العدد 1822 - السبت 01 سبتمبر 2007م الموافق 18 شعبان 1428هـ

الانتقـــال إلــى عصــر المعـــــرفة يتطلــب إرادة مشتركة واستراتيجية مترابطة

تحديات «المجتمع المعرفي» في البحرين

يوصف العصر الحالي بالعصر الرقمي (المجتمع الرقمي)، أو بالعصر الذكي (المجتمع الذكي، البطاقة الذكية، المنزل الذكي... إلخ)، وبعصرالمعلومات (مجتمع المعلومات)، وبالعصر المعرفي (المجتمع المعرفي)... إلخ، وهذه التعريفات كلها متداخلة وتشير إلى الموضوع ذاته... فما هو هذا المفهوم؟ أعود إلى موضوعات عدةتطرقت اليها «الوسط» منذ العام 2002 لتوضيح أهمية الانتقال إلى «المجتمع المعرفي».

إن تقسيم العصور يتبع مناهج عدة، وهي قد تكون متداخلة من جانب ومفهومة عندما ننظر إليها من زاوية التعريف الذي انطلق منه المفكرون... وللمقاربة، يمكن النظر إلى تقسيمين للعصور التاريخية، أحدهما: « المنهج الماركسي»، والآخر «المنهج الليبرالي».

تقسيم العصور بحسب المنهج الماركسي

اعتمدت الماركسية منهجية «أيديولوجية» من أجل فهم حركة التاريخ، وعليه فقد قسم الفيلسوف الشيوعي كارل ماركس (عاش بين 1818 إلى 1883) التاريخ إلى خمس مراحل / عصور.

المرحلة الأولى التي مرت بها الإنسانية هي عصر «المشاعة» حيث كان الإنسان يعيش إلى جنب أخيه الإنسان من دون فروقات كادية، ثم جاءت بعد ذلك مرحلة/ عصر «الإقطاع» حيث سيطر ملاك الأراضي على الناس واستعبدوهم، وبعدها جاءت مرحلة/ عصر «الرأسمالية»، وبعد ذلك توقع ماركس انتقال العالم في زمانه إلى مرحلة / عصر «الاشتراكية»، وأن هذه المرحلة ستنقل البشرية إلى المرحلة الخامسة ، وهي عصر «الشيوعية» عندما تنعدم الطبقية وتنعدم وسائل سيطرة الإنسان على الإنسان.

هذا التقسيم لم تثبت صحته بل هناك ارتدادات من الاشتراكية إلى الرأسمالية، كما حصل في الاتحاد السوفياتي وبولندا، كما أنه لم تثبت علميته التي آمن بها الاشتراكيون القائلون بالاشتراكية العلمية. فالعامل الاقتصادي وآلة الإنتاج عندما تطورت لم يجعلا الناس يتجهون إلى الشيوعية، كما توقع ماركس. ومع ذلك، فإن ما طرحه ماركس أوضح جانبا مهما من كيفية التطور الإنساني، فهو قد طرح مفهــــــــــــوم «Surplus Labour» وهو أن الأرباح التي يجنيها الرأسماليون إنما نتجت عن جهود العمال المضافة إلى المادة قبل تصنيعها، وهذا المفهوم لا يختلف كثيرا عن مفهوم القيمة المضافة (Value Added) التي يتغنى بها الليبراليون.

تقسيم العصور بحسب المنهج الوصفي (الليبرالي)

هناك تقسيمات أخرى (غير إيديولوجية) للتاريخ، وربما أوسعها تلك التي قسمت المراحل التي مرت بها البشرية بصورة وصفية، وهو ماينتشر في عالم اليوم الذي تنتشر فيه الأفكار الليبرالية على المستويات الاقتصادية والسياسية. التقسيمات الوصفية تنظر إلى حركة المجتمعات الإنسانية وكيف أنها تطورت على النحو الآتي:

أولا، بدأت العصور الاقتصادية مع «العصر الزراعي»، وهو العصر الذي امتد آلاف السنين حتى منتصف القرن الثامن عشر. في العصر الزراعي، كان السيد هو «الاقطاعي» الذي يملك الأرض، والحقل/ المزرعة هي أهم شيء في الاقتصاد.

ثانيا، جاء «العصر الصناعي» في منتصف القرن الثامن عشر (قرابة 1750) حين بدأ عصر جديد عندما اخترع الإنسان الآلة البخارية، ثم توالت الاختراعات الكبرى مثل القطارات، والكهرباء والسيارة وغيرها من الاختراعات التي طورت الحياة الإنسانية. هذا العصر الصناعي استبدل المصنع بالحقل/ المزرعة، واستبدل صاحب المال (الرأسمالي) الذي يستطيع شراء الماكنة ودفع أجور العمال وجني الأرباح بصاحب الأرض (الاقطاعي). في العصر الصناعي لم تعد الزراعة تمثل النسبة المهمة في الاقتصاد، بل ان المجتمعات الاقتصادية المتطورة حققت اكتفاءها الذاتي من الغذاء وأصبحت تصدر الباقي إلى الخارج ومع ذلك فإن الزراعة تمثل حوالي 5 في المئة من الإنتاج الوطني. هذا العصر الصناعي استمر في الدول الصناعية المتطورة حتى منتصف القرن العشرين (قرابة القرنين).

ثالثا، دخلنا «العصر الرقمي» أو «عصر المعلومات» أو «عصر المعرفة»، وذلك منذ نهاية الخمسينات ومطلع الستينات من القرن الماضي، وهو العصر الذي نعيشه حاليا، والذي انتشر بسرعة فائقة منذ التسعينات من القرن الماضي مع انتشار الانترنت، ومازال يتوسع بسرعة فائقة. هذا العصر يعتمد على المعلومات وتكنولوجيا المعلومات، وفي هذا العصر المعلوماتي انتقلت القيادة من الماكنة إلى النظم الإلكترونية التي تتحكم بالماكنة وبالمصنع وبكل مجال من مجالات الحياة.

عصر المعلومات حوّل مركز الثقل من المصنع إلى جهاز الكمبيوتر (بعد أن كان العصر الصناعي قد نقل مركز الثقل من الحقل إلى المصنع). وبخلاف العصر الصناعي الذي كان يسيطر عليه صاحب المال، فإن الذي يسيطر على الأجهزة الإلكترونية والبرمجة والأنظمة المعلوماتية (DATABASE SYSTEMS) هم أصحاب العقول، وأصحاب العلم وأصحاب الذكاء. هذا التحول دفع الدول المتقدمة إلى الإمساك بتكنولوجيا المعلومات التي حولت العالم إلى قرية صغيرة يعرف بعضها بعضا.

العصر الصناعي أنتج لنا «الدولة القومية الحديثة» القائمة على سيادة الحدود الجغرافية. أما عصر المعلومات فإنه لا يعترف بالحدود الجغرافية (وأصبح يهدد مفهوم الدولة القومية) لأن خطوط الإنترنت والأقمار الاصطناعية تعبر الحدود الجغرافية من دون الحاجة إلى رخصة أو جواز سفر. العصر الصناعي اعتمد على التجارة التي تنتقل بين البلدان عبر الخطوط البرية والبحرية والجوية. أما عصر المعلومات فقد اخترع خطوطا إلكترونية تسبق سرعتها وإمكاناتها الخطوط البرية والبحرية والجوية. بل إن خطوط التجارة التقليدية لن تستطيع أداء دورها في المستقبل القريب إلا إذا اعتمدت على «خطوط» التجارة الإلكترونية. إن انتقال الثقل من صاحب المال إلى صاحب العلم والذكاء، ومن يمتلك الذكاء وأدوات وتكنولوجيا المعلومات، أوجد ومازال يوجد مفاهيم جديدة في عالم اللغة والاقتصاد والفكر والسياسة والمجتمع.

من الرموز إلى المعلومات إلى المعرفة إلى الحكمة

لتوضيح بعض المفاهيم اللازمة، فإن وصف عصرنا الذي نعيشه بعصر المعلومات ليس وصفا دقيقا. بداية، فإن الإنسان يستحصل العلم من خلال رموز (DATA) يتلقاها باستمرار. هذه الرموز كثيرة ومتفرقة وليست مفهومة . وعندما نلخص الرموز (حروفا وأرقاما... إلخ) ونحولها إلى معان معينة فإنها تتحول إلى معلومات (INFORMATION). هذه المعلومات لا تتحول إلى معرفة (KNOWLEDGE ) إلا إذا استفاد منها الإنسان في عملية اتخاذ قرار. والمعرفة المتطورة والدقيقة هي أعلى درجات المعرفة ويطلق عليها حكمة (WISDOM).

إن جهاز الكمبيوتر سهّل عملية تجميع وتخزين وتحويل الرموز إلى معلومات. ولكن جهاز الكمبيوتر لا يكوّن المعرفة. المعرفة يكوِّنها الإنسان ويطورها بالاستفادة من الأجهزة الإلكترونية (وأيضا بواسطة الأساليب التقليدية الأخرى). الحديث عن المعرفة حديث قديم - جديد. فالمعرفة الإنسانية اليوم أصبحت أهم عامل في الاقتصاد والسياسة وغيرهما. وما لم نستطع فهم المعرفة وطرق تكوينها فإننا قد نقع ضحية بحر من المعلومات الهائجة والمتزايدة مع الأيام.

عملية إنتاج المعرفة

الفلاسفة يقولون إن عملية إنتاج المعرفة الإنسانية تتم بواسطة أسلوبين أساسيين من الاستخدام العقلي: الأسلوب الأول، هو الاستنباط، والأسلوب الثاني هو الاستقراء. وهناك أساليب أخرى لإنتاج المعرفة الإنسانية «أي تمكين الإنسان من اتخاذ قرار في مجالات حياته المختلفة» ولكنها قائمة أو تعتمد في جزء رئيسي منها على خليط من هذين الأسلوبين الأساسيين. مثال على ذلك، المناهج الجدلية النظرية «الديالكتيك»، والجدلية المادية، والاستشراق القلبي، ونظرية الانتزاع «انتزاع المفاهيم الثانوية من الأولية»، والوجودية (Existentialism)، والنفعية (Utilitarianism)، والبراغماتية (وتعني الوصول إلى القرار الصحيح أو الأقل خطأ عبر التجربة الملائمة للظروف الزمانية والمكانية) إلخ... إلا أن جميع هذه المناهج تعتمد في جوانب أساسية منها على الوسيلتين الأساسيتين، وهما: الاستنباط والاستقراء.

الاستنباط يمكّن الإنسان من إنتاج المعرفة بالاعتماد على مفردات منطقية مسبقة. مثلا، لو قلنا إنه «لا يمكن الوصول إلى تلك الجزيرة إلا عبر البحر، إذ لا توجد خطوط جوية أو برية». ثم نقول «فلان ذهب إلى تلك الجزيرة». فإنه بالإمكان الاستدلال على أن «فلانا ذهب إلى الجزيرة عبر البحر». هذا المثال البسيط يوضح معنى الاستدلال وطريقته في إنتاج المعرفة. فقد عرفنا أن فلانا ذهب إلى الجزيرة عبر البحر لأن لدينا «مقدمات» منطقية وثابتة دلت على ذلك. هذا الأسلوب في إنتاج المعرفة سيطر على مناهج التفكير منذ فلاسفة الإغريق «اليونان» قبل الميلاد حتى القرن السادس عشر الميلادي.

وقد طور فلاسفة المسلمين المناهج اليونانية قليلا، إلا أن ذلك التطوير توقف لاحقا نظرا إلى الظروف السياسية التي جمّدت الفكر وطرق العلم. ولذلك فإن إنتاج المسلمين الفلسفي والعلمي انتقل إلى أوروبا قبل قرابة 600 عام عبر إسبانيا وفرنسا ولاحقا إيطاليا (وهي مناطق قريبة من العالم الإسلامي).

الأسلوب الثاني في إنتاج المعرفة هوالاستقراء. والاستقراء يقوم على التجربة الملموسة وعلى استقراء النتيجة من عدد كبير من المشاهدات المحسوسة التي يمكن للإنسان قياسها ودراستها وإحصاءها. الاستقراء هو الأسلوب التجريبي الملموس والمحسوس والقائم على تحصيل العلوم من خلال التجربة والممارسة. ولذلك فإن الاستقراء يعتمد على العلوم الطبيعية والاجتماعية وعلى مفاهيم الإحصاء التي تتحدث عن الاحتمالات. فالاحتمال يعني أن تصل إلى نتيجة معينة تقول مثلا إنك «تحصل على هذه النتيجة لو توافرت لديك معطيات معينة هي...».

هذا الاستقراء يتطور مع تطور التجارب الإنسانية في مختلف العلوم. ومنذ أن ركزت المناهج العلمية على الجانب الاستقرائي في إنتاج المعرفة (من دون إغفال جانب الاستنباط بطبيعة الحال) فإن عملية إنتاج المعرفة تطورت بصورة متلاحقة وأوجدت لنا العصر الحديث. إن العملية الاستقرائية تعتمد أساسا على مراقبة وتسجيل الملاحظات بشأن ظاهرة طبيعية أو اجتماعية معينة. ثم القيام بتعريف وتحديد معالم الظاهرة أو المسألة قيد الدراسة. ثم بعد ذلك اقتراح أطروحة و نظرية لتفسير تلك الظاهرة. ثم اختبار تلك الأطروحة تجريبيا أو مختبريا أو ميدانيا، ثم عرض وتدقيق جميع المعطيات والظروف والعوامل والمصادر التي أحاطت بتلك التجربة لكي يتمكن علماء آخرون من تمحيص النتيجة وتطوير التجربة لاحقا.

عصر المعرفة

إذا كانت عملية إنتاج المعرفة تعتمد على وجود المعلومات بصورة وافرة، وإذا كانت عملية الاستقراء تعني التجريب والجانب الملموس أكثر من أي شيء آخر، فإن الملاحظة المهمة هي أن الظواهر الاجتماعية لا يمكن تلخيصها كما يتم تلخيص الظواهر الطبيعية. فالنشاط السياسي - مثلا - يعتمد على الإنسان وكيفية إدارة شئونه. والإنسان ليس كالأشياء. «فالأشياء» الجامدة والحيوانات والنباتات يمكن إجراء التجريب وأساليب المختبر عليها بصورة علمية صارمة، أما الإنسان فليس وسيلة لإجراء التجارب. إنه الهدف الذي من أجله تجرى التجارب. ولذلك فإن المفكرين يطرحون مفهوم الإدارة المعرفية للشئون الإنسانية والتي تعتمد على الجوانب الثقافية والمؤثرات السلوكية على الإنسان.

بمعنى آخـــر، إنها تتعامل مع «الذكاء الاجتماعي»، «رأس المال البشري» الذي يتكـــون من مجموعة إنسانية تتعامل مع بعضها بعضا وتشترك في إدارة شئـــونها عبر وسائل إنسانية لائقة بها. ولتوضيــــح أهمية الجانب المعرفي فإن أكثر من نصف الإنتاج في الــدول المتقـــدمة خلال السنوات الماضيـــة اعتمــد على الاقتصــاد المعـــرفي(KNOWLEDGE - BASED ECONOMY) أي ذلك الاقتصاد القائم على العامل الإنساني المتداخل والمسيطر والمستخدم تكنولوجيا المعلومات.

وهناك فرق رئيسي بين الذي يشغل هذا الاقتصاد المعرفي وبين الفرد الذي اعتمد عليه الاقتصاد الصناعي. الأخير اعتمد على صاحب رأس المال وعلى العامل الذي يكدح من أجل الحصول على معاش يومي أو أسبوعي أو شهري. أما الاقتصاد المعرفي فيعتمد على أصحاب المهارات وليس أصحاب الأموال... على أصحاب العقول العملية، وهؤلاء ليسوا عمالا أو موظفين، إنما هم تلاميذ معرفيون، يشتغلون في المعرفة، ومشغلون معرفيون (Knowledge - Worker) على حد تعبير المفكر بيتر دركر. وسنترجم مصطلح بيتر دركر إلى «الإنسان المعرفي».

الإنسان المعرفي

العالم المتطور يسير بسرعة ويزداد تطورا لأنه دخل «عصر المعرفة» الذي يقوده «الإنسان المعرفي»، ذلك الإنسان المكتمل الحقوق والذي يستطيع أن يشغل المعرفة العملية التي يستفيد منها الناس في كل المجالات. والبحرين تعتبر من البلدان المؤهلة للدخول إلى عصر المعرفة؛ لأن الاقتصاد المعرفي يقوم على الموارد البشرية المتدربة والمتطورة والداخلة في سوق عمل تنتج مستوى معيشة مرتفعا يتناسب مع تطلعات الناس في عصرنا الحاضر.

العصر المعرفي يقول إن أهم الإمكانات وأهم مصادر الثروة هي «الخبرة» التي يختزنها الإنسان وينفذها في حياته اليومية. والعصر المعرفي يقول إن الأرض (الاقطاع) وحتى المكائن والمصانع ليست أساس التقدم وإنما الإنسان الذي يعيش حرا على الأرض، والإنسان الذي يقود المصانع والمؤسسات الخدمية، هو الأساس.

في العصر المعرفي يستطيع قلة من البشر أن يقدموا للإنسانية منتجات وخدمات تعادل مئات وآلاف المرات ما كان يقدمه الأفراد في العصر الزراعي (الإقطاعي) وكذلك في عصر الصناعة.

ولكي ننتقل إلى عصر المعرفة علينا أولا أن نقاوم محاولات إرجاعنا إلى عصر الاقطاع وأن نطرح بقوة مفهوم «الإنسان أولا»، وأن نتحدث بلغة يقبلها العصر المعرفي، مثل «الحكم الصالح» و«الحقوق الكاملة للأفراد والجماعات»، وضمان تساوي الفرص أمام الجميع، فإذا كانت هناك أرض فهي للجميع لكي يستفاد منها في إقامة مجتمع عادل يشعر فيه الناس بالمساواة أمام القانون، ويشعر الناس فيه بكرامتهم لأنهم يحصلون على حقوقهم مقابل ما يعطونه من أنفسهم لوطنهم.

المجتمع المعرفي

المجتمع المعرفي يقوم على احترام الإنسان وتوفير كل الوسائل لتنمية مواهبه الابداعية، وذلك يشمل تطوير تسهيلات الوطن بحيث يفتح المرء عينيه كل يوم وهو يستبشر بالخير ويستعد لبذل جهده واكتساب معيشته من خلال الخبرات التي يقدمها في مجال عمله. المجتمع المعرفي يتطلب معاهد ومؤسسات توفرها الدولة لكي تلتقط أفضل العقول وتفسح المجال أمامها لتطوير قدراتها ومن ثم تمكنها من تسلم المواقع القيادية اقتصاديا وسياسيا.

المجتمع المعرفي سنجده حاليا في دول مثل كوريا وسنغافورة وفي مدن هندية مثل بنغلور وغيرها. وهذا المجتمع يصعد إلى الأعلى ويتطور بشكل متسارع يذهل المراقبين.

أما الذين يفضلون العودة إلى المجتمع الاقطاعي فإن مصيرهم إلى الدرك الأسفل من الركب الإنساني، لأن الاقطاع يقوم على الجشع وعدم الاكتفاء بقطعة أرض واحدة، وعليه فإننا نرى أن بلادنا يتم اقتطاعها كل يوم وأصبح المواطن من دون ساحل ومن دون حديقة عامة ومن دون أية تسهيلات بسيطة تتوافر هذه الأيام حتى في البلدان الفقيرة.

العودة إلى الاقطاع تعني أساسا القضاء على ثروات الوطن، وتعني القضاء على المحتوى الإنساني للوطن، لأن الاقطاع يعتبر الأراضي المملوكة ملكا خاصا وأمرا مقدسا يمكن أن يضحى بالوطن والمواطن من أجله.

الخروج من الاقطاع يتطلب أن نفهم أن العالم لم يعد يرحم الذين لا يلتحقون بركبه المعرفي، كما يتطلب أن يكون هناك قانون واحد وعادل يطبق على الجميع من دون استثناء.

رأس المال البشري

في العادة، عندما يتحدث أحد ما عن «رأس المال» ينطلق التفكير نحو المال والنقد، ولكن «رأس المال البشري» أمر يختلف جوهريا عن كل ذلك، وأصبح الآن سر النجاح لأية أمة. فسبب قوة البحرين في القطاع المصرفي هو أن 75 في المئة من العاملين في القطاع المصرفي بحرينيون، وهؤلاء هم «رأس المال البشري» الذي تبحث عنه الصناعات الاستراتيجية.

وعملية تنمية رأس المال البشري تحتاج إلى تعليم وتدريب، وتحتاج إلى رعاية صحية، لأن «العقل السليم في الجسم السليم». والأهم من ذلك أستمرارية التعليم والتدريب على مدى حياة الإنسان. الاقتصاد المعرفي الذي يقود العالم يصر على هذا المفهوم ويطبقه على جميع الناس، بمختلف أعمارهم ومستوياتهم، وهو المفهوم نفسه الذي طرحه الرسول (ص) قبل أربعة عشر قرنا «اطلبوا العلم من المهد إلى اللحد».

سابقا كان الشخص الذي يحصل على شهادة الثانوية يعتبر متعلما، أما اليوم فحتى شهادة البكالوريوس لم تعد تكفي لكي يصبح المرء قادرا على القيام بمهماته في اقتصاد ينمو أساسا على مقدار المعرفة التي يمتلكها الإنسان، أي «رأس المال البشري».

والبحرين استطاعت أن تحقق نجاحات مشهودة في القطاعات التي يطلق عليها مسمى الاقتصاد المعرفي، مثل القطاع المالي، لأن «رأس المال البشري» قوي في البحرين في هذا المجال، ولذلك تعززت الخدمات المالية على رغم كل الظروف التي مرت بها البحرين والمنطقة. وهذا يرشدنا إلى أن نتجه إلى تنمية الموارد البشرية على أساس استراتيجي يستهدف خلق قدرات متطورة في قطاعات نستهدفها بالذات.

الحديث الذي يدور في البحرين سواء كان عن «إصلاح سوق العمل»، وعن طرح رؤية أخرى بشأن التعليم والتدريب يتجه نحو ثقافة تطوير «رأس المال البشري»، بحيث يصبح تطوير الموارد البشرية «واجبا عينيا» على الجميع، وماع علينا سوى أن نسترشد بالنجاحات المتوافرة أمامنا لكي نعممها في جميع المجالات ضمن خطة وطنية استراتيجية نأمل ألا يطول انتظارها أكثر مما انتظرنا حتى الآن.

مؤشرات الاقتصاد المعرفي

بما أن «المعرفة» تفترض وجود «الإنسان المعرفي» يتعامل مع مصادر المعلومات فإن مؤشرات الاقتصاد المعرفي تتوزع على أمور، مثل: عدد أجهزة التلفزيون «الرقمي» في المنازل، وعدد الجامعيين، وعدد مستخدمي الكمبيوتر، وعدد الداخلين على الإنترنت، وعدد قارئي الصحف، وعدد خطوط الهواتف، وكلفة الهواتف الدولية (كلما قلت كان أفضل)، وعدد الهواتف المحمولة، ومقدار استخدام الأجهزة الالكترونية في مختلف شئون الحياة، وعدد خبراء البرامج الإلكترونية والتقنية العالية، وعدد المصانع والشركات العاملة في حقل تقنية المعلومات والاتصالات، وعدد خريجي التخصصات الهندسية والفنية، وعدد الشركات التي توفر خدمة الإنترنت، وسهولة (و مجانية) الدخول على الإنترنت، والتشريعات التي تشجع على المنافسة وتمنع الفساد، وعدد العاملين في البحث العلمي والتطوير، ومستوى الانفاق الحكومي على قطاع تقنية المعلومات، ومستوى الانفاق على التعليم والتدريب... إلخ.

«الاقتصاد المعرفي» هو الاقتصاد الذي يلعب فيه الإنسان المشغل للمعرفة، بمعنى آخر الإنسان المعرفي، دورا رئيسيا من خلال خلق المعرفة والاستفادة منها بما يمكن الإنسان المعرفي من تنمية الحركة الاقتصادية.

الإقتصاد المعرفي يمثل حاليا 60 في المئة من مجموع القطاعات المنتجة في الولايات المتحدة الأميركية، وهي التي تتصدر العالم في الاقتصاد المعرفي (من ناحية الحجم).

ما نحن بحاجة إليه في البحرين هو الإنسان المعرفي وليس الأيدي العاملة الرخيصة و«الفري - فيزا». الإنسان المعرفي هو الشخص الذي حصل على التعلم المناسب ولديه التدريب العملي والخبرة الحياتية ويستخدم تكنولوجيا المعلومات بصورة أساسية لممارسة مختلف الأنشطة، ذلك لأن تكنولوجيا المعلومات هي التي تزيد الفاعلية وترفعها إلى مستوى الدول المتقدمة، ومن دونها تنخفض الإنتاجية.

الإقطاع والريع النفطي يعرقلان الاقتصاد المعرفي

كما تقدم فإن الاقتصاد المعرفي هو الذي يعتمد على «الخبرة» الإنسانية المتطورة في مختلف المجالات، وهو أرقى أنواع الاقتصاد وهو ينمو بدرجات مرتفعة لارتفاع القيمة المضافة في العمل الناتج عنه سواء كان سلعة أم خدمة. في مقابل الاقتصاد المعرفي هناك أنواع أخرى من الاقتصاد، ومن تلك الأنواع الاقتصاد القائم على معادلات بسيطة. مثلا، في الماضي كان الاقتصاد الاقطاعي يعتمد على معادلة تتحدث عن رب الأرض الذي يجني كل الأرباح من زراعة تلك الأرض في مقابل أناس يعملون كالعبيد «أو مايشبه العبيد، مثل «السخرة» داخل الأرض من أجل أن يحصلوا على لقمة عيش يوميا. هذا الاقتصاد الاقطاعي بسيط ويحقق ثروات هائلة لصاحب الأرض وسيد الاقطاع بينما يستعبد البشر. وهذا النوع من الاقتصاد استغلالي وغير إنساني ولذلك رفضته وترفضه الإنسانية.

اقتصاد بسيط آخر هو الاقتصاد «الريعي»، وهو الذي يعتمد على «ريع» تحصل عليه هذه البلاد أو تلك من موارد مثل الذهب أو النفط. هذا الريع يوفر مصدرا للثروة التي تستمر في العادة لمدة أقل من قرن ثم تبدأ بالنضوب أو تبدأ معادلتها بالاختلال. وكانت دول أميركا الجنوبية دولا ريعية تعتمد على الذهب الذي استخرجته إسبانيا في القرنين الخامس عشر والسادس عشر الميلادي وأنفقته في حروبها مع أعدائها الأوروبيين الذين كانوا ينافسونها على المغانم من المستعمرات آنذاك.

ذهب أميركا الجنوبية جعل إسبانيا من أغنى الدول لمدة خمسين عاما (في القرن السادس عشر) قبل أن يبدأ بالنضوب وتبدأ عظمة إسبانيا بالأفول. وهكذا الحال بالنسبة إلى الدول النفطية التي أصبحت خلال خمسين السنة الماضية من الدول الغنية بفضل هذا «الريع»، ولكنه الآن أصبح يعيق التحول الى الاقتصاد المعرفي في الحالات التي ينعدم فيها الحكم الصالح.

الاقتصاد المعرفي يختلف عن تلك النماذج الأخرى لأنه يعتمد على «الخبرة» التي يختزنها عقل الإنسان، وليس على الذهب أو النفط أو الأيدي العاملة الرخيصة أو الـ «فري فيزا» ... الخ. والمعرفة هي «العلم العملي» الذي ينتفع به الإنسان، وهو الذي تحدثت عنه مصادر التراث الإسلامي من أن العلم يزداد مع الإنفاق بعكس المال الذي ينقص مع الإنفاق. الاقتصاد المعرفي يعتمد على التدريب المتطور والخبرات الفائقة التي يكتسبه الإفراد وتتراكم في المجتمعات لتسيير العملية الاقتصادية، بحيث تتمكن دولة صغيرة مثل سنغافورة لا تمتلك ثروات طبيعية (ليس لديها اي ريع) أن تنافس الدول المتقدمة في مستوى معيشة مواطنيها.

الاقتصاد المعرفي يتطلب أن تتوجه الاستثمارات إلى مشروعات تتطلب خبرات متطورة في مختلف المجالات كتقنية المعلومات، الطب، التعليم، التدريب، الإعلام (بمختلف أنواعه)، الإعلان، الاستشارات، تطوير المنتجات والخدمات، البحوث، سوق المصارف والتأمين، التجارة الإلكترونية، وكل شيء يرتبط بالمعاملات الذكية، ومختلف الأنشطة التي تتطلب من القائمين عليها شهادات أكاديمية وخبرات عملية واسعة.

هذا الاقتصاد المعرفي يعني أن العمالة غير الماهرة والرخيصة ليس لها إلا مجال محدود جدا، وأن الذين لا مهارة لهم يجب أن يسندهم المجتمع عبر تدريبهم وتصعيد مهاراتهم ورفع مستوى معيشتهم وعدم القبول بأن يعيش البعض (سواء كانوا مواطنين أم وافدين) دون مستوى معين من المعيشة لأن في ذلك انهيار لمفهوم العدالة، وعندما تنهار العدالة ينهار النمو المستدام في المجتمع والاقتصاد.

اقتصادنا البحريني

اقتصادنا البحريني حاليا خليط من عدة أنواع، بعضها متطور وبعضها الآخر متخلف. فلدينا «الاقتصاد المعرفي» الذي يحركه «الإنسان المعرفي»، ولكن قيادة الاقتصاد الوطني مازالت ليست لهذا القطاع على رغم أن لدينا الخبراء «المعرفيين» في القطاع المالي والمصرفي والتأمين والاتصالات والاستشارات والعلاج الطبي المتطور «زراعة الكلى مثلا» وبعض جوانب التقنية العالية في ألمنيوم البحرين والبتروكيماويات وغيرهما.

لدينا «الاقتصاد الريعي» الذي يعتمد على توافر كمية لا بأس بها من «ريع» النفط. وهذا المصدر تبتلع أكثرية موارده موازنة الحكومة التي توظف أكثر من 35 أالف شخص بالإضافة إلى الموازنة العسكرية والأمنية المنفصلة عن الخدمة المدنية.

من الغريب أيضا اننا في القرن الحادي والعشرين ولكن لدينا «الاقتصاد الاقطاعي» الذي يعتمد على تقاسم الأراضي بين فئة محدودة من الناس يقومون لاحقا بالمتاجرة بها، وهم بذلك يقضون على (أو يشفطون) ما يحصل عليه المواطن من دخل مازال محدودا بالنسبة إلى الأكثرية.

لدينا «الاقتصاد الاستعبادي» الذي يتمثل في استجلاب الأيدي العاملة الرخيصة من شبه القارة الهندية. الاقتصاد الاستعبادي ساهم بشكل أساسي في خفض معدل دخل المواطن بنسبة 19 في المئة خلال الاثنتي عشرة سنة الممدة حتى 2003، بحسب دراسة ماكينزي. هذا الاقتصاد الاستعبادي سهل على الاقتصاد الإقطاعي أن يلتهم ما يتوافر من ثروة في البلاد لدفنها في تربة الأرض أو تصديرها إلى المصارف الخارجية.

لدينا «الاقتصاد التقليدي» وهو مهدد باستمرار ومضغوط بين الاقتصاد المتطور «المعرفي» والاقتصاد المتخلف «الاقطاعي والاستعبادي».

استراتيجية الانتقال إلى الاقتصاد المعرفي

الحديث عن ضرورة تحويل الاقتصاد البحريني من اقتصاد مثقل بالأيدي العاملة الرخيصة «اقتصاد استعبادي»... ومن اقتصاد يقوده ملاك الأراض والسواحل «اقتصاد اقطاعي» الى انموذج «الاقتصاد المعرفي» الذي يقوده «الإنسان المعرفي» يحتم علينا ان نتخلص من المعوقات وكل ما يقف عقبة امام انتقالنا إلى العصر الرقمي (المجتمع المعرفي).

كندا من الدول الناجحة في تطوير اقتصادها ومجتمعها بحيث أصبحت تعتمد الأنشطة الاقتصادية المعرفية. فكندا طرحت في العام 1995 استراتيجية بعنوان: «إعداد كندا لعالم رقمي» تحدثت عن خمسة أسس للاستراتيجية المعلوماتية، وهي:

أولا: إنشاء شبكات الكترونية واسعة ومرتبطة ببعضها بعضا وقابلة للتشغيل المتداخل والمشترك.

ثانيا: تعاون القطاعين العام والخاص لتنمية تقنية المعلومات المعتمدة على «Super-Information Highway».

ثالثا: حماية الخصوصية والسرية في شبكات المعلومات ومكافحة القرصنة الالكترونية.

رابعا: فسح المجال للتنافس في التسهيلات والمنتجات والخدمات في تقنية المعلومات.

خامسا: تبني سياسة التعليم والتدريب المستمر طوال الحياة.

وعلى هذا الأساس قامت الحكومة الكندية بربط جميع المدارس وجميع المناطق بـ «شبكة المعلومات الاستراتيجية». وفي العام 1999 استثمرت الحكومة 1200 مليون دولار في مشروعات تقنية المعلومات خصصت 134 مليونا للقطاع التعليمي بهدف توصيل 16000 مدرسة و3400 مكتبة عامة بشبكة الانترنت.

أما جزيرة سنغافورة (مساحتها أصغر من البحرين بقليل وعدد سكانها أكثر من البحرين بسبع مرات) فقد اعتمدت على تقنية المعلومات من أجل زيادة إنتاجية القطاعات الاستراتيجية مثل المصارف والمواصلات والصناعات الكيمائية والخدمات والحكومة الإلكترونية... الخ. سنغافورة طرحت استراتيجيتها لتقنية المعلومات في العام 1986 وأعادت تجديدها في العام 1992 وطرحت حينها مفهوم تحويل سنغافورة إلى «الجزيرة الذكية».

وفي العام 1997 كانت عائدات تقنية المعلومات في سنغافورة وصلت إلى 7300 مليون دولار وشملت مبيعات الأجهزة والبرامج والخدمات. وحاليا فإن الغالبية العظمى من منازل السنغافوريين موصلة بشبكة المعلومات الوطنية، وهي شبكة واسعة ولديها سعة كبيرة جدا لتخزين ونقل المعلومات. وفي العام 2001 وضعت الحكومة السنغافورية جميع خدماتها على الانترنت ونصف المؤسسات التجارية دخلت في مشروع التجارة الإلكترونية.

الحكومة السنغافورية لديها برامج تدريبية لكل المواطنين لتعليمهم على استخدام الكمبيوتر على أمل تجهيز كل المنازل الكترونيا إلى مستوى 100 في المئة بحيث لا يوجد منزل أو شخص في سنغافورة إلا ويعرف كيف يتعامل مع الكمبيوتر، ويخلص المعاملات اليومية التي يود تخليصها عبر الكمبيوتر. المكتبات العامة تنتشر في كل مكان وتوفر التعليم والتدريب وتسهل على الناس التواصل والاتصال عبر الانترنت، وسنغافورة تنافس فنلندا في الاقتصاد المعرفي.

إذا كانت سنغافورة تصف نفسها بـ «الجزيرة الذكية» وتعرف بالضبط ماذا تريد ومساحتها أصغر من مساحة البحرين بينما عدد سكانها أكثر من عدد سكان البحرين بسبع مرات فإننا بالتأكيد نستطيع أن ننتقل إلى الاقتصاد المعرفي، ولكن ليس قبل أن يتم توضيح الاستراتيجية الاقتصادية والأنموذج الذي نبتغيه... وامتلاك الإرادة لتغليب مفهوم «المعرفة» على مفهوم «الاقطاع» والمفاهيم القديمة الأخرى. §

العدد 1822 - السبت 01 سبتمبر 2007م الموافق 18 شعبان 1428هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً