العدد 1612 - السبت 03 فبراير 2007م الموافق 15 محرم 1428هـ

بين خطة بوش وجولة رايس الهروب من مأزق العراق بتخويف الدول من الأسوأ

بعد انتظار طويل أعلن الرئيس الأميركي جورج بوش مطلع الشهر الماضي استراتيجيته الجديدة بشأن العراق ومنطقة «الشرق الأوسط». وما كادت عناصر الخطة تصدر إلى العلن حتى نزلت المطارق على رأس الرئيس. فالاستراتيجية استفزت الحزب الديمقراطي ولاقت من لجنة «بيكر - هاملتون» الاستغراب ونزلت على عواصم القرار في العالم كالصاعقة. فالكل كان يتوقع أن تكون اقتراحات الرئيس سيئة، ولكن الكل لم يكن يتوقع أن تكون الخطة سيئة إلى هذه الدرجة. فالرئيس خالف الأعراف وتعامل بفوقية مع دول العالم والكونغرس ودافع الضرائب الأميركي والناخب الذي أرسل إشارة قوية إلى الحزب الجمهوري خلال الدورة النصفية التي أجريت في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي.

ماذا تقول الخطة؟ الرئيس اعترف بوجود أخطاء في العراق وأعلن أنه يتحمّل مسئوليتها ولكنه لم يعترف بالفشل وبالتالي جدد رهانه على تجديد الاحتلال حتى تحقق الولايات المتحدة أهدافها. وكعادته لم يحدد الرئيس بوضوح أهدافه ولكنه شدد على أن واشنطن لن تترك العراق منطقة نفوذ للإرهابيين ولذلك لن تغادر تلك المنطقة الثرية والغنية بالنفط لإقامة بؤر توتر تهدد الاستقرار وتصدّر الفوضى إلى دول حليفة وصديقة في «الشرق الأوسط».

الخطة إذا لم تطرح الجديد ولكنها إعادت إنتاج السياسة القديمة وأدخلت عليها تعديلات لا تمس جوهر المشكلة وإنما اكتفت بتغيير زوايا الصورة المطلوب إخراجها للرأي العام في نوفمبر المقبل. وبسبب تحديد الخطة مهلة زمنية وقع الرئيس في رهان الوقت وبات محكوما بمهمات يرجح أنه لن يقوى على إنجازها في الشهور المقبلة.

على ماذا اعتمدت خطة بوش في الخطوات القادمة؟ هناك الكثير من الكلام إلا أن الأساس في الاستراتيجية جاء ليؤكد نهج الرئيس المتبع سابقا. فالخطة لا تقر بالفشل السياسي وإنما تعتبر أن ما حصل مجرد أخطاء سببها تلك الثغرات الأمنية. فالمشكلة إذا في رأي الرئيس ليست سياسية ولا تعود إلى مبدأ الاحتلال واجتياح الدول وإنما هي عسكرية نتجت عن سوء التقدير والتردد في عدم إرسال قوات برية كافية.

الرهان الأول إذا كان على سد الثغرات الأمنية الناتجة عن النقص في عدد القوات. وفي رأيه أنه في حال أرسلت إلى العراق ألوية إضافية فإن الأمن سيستقر أو يتحسن في الكثير من المناطق والمحافظات والمدن والأحياء.

الرهان الثاني لا يختلف عن الأول. فهو يركز على دور أمني للقوات العراقية في ضبط السيطرة على بؤر التوتر. وهذا الدور منوط نجاحه بمدى قدرة حكومة نوري المالكي على اتخاذ القرارات الجريئة التي تساعد الاحتلال على دخول مناطق الميليشيات السنية والشيعية. وزاد الطين بلة أن بوش لم يذكر في خطته تلك التوصيات التي أشار إليها تقرير «بيكر - هاملتون» وتجاهل أهمية العامل الإقليمي في المساعدة على تسوية الأزمة العراقية. فالخطة قرأت المشكلة أمنيا ورأت أن أساس الخلل يكمن في «النقص» في عدد القوات وعدم لعب الحكومة المحلية دورها المطلوب في المساعدة على احتواء عناصر التفجر والقضاء على مصادره. بهذه السذاجة قرأ بوش المأزق الأميركي في العراق. وعليها قرر زيادة القوات، ورفع جاهزية الجيش الذي تشرف عليه حكومة المالكي، وتقديم مساعداتٍ مالية تساهم في تحريك عجلة الإنتاج... وأخيرا تهديد الميليشيات الطائفية من المذهبين بضربات عسكرية.

أما موضوع دول الجوار فكان لبوش رأيه الخاص. فهو حذر إيران من التدخل في شئون العراق وتوعد بأنه سيسدد لنفوذها الضربات. كذلك كرر الملاحظات نفسها بشأن سورية متهما إياها بأنها تلعب دور الممر الآمن للسلاح والمسلحين.

الخطة إذا لم تكن ذكية وبوش لم يبذل جهده لابتكار آليات جديدة للتعامل مع الأزمة. فالاحتلال باقٍ إلى حين تأمين الحد الأدنى من الاستقرار، والاستقرار يحتاج إلى زيادة قوات، وزيادة القوات بحاجة إلى دعم من حكومة المالكي، والمالكي يحتاج إلى شجاعة تسعفه في رفع الغطاء عن الميليشيات واتخاذ قرارات قاسية تسهل عملية اقتحام معاقلها وتجريدها من السلاح، والسلاح يجب وقف تدفقه من الحدود السورية، ودمشق يجب أن تتعاون مع واشنطن لجلب الأمن والاستقرار، والأمن والاستقرار لا يتحققان من دون وضع حد للنفوذ الإيراني في العراق... وهكذا إلى السلسلة الأخيرة من أفكار سبق للرئيس أن كررها مرارا بمناسبة أو من دون مناسبة.

هجوم مضاد

بعد صدور الخطة الغبية تعرض بوش لهجمات انتقدت سلوكه غير السوي وأسلوبه المتشاوف في التعامل مع تعقيدات الأزمة ورأيه المتعالي على مختلف وجهات النظر المحلية والأوروبية والروسية والصينية والإسلامية والإقليمية والعربية.

وبسبب هذا التصرف جاءت الملاحظات من كل حدب وصوب. هل بإمكان زيادة القوات إنهاء مشكلة الاحتلال والسيطرة على بؤر العنف ووقف المقاومة ومنع انزلاق العراق من حال الاقتتال الأهلي والفرز الطائفي/ المذهبي إلى حال الحرب الأهلية والفوضى الشاملة؟ وهل بإمكان جيش المالكي المساهمة في شن الهجمات على الأحياء السنية والشيعية لتجريد الميليشيات من سلاحها من دون أن تتعرض القوات لهزات داخلية؟ وهل اقتحام المحافظات والمدن والأحياء يكفي للقضاء على المواجهات؟ وهل القوات كافية للسيطرة على كل المناطق؟ وهل القوات قادرة على البقاء في أمكنتها فترة كافية أم تحتاج إلى تعزيزات إضافية؟ وماذا سيحصل في حال انسحبت القوات المهاجمة؟ وهل تستطيع حكومة المالكي أن تشن في وقت واحد تلك الهجمات المطلوبة على مناطق الميليشيات السنية والشيعية؟ وهل المالكي في وضع سياسي يسمح له باتخاذ قرار مغامر بضرب القوتين في فترة متقاربة؟

المضحك في خطة بوش أنه يطلب من حكومة هزيلة صنعها الاحتلال أن تقوم بمهمات عجز الاحتلال نفسه عن إنجازها. والمثير للسخرية في خطة الرئيس أنه يريد أن يعتمد على قوى سنية معتدلة ومشاركة في العملية السياسية مساعدته على خوض معركة ضد قوى سنية ترفض الاحتلال، كذلك يريد أن يعتمد على قوى شيعية مؤيدة للاحتلال دعمه في معركة ضد ميليشيات شيعية متمردة أو ممانعة للاحتلال. وهذا يعني أن بوش يراهن على تجاوز الاقتتال الأهلي السني - الشيعي بفتح الاقتتال الأهلي على أبواب أخرى وتحويلها إلى اقتتال سني - سني من جهة مقابل اقتتال شيعي - شيعي من جهة أخرى. والبساطة هذه في قراءة الواقع العراقي تكشف بوضوح عن سذاجة الخطة. فأبسط بديهات السياسة في «شرق أوسط» طائفي/ مذهبي هي أنه بالإمكان افتعال فتنة سنية - شيعية بسهولة ولكن هناك صعوبة بمكان افتعال فتنة سنية - سنية أو شيعية - شيعية. فالأولى أسهل وتقوم على آليات بينما الثانية أصعب وتتطلب آليات معقدة.

كل هذه الفضائح وردت بوضوح وبين سطور خطة بوش. وهذا ما استدعى الرئيس إلى إصدار توضيحات بشأن استراتيجيته فضلا عن إرسال وزيرة خارجيته إلى المنطقة وحثها على المساعدة على تطبيق خطته وتسهيل نجاحها. التوضيحات التي أطلقها بوش ردا على الملاحظات والانتقادات جاءت بدورها قاصرة. فهو استفز المعارضين بالرد: ماذا تريدون أن أفعل؟ هل أترك المنطقة للمتطرفين؟ وهل أنسحب من العراق حتى تصاب الولايات المتحدة بهزيمة استراتيجية؟ وهل يمكن أن أترك حلفاء أميركا والدول الصديقة والمعتدلة من دون ضمانات سياسية وغطاء أمني؟

هذه العناوين استخدمها بوش للرد على الانتقادات معترفا بأن زيادة القوات لن توقف بؤر العنف، وأن حكومة المالكي ليست مؤهلة لاتخاذ قرارات مهمة، وكذلك يحتاج الجيش العراقي إلى مزيد من التدريبات حتى يكون في وضع يسمح له بالقيام بواجباته.

إذا على ماذا راهن بوش حين قرر طرح خطته؟ فالزيادة التي قررها لا تنفع، وحكومة المالكي ليست مؤهلة، والجيش العراقي لايزال في طور التأسيس وإعادة التأهيل، واحتمال القضاء على المقاومة واحتواء بؤر العنف والسيطرة على التوتر الأهلي يمكن أن تنجح نسبيا ولكنها لن تصل إلى مرتبة النجاح المطلق. إذا كيف يستطيع بوش إدارة ملف الصراع مادام هو غير مطمئن إلى خطته وغير مرتاح لاحتمال إنجاز وعوده خلال المهلة الزمنية التي حددها؟

جولة رايس

فكر بوش كما يبدو وقرر الآتي: إرسال وزيرة الخارجية كوندوليزا رايس إلى المنطقة لبحث أزمة الاحتلال مع رزمة وعود تتصل بفلسطين ولبنان.

ماذا حملت رايس؟ مجموعة أفكار تعتبر مجرد ملاحق للخطة. والأفكار بكل بساطة تنص على طلب مساعدة الدول الحليفة والصديقة على دعم الخطة. والدعم يتطلب تشكيل جبهة معتدلة تقاوم النفوذ الإيراني في العراق وتعمل على محاصرته والحد من انتشاره. وهذا أيضا لا يتم إلا بعودة الدول العربية إلى لعب أدوارها المعهودة والتقليدية في العراق. وتلك الأدوار لا تكتمل من دون دعم حكومة المالكي على أساس أنها تشكل قاعدة من قواعد الرهان التي جاءت بها الخطة، كذلك دعم القوى السنية المعتدلة وإعادة ربطها بالبيئة العربية تمهيدا لإعادة العراق إلى العالم العربي.

إنها دائرة في نهاية المطاف. فأول الخطة يبدأ بتعزيز القوات الأميركية ونشر شبكة بطاريات صواريخ «باتريوت» وإرسال الأساطيل والغواصات وكاسحات الألغام بقصد القضاء على المقاومة واحتواء العنف ودعم حكومة المالكي تمهيدا للانسحاب في وقت يحدد لاحقا... وآخر الخطة تنتهي بطلب من الدول العربية المعنية بالشأن العراقي أن تتحرك وتدعم الخطة وتساعد الولايات المتحدة على فتح قنوات لإنقاذ الاحتلال من الورطة.

إنقاذ الاحتلال من الورطة يعني - كما ترى خطة بوش - مشاركة الدول العربية رؤية الولايات المتحدة الاستراتيجية والاشتراك معها في ترتيب قواعد اللعبة الإقليمية من خلال الدخول إلى العراق تحت يافطة محاربة النفوذ الإيراني. وبكل بساطة يريد بوش «تعريب» المأزق وتعميم «النموذج» من خلال تخويف الدول بالأسوأ وتحويل أزمة العراق من مشكلة احتلال إلى مشكلة اقتتال مذهبي. ثم الاعتماد على تفكك العلاقات الأهلية في بلاد الرافدين لبناء سياسة إقليمية تخرج المنطقة من دائرة المنظومة الأمنية الموحدة إلى حلقات تتجاذب النفوذ على نزاعات ضيقة لا وظيفة لها سوى استنزاف الطاقات وهدر الثروات وضمان أمن «إسرائيل» وتفوقها على دول منطقة تطلق عليها تسمية «الشرق الأوسط الجديد».

العدد 1612 - السبت 03 فبراير 2007م الموافق 15 محرم 1428هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً