العدد 1794 - السبت 04 أغسطس 2007م الموافق 20 رجب 1428هـ

دائرة الخليج من القطبين إلى قطب واحد

اكتشاف النفط في منطقة الخليج في مطلع القرن العشرين سكب المزيد من الزيت على النار. فالمنطقة لم تعد مهمة لأسباب استراتيجية تتصل بتقاطع طرق المواصلات التجارية البحرية والبرية كما كانت حالها منذ القرن السادسَ عشرَ بل تحولت إلى مصدر للطاقة تعتمد عليه الصناعات الحربية والمدنية في أوروبا والولايات المتحدة.

هذا الاكتشاف الخطير ترافق مع عامل آخر ظهر في المشرق العربي. ففي تلك المنطقة المزدهرة بالأقليات الطائفية والمذهبية بدأت أوروبا في عهد الوصاية (الانتداب) الفرنسية - البريطانية تخطط لتمزيق بلاد الشام رسميا إلى وحدات إدارية (دويلات) تفتقد عناصر قوة تتكفل بنهوض دولة مركزية واحدة قابلة للحياة.

مشروع تقسيم المشرق العربي إلى دويلات بدأ بعد هزيمة القوات التركية (العثمانية) المتحالفة مع ألمانيا وتراجعها من قناة السويس وفلسطين ولبنان وسورية ودخول القوات الفرنسية والبريطانية بلاد الشام. وتتوج ذاك الامتداد الأوروبي باحتلال القوات البريطانية القدسَ ثم احتلال القوات الفرنسية دمشقَ في العام 1920 وإسقاط حكومة فيصل الأول التي تشكلت بعد تراجع تركيا إلى حدودها الجغرافية السياسية.

السيطرة الأوروبية على المشرق العربي والعراق بشقيها الفرنسي والبريطاني أسست قواعد عمل أعطت حيوية لمشروع التقسيم الاستعماري (معاهدة سايكس - بيكو) ومشروع «وعد بلفور» الذي تعهدت فيه لندن بإنشاء «وطن قومي» لليهود في فلسطين.

خطط التقسيم الأجنبية هذه ترافقت مع حركتين: الأولى سلخ لواء الإسكندرون من سورية وإلحاقه بالخريطة التركية مقابل توقف المقاومة ضد فرنسا في بلاد الأناضول وتحديدا في منطقة كليكيا. والثانية إلحاق محافظة الموصل بالعراق.

شكل هذا التوزيع الجيوبوليتكي لبلاد الشام والعراق خطوة تمهيدية أسست لاحقا الكيان العبري في الجزء الأكبر من فلسطين في العام 1948 بعد نهاية الحرب العالمية الثانية التي أقفلت على هزيمة ألمانية ثانية.

اكتشاف النفط وتقسيم بلاد الشام إلى دويلات وتأسيس دويلة «إسرائيل» رفع حدّة الصراع الدولي على منطقة «الشرق الأوسط» امتدادا من قناة السويس إلى مضيق هرمز. فالمنطقة هذه تحولت منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وقيام «الحرب الباردة» بين المعسكرين الرأسمالي والاشتراكي إلى خطوط تماس دولية حارة تتشاطر القوى الكبرى التصادم عليها ومحاولة جذبها إلى هذا الفريق أو ذاك.

خلال هذه الفترة التي امتدت من العام 1945 إلى العام 1991 شهدت المنطقة الممتدة من السويس إلى هرمز سلسلة حروب وانقلابات وحركات تمرد أشعلت دائرة «الشرق الأوسط» بنيران سياسية دفاعا عن الوقود أحيانا أو الممرات المائية أحيانا آخرى. وشكلت فلسطين طوال هذه الفترة الزمنية حجر زاوية لمختلف الاضطرابات التي هزت دول المنطقة.

لم تقتصر الحروب على جانب شرق البحر المتوسط وقناة السويس وإنما امتدت إلى الخليج وتحديدا العراق وإيران. في الجانب الأول اشتعلت الحرب العربية - الإسرائيلية الأولى في 1947-1948 فالعدوان الثلاثي على مصر عبدالناصر في 1956-1957، فالحرب العربية الإسرائيلية الثانية في 1967، ثم الحرب العربية - الإسرائيلية الثالثة في 1973. وفي الجانب الثاني اشتعلت الحرب العراقية - الإيرانية (حرب الخليج الأولى) ثم أعقبتها حرب الخليج الثانية (أزمة الكويت) في العام 1991. وبين الحروب الممتدة وقعت انقلابات أو محاولات انقلاب عسكرية في سورية ومصر والعراق، وظهرت الثورة الفلسطينية وما رافقها من صدامات مسلحة وسلسلة اعتداءات إسرائيلية تتوجت في العام 1978 باجتياح منطقة الجنوب ثم اعتداء واسع جرى في العام 1982 انتهى باحتلال الجزء الأكبر من لبنان.

هذه الحروب الدائمة جرت تحت عناوين مختلفة شملت الماء والنفط وأمن «إسرائيل» وخطوط المواصلات التجارية؛ لمنع وصول الاتحاد السوفياتي إلى المياه الدافئة في المتوسط ومنطقة الخليج. وكل هذه الحروب تمت في حقبة «الحرب الباردة». فالمنطقة كانت ساخنة طوال الوقت وارتفعت حرارتها بعد إخفاق الولايات المتحدة في حربها على فيتنام ولاوس وكمبوديا واضطرارها إلى الخروج من منطقة جنوب شرقي آسيا في العام 1975.

بعد تجربة فيتنام تبدلت الاستراتيجية الأميركية وبدأت إدارة واشنطن تبحث عن سياسات بديلة تضمن مصالحها في الخليج وتمنع موسكو من التقدم إلى المياه الدافئة وآبار النفط. وشكل هذا التبدل في العلاقات الدولية مناسبة لتطوير مفاهيم أميركية أخذت تتحدث عمّا أسمته الامبريالية الفرعية، أي الاعتماد على قوى إقليمية قوية وقادرة على تحمّل مهمات مركزية تدافع نيابة عن واشنطن التي أصيبت بدوار عطل عليها إمكانات التحرك العسكري لفترة لا بأس بها من الزمن.

مفهوم الاعتماد على قوى إقليمية (الامبرياليات الفرعية) تطور في العام 1977 حين أخذت الولايات المتحدة تركز تحالفاتها مع إيران الشاه لضبط الفراغ الأمني ومنع انهيار منظومة الخليج بعد انسحاب بريطانيا من مواقعَ استراتيجية مختلفة في العام 1972 وصاعدا. كذلك تطور دور «إسرائيل» في تلك الاستراتيجية الأميركية بعد حرب أكتوبر/ تشرين الأول وظهور نظريات هنري كيسنجر في عهدي نيكسون وفورد.

بعد خروج أميركا من جنوب شرقي آسيا اعتمدت واشنطن على ركيزتين إقليميتين للدفاع عن مصالحها في حال تعرضت لهجمات غير متوقعة من الطرف الآخر من «الحرب الباردة». إلا أن الولايات المتحدة واجهت من جديد متغيراتٍ غير محسوبة من جهة السويس وجهة الخليج. ففي المشرق العربي قرر الرئيس أنور السادات انسحاب مصر من معادلة الصراع العربي - الإسرائيلي والتفاوض مع تل أبيب والتصالح معها. ومن جهة الخليج اندلعت ثورة إسلامية كبرى أطاحت بالشاه وأسست دولة زعزعت قواعد اللعبة الدولية وعطلت مشروع «الامبريالية الفرعية» وألغت تلك المهمات التي كانت موكولة إقليميا إلى نظام الشاه.

هذه التحولات التي لم تكن محسوبة في «كومبيوتر» الولايات المتحدة انتهت في نهايات السبعينات باجتياح الاتحاد السوفياتي أفغانستان وإطلاق شرارة «الجهاد الإسلامي» ضد «الإلحاد الشيوعي». وهذه الشرارة التي تولدت أساسا من صراعات «الحرب الباردة» كان لها وقعها الخاص في المعادلة الدولية آنذاك، كما ستكون لها لاحقا مجموعة شظايا ستتناثر في دائرة كونية بدءا من أفغانستان وباكستان والهند وصولا إلى نيويورك وواشنطن في العام 2001.

زيارة السادات تلَ أبيب وسقوط الشاه واحتلال افغانستان كلها خطوات ستقلب المعادلات التقليدية وتعيد ترتيب أوراق التحالفات الدولية وما تعنيه من تداعيات واستتباعات تتصل بمنظومة «الشرق الأوسط» وتركيباتها الإقليمية.

كل هذه المتغيرات الإقليمية والدولية ستلقي بأوراقها على طاولة رونالد ريغان في مطلع الثمانينات. فهذا الرئيس الأميركي يعد مؤسس تيار «المحافظين الجدد» ويحمل معه مجموعة أفكار دينية مسيحية متطرفة وسطحية (الإنجيلية الأصولية) ويكره الشيوعية وغير معجب بالإسلام وتاريخه وموقعه ودوره وجغرافيته التي تحتوي على احتياطات هائلة من النفط والغاز. وتعززت نزعة العداء للشيوعية والكره للإسلام بوجود نائب للرئيس الأميركي (جورج بوش الأب) سيكون له دوره اللاحق في توسيع دائرة الحروب في المنطقة.

شكل هذا الثنائي ريغان - بوش الأب جبهة دولية لمحاربة الاتحاد السوفياتي وطرده من أفغانستان، وجبهة إقليمية قادها العراق (صدام حسين) لمواجهة النفوذ الإسلامي واحتمال امتداده من إيران. وانتهت هذه الحرب الايديولوجية التي قادها الثنائي الأميركي المدعوم من دول الاتحاد الأوروبي واليابان إلى معادلة سلبية مركبة دوليا وإقليميا انعكست على العالم ومنطقة «الشرق الأوسط». فمن ناحية «الحرب الباردة» انهارت «امبراطورية الشر» كما كان يقول ريغان وبدأ المعسكر المضاد يتفكك دولة بعد أخرى. ومن ناحية الخليج توقفت الحرب العراقية - الإيرانية في العام 1988 لتندلع مكانها معركة من نوع آخر في العام 1990 انطلقت شرارتها بعد دخول جيش العراق أرض الكويت في عهد بوش الأب.

في تلك الفترة كان العالم يمر بمرحلة انقلاب تمثلت في بدء تراجع «الحرب الباردة» ونشوء نوع من «السلم البارد» وهذا يعني في الاستراتيجية الجغرافية/ الايديولوجية بدء انتقال الصراع على «الشرق الأوسط» من الثنائية الدولية إلى القطب الواحد.

شكلت حرب الخليج الثانية مناسبة لعودة الولايات المتحدة إلى الخروج عسكريا إلى الساحات الدولية بعد انكفاء استمر ميدانيا منذ تجربة فيتنام في العام 1975. كذلك شكلت الحرب على العراق ومحاصرته تمهيدا لتحطيمه في عهد بوش الأبن مناسبة أخرى لاختبار مدى فعالية القطب الواحد ودوره في تعديل التوازنات وتغيير المعادلات من دون منافس أو تدخل قوى دولية أخرى.

نجح بوش الأب في تجربته. إلا أن سقوطه المدوي في معركة التجديد لولاية ثانية في العام 1992 عطل آلة الكسر ومنعها من التحرك من دون قيود ومراقبة في عهد الرئيس بيل كلينتون الذي امتد إلى نهاية العام 2000.

خروج كلينتون ودخول بوش الابن البيت الأبيض في العام 2001 حاملا معه أفكار تيار «المحافظين الجدد» والأصولية المسيحية أعاد تسخين العلاقات الدولية وتوتيرها في المناطق الحارة. ففي مطلع عهد بوش الابن ستقع هجمات سبتمبر/ أيلول، وهي هجمات ستشكل ذريعة لإعلان الحرب على «الإرهاب الدولي» و «التطرف الإسلامي».

العدد 1794 - السبت 04 أغسطس 2007م الموافق 20 رجب 1428هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً