العدد 2256 - السبت 08 نوفمبر 2008م الموافق 09 ذي القعدة 1429هـ

«الرجل المختار» لتأسيس عصر أميركي جديد

انتخاب باراك حسين أوباما يدهش العالم

صدمة انتخاب باراك حسين أوباما تحتاج إلى فترة زمنية لتحليل أسبابها واستيعاب تداعياتها واحتواء نتائجها. فالصدمة كانت غير متوقعة في الحسابات القريبة بسبب تلك الفجوة التاريخية التي كانت تفصل بين البيت الأبيض والمترشح من أصول إفريقية. إلا أن الحسابات التي استندت إلى وقائع فشلت في التقاط تلك المفارقات التي اجتمعت في لحظة زمنية لتصنع هوية جديدة للديمقراطية الأميركية.

حتى الآن لاتزال الدهشة هي المسيطرة. فأميركا تغلبت على نفسها وانتصرت من الداخل وصححت تلك الأخطاء التي تراكمت في ساحتها منذ عصر العبودية والرق والتمييز العنصري واللوني والديني والتفرقة بين البشر.

ما حصل في 4 نوفمبر/ تشرين الثاني يشبه الزلزال الذي يضرب قشرة الأرض ثم يرتد إلى الداخل ليعاود الصعود مرة أخرى. فهناك توقعات بأن يحدث الزلزال الأميركي موجة ارتدادات داخلية وخارجية ستترك تأثيرها النفسي على ثقافة أجيال تعودت على التكيف مع شروط الأمر الواقع. والارتدادات التي يمكن رصدها من الآن تنحصر في مجموعة عناصر لابد من مراقبتها حتى يتأقلم التغيير مع المعطيات الميدانية التي تأسست على قواعدها الدولة الأميركية.

هناك أولا المؤسسات الثابتة وأجهزة الضغط وشبكة المخابرات العنكبوتية. فهذه الاطارات الإدارية المتوارثة هي المولجة تقليديّا بصناعة القرار احيانا وهي المكلفة بايجاد آليات لتنفيذه في أحيان أخرى. وبسبب طبيعة هذه الأجهزة الشائكة في تراتبها وتنظيمها وميراثها يرجح ان تلعب الدور الرئيس في انجاح مهمة الإدارة المنتخبة أو افشالها.

هناك ثانيا القوى الاقتصادية التي يتألف منها البناء الهرمي للقطاعات الانتاجية. فهذه المراكز تشكل نقاط قوة تعتمد عليها الدولة لتغذية خزانتها بالمال وتأمين ذاك الغطاء لموازنتها السنوية الضخمة. وبسبب الطبيعة الخاصة للنظام الرأسمالي الأميركي وخضوعه التام لآليات السوق يرجح ان تلعب مراكز القوى الاقتصادية دور الضابط الذي يشرف على حركة المال وانتقالها من الأسواق إلى المؤسسات وإعادة توظيفها في قطاعات الانتاج. وهذا النوع من العلاقات المفتوحة ساهم في تشكل قوى مستقلة (لوبيات) عن إدارة السلطة ما أعطى مؤسسات الضغط قوة خاصة تفرض شروطها على سياسة الدولة الداخلية واستراتيجيتها العالمية.

هناك ثالثا العلاقات المضطربة بين أجهزة الدولة المركزية (الفيدرالية) وأنظمة الولايات التي تحرص على المحافظة على هامش يعطي صلاحيات خاصة لتلك المؤسسات التي تعمل في أفق يعتمد قوانين تميل إلى نوع من الكونفيدرالية (اللامركزية). وبسبب هذا الهامش المستقل بين القوتين شهدت الولايات المتحدة حركات تمرد وواجهت اضطرابات في فترات مختلفة من تاريخها ما أدى أحيانا إلى توليد توجهات ايديولوجية تدعو إلى تعزيز الانفصالية ورفض الخضوع لتوجيهات المركز (العاصمة).

هناك رابعا نمو نوع من الانقسام الأهلي العمودي بين الولايات تسببت به المتغيرات الديموغرافية (السكانية) الناجمة عن الولادات أو الهجرات ما عزز مشاعر الاختلاف بين المناطق والألوان والأعراق. فالولايات الأميركية ليست متحدة في تطورها الاجتماعي والاقتصادي والتعليمي والثقافي واللغوي. بعض الولايات يمتاز بتقدم صناعي تقني مقابل ولايات زراعية تعاني نسبيّا من تدني مستواها المعيشي. وبعض الولايات تطغى على بنيتها السكانية هجرات معاصرة أخذت تؤثر على توازنها الأهلي. وبعض الولايات تتحدث الاسبانية وتعتمد الانجليزية لغة ثانية. وبعض الولايات اغنى وبعضها يعاني من مشكلات بطالة مرتفعة وضعف في بنيتها التحتية.

هناك خامسا نزوع أهلي نحو الانكفاء إلى الذات القومية (الهوية الخاصة) ما عزز تلك التوجهات اللونية ودفع المجموعات الأهلية إلى الانزواء والعيش في احياء مستقلة (غيتويات) سواء على مستوى المدن الكبرى أو على مستوى ولايات تشتد فيها الاستقطابات السياسية. وساهم هذا النوع من التمايز الأهلي في ترسيم خرائط تعزل المجموعات العرقية عن بعضها ما أدى إلى ارتفاع الحواجز بين الناس وشكل قناعات لا تتوافق مع مناهج الدولة وبرامجها وأسس قراءات تمانع فكرة الاتحاد ولا تتجانس مع طبيعة السلطة. فالنموذج بدأ يفقد بريقه ولم يعد ذاك المثال المطلوب وتلك الصيغة الجاذبة التي تدفع الشعوب إلى الاحتذاء بها.

هناك الكثير من النقاط يمكن اضافتها لتوصيف حال الولايات المتحدة الاجتماعية والاقتصادية والمناطقية والأهلية. فهذه الدولة الكبرى القوية والقادرة أخذت تعاني بحكم تعاقب الاجيال من خلخل بنيوي داخلي وضعف في التوازن السكاني وفوضى أمنية في الأحياء المعزولة أو المنكمشة على ذاتها ما أعطى فرصة لنمو توجيهات تؤكد عدم تجانس تكوين السلطة مع الهيئة اللونية التي تتألف منها المؤسسات والأجهزة ومصادر القرار.

عملية إنقاذية

ساهم هذا التفاوت في التطور الذاتي والتكوين الأهلي بين الولايات الأميركية في تشكيل قناعات ايديولوجية أخذت تشكك بمدى قدرة التجربة الخاصة على الصمود وبدأت تطالب بعملية انقاذ للنموذج. وظهرت في العقود الأربعة الأخيرة الكثير من القراءات والتحليلات التي تحذر من احتمال انهيار صيغة الاتحاد في حال لم تتخذ خطوات جذرية تحسم تلك المشكلات وتقدم أجوبة عن معضلات ميدانية بات من الصعب نفيها أو تجاهلها.

تضاريس المشهد الأميركي تحول إلى نموذج للدراسة من قبل علماء التاريخ والاجتماع إذ اخذت تتسرب من تضاعيفه السكانية وجهات نظر سلبية تتبنى استراتيجية المقاطعة وتشجع على عدم التجاوب مع مبادرات الدولة وترفض التفاعل مع الانتخابات وتفضل الجلوس في البيت لتراقب مشاهد تداول السلطة.

الأقلية الإفريقية كانت ترى في احتفالات التسلم والتسليم لمقاليد البيت الأبيض مجرد مسرحية شكلية يتبادل فيها البيض مفاتيح السلطة. والأقلية اللاتينية كانت تشعر بالتهميش. والاقليات المسلمة كانت تتخوف من الاضطهاد والظلم المتنوع الأوجه والأدوات. والأقليات الآسيوية كانت تتحسس من التفرقة وعدم التعامل معها باحترام. حتى مجموعات الكاثوليك السمر (الهسبانكس) أو البيض (من أصول ايرلندية) كانت تعيش حالات من العزلة بسبب شيوع ثقافة الطرد التي كانت تمارسها القوى المتسلطة على الأجهزة والمؤسسات.

كل هذه الفضاءات أخذت تخيم على التجربة الأميركية وتهدد هياكلها بالسقوط حين تهب عليها رياح التغيير أو تعصف بها بعض حوادث الشغب التي تحصل ليلا في الكثير من مناطق العزلة والانزواء.

وهذا النوع من الانطواء على الذات دفاعا عن الهوية الخاصة شكل مادة سياسية أخذت مراكز البحوث والدراسات تحذر من نموه وتطوره لأنه سيؤدي إلى زعزعة الاستقرار وإثارة الفوضى ودفع المجموعات الأهلية إلى التمرد أو الاصطدام.

ما حصل في 4 نوفمبر الجاري يفسر الكثير من الجوانب السرية في الشخصية الأميركية المعاصرة. فهذا التاريخ المسكوت عنه لم يعد بالإمكان تغطيته بايديولوجية زائفة استهلكت كل الشعارات العامة والبراقة للتهرب من الاجابة عن السؤال الكبير: إلى اين تتوجه الولايات المتحدة؟

انتخاب باراك حسين أوباما جاء نتيجة عملية حسابية معقدة وأتى ليرد على حاجة تاريخية اخذت تضغط على السلطة للانفتاح والاستيعاب حتى تسترد ثقة الناس بنموذجها وتشجع القوى المنطوية على نفسها لاستعادة نشاطها وتنخرط مجددا في لعبة تداول القوة تحت سقف القانون وشروطه الموضوعية.

مشهد الانتخاب الذي انتهى بفوز المترشح الأسود عن الحزب الديمقراطي كان علامة واضحة عن ذاك المأزق وأعطى اشارة موجزة عن طبيعة التحول الذي فرضته عوامل كثيرة من بينها حصول متغيرات في التكوين السكاني والنسيج الاجتماعي (اللوني) الذي تتألف منه الدولة. ومشهد الاقبال على صناديق الاقتراع الذي ظهر بقوة في مناطق واحياء وشوارع «الاقليات» الإفريقية والملونة عكس بوضوح إحساس المجموعات المهمشة بضرورة التغيير من خلال المشاركة والتفاعل مع مترشح للرئاسة يشبهها في بشرته ويقاربها في سيرته الذاتية.

صعود أوباما إلى اعلى منصب في الدولة الأميركية ليس مصادفة ولا نتاج عوامل خارجية ولا يختزل بسياسة ساهمت إدارة جورج بوش في انتاجها وتسريعها وانما هو قفزة تاريخية إلى الأمام أعادت الحيوية لنموذج ديمقراطي دخل في حال من التلاشي والغيبوية وبات بحاجة إلى حركة صادمة تنعش التجربة وتعيد اليها الحياة وتعطي الولايات المتحدة صدقية أخذت تفتقدها على الصعيدين الخارجي والداخلي. والمصادفة التي اختارت أوباما قد تكون مقصودة لكنها كانت مطلوبة لتصحيح الصورة وإنقاذ النموذج من التفكك.

حتى الآن لاتزال صدمة انتخاب أوباما أكبر من إمكانات القدرة على استيعابها وهي لا شك تحتاج إلى هدنة زمنية لاحتواء عناصرها الحيوية وفترة انتقالية لاستكشاف طبيعتها الظرفية ومساحة من الحرية لاعادة قراءة اشاراتها من مختلف الزوايا والجهات. فهناك دهشة نفسية عالمية معطوفة على زلزال سياسي أعقبت الهزة ويرجح أن يحدث الزلزال الكبير تموجات وارتدادات صغيرة لابد أن تعطي مفعولها الايجابي في حال حافظ ائتلاف جبهة الملونيين والأقليات والمجموعات الناقمة أو المتمردة على اتحاده ونشاطه.

أميركا الآن تشهد موات ثقافة استنزفت طاقتها وفقدت وظيفتها واستنفدت أغراضها ما فرض على الولايات المتحدة البحث عن مخارج «حضارية» تنقذ التجربة وتهندس من جديد علاقات الأهل من الداخل في سياق ثقافي متسامح يفتح الباب أمام نخبة الطاقات المنعزلة والمنطوية للخروج إلى عالم آخر يتقبل المختلف ويتعامل معه من دون تمييز أو تشكيك أو تعطيل أو استعلاء.

أوباما دخل التاريخ بصفته الشخص المكلف لأنه اقدم على كسر حلقات العزلة في اللحظة المناسبة. فهو فعلا «الرجل المختار» الذي قاد معركة موقوفة ونجح في إدارتها إلى المكان الصحيح تمهيدا لتأسيس عصر أميركي جديد

العدد 2256 - السبت 08 نوفمبر 2008م الموافق 09 ذي القعدة 1429هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً