العدد 1959 - الأربعاء 16 يناير 2008م الموافق 07 محرم 1429هـ

أولمرت ومجزرة «حي الزيتون»

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

المجزرة التي ارتكبتها حكومة تل أبيب أمس الأوّل في غزّة (حي الزيتون) لا يمكن قراءة أسبابها في الدوافع السياسية فقط. فالسياسة جزء من الصورة بينما الأيديولوجيا تشكل الجزء الآخر الذي يحرّك السلطة ويدفعها إلى الثأر والانتقام والعدوان.

سياسيا تأتي المجزرة في إطار تحوّلات يمكن رؤية فصولها في الأشهرالمقبلة. فحكومة ايهود أولمرت تمرّ في مجموعة مآزق يتوقع ألاّ تخرج منها سالمة في نهاية المطاف. فهناك أوّلا مأزق التسوية وهذا لا تستطيع التهرّب منه من دون تأسيس وقائع ميدانية تستهدف تغيير المعادلة على الأرض سواء على مستوى التوطين وتوسيع المستوطنات أو على مستوى تطوير آليات العدوان بقصد التصفية البشرية وحصد أكبر كمية من الضحايا. وهناك ثانيا مأزق الإخفاق وهذا الاستحقاق الذي اقترب موعده لا يمكن الالتفاف حوله من دون اتباع نهج العنف الذي يولّد المزيد من التطرف والعداء والاقتتال ويعطل احتمالات تسوية تشترط الانسحاب والتراجع حتى تتوافر لها سبل النجاح. وهناك ثالثا مأزق الائتلاف الذي بات يهدد الحكومة بالسقوط في حال تواصل خروج القوى الحزبية التي تمثل واسطة العقد السياسي في «الكنيست».

المجزرة في غزّة جاءت تردعلى حاجات داخلية تتمثل في نقاط ثلاث. الأولى التهرّب من المفاوضات والابتعاد عنها قدر الإمكان؛ لأن منطق التسوية مهما تكن سلبياته سيضغط في النهاية على تل أبيب وسيضعها أمام استحقاق الانسحاب من الضفة (أوبعضها) وبالتالي القبول بتفكيك المستوطنات وإخراج المستوطنين من الأراضي المحتلة.

الثانية الالتفاف على تقرير لجنة «فينوغراد» الذي يقرأ إخفاقات العدوان على لبنان ويحمل الحكومة مسئولية الفشل وهذا سيضع أولمرت أمام امتحان يرجح أنْ يسقط فيه مهما تشاطرأو تحايل على الوقت. والثالثة إثارة فوضى عامّة تثير الرعب وتشد الانتباه إلى مشكلات تطغى على اهتمام الرأي العام بأزمة وزارية تهدد الائتلاف بالانهيار وخصوصا بعد أن أعلن رئيس حزب «إسرائيل بيتنا» الوزير افيغدور ليبرمان أمس رسميا انسحابه من الحكومة الائتلافية. فالانسحاب يعني بداية التآكل الداخلي لحكومة تعتمد على توازنات برلمانية غير مستقرة.

هذه الحاجات الثلاث تكشف عن معضلة أيديولوجية تعاني منها الدولة العبرية. حكومة أولمرت التي خاضت الحروب المتواصلة وانتهجت سياسة العدوان وقطعت أوصال لبنان وحطمت القطاع متهمّة بالإخفاق والفشل والتقصير وعدم القيام بالواجب السياسي (العسكري) على أكمل وجه. والحكومة التي قررت توسيع المستوطنات وبناء المزيد من الوحدات السكنية واستجلاب المستوطنين وتهديد سكان البلاد بالطرد والاقتلاع والترحيل متهمة بالخيانة والتساهل والقبول بمبدأ التفاوض وابداء الاستعداد للانسحاب الشكلي من بعض المناطق تجاوبا مع رغبات دولية ظهرت في «مؤتمر انابوليس».

حكومة القاتل اولمرت (مجزرة قانا، ومذبحة غزّة) متهمّة من جانب «إسرائيل بيتنا» و«شاس» بالضعف وعدم استخدام القوة والتردد في اتخاذ قرارات حاسمة في مواجهة الخصوم والأعداء. وبسبب إخفاقها هذا فهي مهددة بالسقوط من جهتين: تقرير «فينوغراد» الذي يرى أنها غير قادرة على تحمل مسئولياتها السياسية. وتفكيك الائتلاف بذريعة أنّ الحكومة تفاوض سلطة محمود عباس وتبدي استعدادها لتقديم تنازلات حتى لو كانت بسيطة وشكلية.

هذا يعني أنّ «إسرائيل» دولة محكومة بالتطرف، وهي لا تستطيع أنْ تقتنع بمبرر وجودها إلا إذا استمرت في تطوير التطرّف والاعتماد على آلياته وسيلة وحيدة للبقاء. ومثل هذه المشكلة الوجودية تعطي إشارات خاطفة عن مدى استعداد دولة أيديولوجية للتفاهم مع الشعب الفلسطيني أوالتعايش مع المحيط. أولمرت القاتل يتعرّض إلى هجوم سياسي؛ لأنه أخفق في جرائمه وهو مطالب بالتنحي والاستقالة على رغم ما ارتكبه من مجازر في قانا (لبنان) وحيّ الزيتون (قطاع غزّة). فكلّ حمامات الدم هذه لم تقنع «الليكود» بأن هذا الحد من التطرّف وصل إلى اقصاه وبالتالي فإنّ المزيد منه يعني فتح الأبواب أمام شلالات لا تنتهي.

الدول العربية إذا أمام مشكلة لا حلّ لها. فهي بذلت ما في وسعها وبادرت بالسلام واستعدت للتفاوض ولم تلقَ حتى الآنَ سوى تلك الردود الدموية على الأرض... وهي ردود على رغم إفراطها في العنف لم تجد من الأحزاب الإسرائيلية سوى كيل الشتائم لحكومة أولمرت واتهامها بالضعف والتقصير والإخفاق والفشل.

أبعد من السياسة

المشكلة أبعد من السياسة. وهذا هو الوجه الآخر للدولة الإسرائيلية. الوجه الآخر يتمثل في الأيديولوجية ويتركّز في هاجس الخوف واعتماد العنف وسيلة لطرده. المجزرة التي ارتكبتها أمس الأوّل حكومة أولمرت في قطاع غزّة وذهب ضحيتها عشرات الشهداء والجرحى تعتبر حلقة في سلسلة ممتدة في عمق الدولة العبرية منذ إعلان تأسيسها. والمصاب الذي نزل في اليومين الماضيين في غزّة والضفة يؤكد العنوان الدائم لنكبة الشعب الفلسطيني منذ العام 1948.

تاريخ «إسرائيل» يتشكّل سياسيا من أيديولوجية عنصرية تعتمد منهج الحروب الدائمة في اعتباره واسطة للالغاء من طريق العنف الدموي. وهذه الأيديولوجية تشكل قاعدة لسياسة «الدولة» بغض النظرعن الطرف الحزبي الذي يسيطر على السلطة ويتخذ القرارات. فالأيديولوجية ثابتة وهي تمثل ذاك الغطاء الذي يبرر سياسات القتل والجرف والاقتلاع والطرد. وفي هذا السياق العام لا تختلف حكومة أولمرت عن غيرها. فهذه التشكيلة الوزارية المختلطة قامت في ربيع 2006 بتحطيم القطاع بذريعة خطف جندي إسرائيلي، ثم قامت في صيف 2006 بتقطيع أوصال لبنان بذريعة أسر جنديين من على الحدود، ثم قامت بتسجيل اجتياحات محدودة في الضفة والقطاع قبل انفصال «حماس» عن «فتح» ثم كررت الاجتياحات الجوية والبرية بعد انقسام السلطة الفلسطينية إلى حكومتين. وبعد الانقسام لم توفر حكومة أولمرت منطقة في الضفة وغزّة من اعتداءاتها المستمرة بغض النظرعن اختلاف القراءات التي تعتمدها أدبيات «فتح» و«حماس».

العنف في الأيديولوجية الصهيونية يشكل مادة حارقة لتحريك آليات الدولة. وبرأي الحكومات أنه القوّة الضاربة أو تلك الوقود التي لا يمكن الاستغناء عنها في تمديد حياة الدولة. فالأيديولوجية التي تحرك قرارات السلطة تعتمد القوة؛ لأنها تعتقد أنّ العنف الدموي يغيّر التاريخ ويعيد هيكلة المعادلات حتى تتناسب مع نزعة تقوم على ثنائية الخوف والتخويف. الخوف الأيديولوجي يستتبع التخويف. والتخويف يشكّل الرد السياسي لمنع الانهيار وطرد شبح الخوف.

المسألة لا تقتصر على الأيديولوجية (مرض الخوف) وإنما تمتدّ إلى السياسة بصفتها تشكل ذاك الوعاء الذي يبررللدولة القيام بمهمات تقوّض الآخر وتمنعه من التمتع بالحياة والتكيّف مع شروطها ومتطلباتها التي تجلب للإنسان الاستقرار والسعادة. فالخوف حتى يستقيم لابدّ له من تخويف الآخر وتعريضه إلى الخطر الدائم من خلال تقطيع أوصال حياته ودب الفوضى بين أهله وتقويض عمرانه. ولهذه الأسباب تتجّه آلة الحرب الإسرائيلية دائما إلى اعتماد أساليب التحطيم وسيلة لإرضاء النفس وترويض مرض الخوف. فهذا مافعلته في القطاع وكررته في لبنان ثم عادت لممارسته في الضفة والقطاع ثم القطاع والضفة ولا يستبعد أنْ تتبعه مجددا في لبنان أو في أيّ مكان آخر.

هذا الرهاب النفسي لا يهدأ من دون قتل الآخر وإشباع الذات بالتلذذ على ضحايا يتساقطون في المقلب الثاني. ومثل هذا الرهاب يصعب التعامل معه؛ لأنه يتأسس أصلا على قواعد أيديولوجية لا تقرأ من السياسة سوى أنها إداة عنف. والعنف حتى يستوي على معادلة لايقر للآخر بحقه في الوجود والاستقرار.

مجزرة حيّ الزيتون في غزّة يمكن أنْ نقرأ عناصرها في السياسة (الخوف من التسوية، الاتهام بالإخفاق، واحتمال تفكك الائتلاف الوزاري). إلا أن القراءة السياسية تبقى قاصرة إذا لم تتجه نحو تحليل الدوافع الأيديولوجية وما تعنيه من عناصر ضغط لا تقبل بأقل من الانتصار الشامل للذات الخائفة والهزيمة المطلقة للطرف الآخر.

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 1959 - الأربعاء 16 يناير 2008م الموافق 07 محرم 1429هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً