة حول موضوع الوطن والحنين إليه على رغم عدم ورود هذا المفهوم في شعر الخطي مستعيضا ذلك بذكر أسماء القرى والمدن.

من المأمول أن يستنهض هذا التحقيق الجديد للديوان الذاكرة الأدبية لمنطقة الجزيرة العربية ويعاد البحث عن الرموز الثقافية والأدبية الرائدة التي تجاهلتها المؤسسة الرسمية والتي اعتادت تأريخ الواقع الأدبي بناء على عوامل سياسية ترتكز على نظام الوحدات السياسية السائدة ومنطق الدولة الغالبة، وهو منهج تأريخي أرسى مفاهيم وتقاليد سياسية في قراءة التاريخ الأدبي جنت على القيمة الأدبية والإبداعية للتراث بإقصائها أو تجاهلها الكثير من المنجزات الأدبية والثقافية المهمة نظرا إلى عدم انسجامها مع شروط الانتماء للمؤسسة المعنية بتدوين التاريخ الثقافي للمنطقة.

ديوان أبي البحر... الشيخ جعفر الخطي. تحقيق أنيسة المنصور وعبد الجليل العريض. الكويت، مؤسسة عبد العزيز البابطين للإبداع الشعري، 2002 ، 514 صفحة





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً