العدد 2283 - الجمعة 05 ديسمبر 2008م الموافق 06 ذي الحجة 1429هـ

حقوق الإنسان ترتبط بالفطرة وتدفع نحو الديمقراطية

ربما كانت أكثر المفاهيم تعقيدا وحساسية هي تلك المتعلقة بموضوع حقوق الإنسان. إذ إنّ هناك ترابطا وثيقا بين مفهوم «الحرية» و«الحقوق». فهناك مَنْ يفسر «الحرية» على أنّها التحرر من كلّ القيود، وأنّ الشخص لا يخضع لأيّ ضغط خارجي لإجباره على التصرّف بطريقة معيّنة. ويرتبط بهذا المعنى مفهوم «الاختيار». ولكن «الاختيار» له حدود، فلو وضعت أمام الشخص كأسا من اللبن وكأسا فارغة فإنّ ذلك يختلف فيما لو خيّرته بين عدد من أنواع اللبن.

الحقوق هي أمور مستوجبة للإنسان، وتعريف ما هو مستوجب للإنسان بصورة «طبيعية» هو من أعقد الموضوعات الفلسفية بين مختلف الأيديولوجيات. هناك الفلسفة التي تقول إنّ للإنسان حقوقا «طبيعية» مرتبطة بكونه إنسانا، وإنّ هذه الحقوق الطبيعية تسمى حقوقا أساسية «Basic Rights». وقد حدد الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في مادته الثالثة الحقوق الأساسية بأنّها «الحق في الحياة، وفي الحرية، وفي الأمان الشخصي».

من الناحية التاريخية، فإنّ الأفكار الرئيسية في منظومة حقوق الإنسان مثل: حرية الكلمة، والتعبير عن الرأي، حرية الاجتماع والسواسية،... الخ، تعتبر من تلك المفاهيم التي لا يمكن لأيديولوجية دينية أو غير دينية عدم الاكتراث بها.

فلو رجعنا إلى عناوين رئيسية في الفكر الإسلامي نراها تتفق مع المبادئ المطروحة في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان. مثلا: «الناس سواسية كأسنان المشط»، «لا فضل لعربي على أعجمي ولا لأعجمي على عربي، ولا لأبيض على أسود، على أبيض إلاّ بالتقوى»، «لا تكن عبد غيرك وقد خلقك الله حرا»، «إيّاكم والمثلة ولو بالكلب العقور»، (وهذا تحريم كامل لجميع أنواع التعذيب)، «ما رأيْتُ نعمة موفورة إلاّ وإلى جانبها حق مضيع»، «لا إكراه في الدين»، الخ. إذا الإسلام يشترك مع الطروحات الأخرى في تقرير عدد غير قليل من الحقوق «الأساسية» للإنسان، بل إنّ الإسلام سبق غيره في اعتبار «كرامة الإنسان» أساسا من أسس الحياة، «ولقد كرّمنا بني آدم». (الإسراء: 70). والكرامة تعتبر حقا أساسيا تقرّه جميع مواثيق حقوق الإنسان، التي تقول: الإنسان يُولد حرا، كريما ومتساويا لأخيه الإنسان بغض النظر عن أيّ اعتبار آخر، كاللون واللغة وغيرهما.

الحقوق الأساسية يُشار إليها بالحقوق «الطبيعية» لارتباطها بالمدرسة القائلة بالقانون الطبيعي، والقانون الطبيعي يعني النظام الذي تتجّه له فكرة الإنسان لضمان الحقوق والواجبات الضرورية والمطلوبة؛ لتحقيق الغايات الإنسانية. والقائلون بالقانون الطبيعي يقولون إنّ الإنسان إذا لم يتعرّض لضغوط أو إكراه فإنّه سيتجّه؛ لتحقيق كرامته وسعادته.

مفهوم القانون الطبيعي فهو مفهوم قديم جدا، قبل المسيحية، وبعد المسيحية وأشار إليه الإسلام، عند الحديث عن «الفكرة». وعندما ظهر مفكرو النهضة الأوروبية اعتمدوا في كثير من أفكارهم على مفاهيم القانون الطبيعي، والحديث عن الحقوق الطبيعية ينطلق من هذا المعنى. يقول السيد محمد باقر الصدر في إحدى افتتاحيات «الأضواء» في الستينات من القرن الماضي، تحت عنوان: «رسالتنا إنسانية عالمية» مفسّرا الآية الكريمة: «فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله، ذلك الدين القيّم ولكن أكثر الناس لا يعلمون»، (الروم: 30). يقول ما نصّه «فالإسلام هو جين الفطرة الإنسانية وهو يتجاوب مع هذه الفكرة، فلا يحرفها ولا ينكرها وإنما يعترف بها. والإسلام هو دين الكرامة البشرية (ولقد كرّمنا بني آدم)...». ويقول الصدر: إنّ «الإنسان الأوروبي المعاصر» اضطر لرفض المسيحية؛ ليتحرر من النظرة المسيحية التي اتخذت من عالم الطبيعة موقفا سلبيا. ويشير السيد الصدر إلى أنّ ردة الفعل للإنسان الأوروبي دفعته إلى إقامة أنظمة فكرية؛ لتصحيح ذلك الاعتماد المسيحي، ولكنها؛ إي (هذه النظم الفكرية الحديثة) قد همشت الجانب الروحي لدى الإنسان.

انطلاقا من «الحقوق الأساسية» تنبثق منظومة من الحقوق، وهذه تم تلخيص معظم ما اتفقت عليه دول العالم في «الإعلان العالمي لحقوق الإنسان» العام 1948، وفي «إعلان فيينا العام 1993». والإعلان العالمي يحتوي على 30 مادة، تضمنت بنوده حق كلّ إنسان دون ما، تمييز بسبب العنصر أو اللون أو الجنس أو اللغة أو الدين أو النوع في الحماية القانونية واللجوء للمحاكم العادلة وحرية التنقل واختيار محل إقامته وحقه في مغادرة أيّ بلد، بما في ذلك بلده وفي العودة إلى بلده وحقه في التماس ملجأ في بلدان أخرى خلاصا من الاضطهاد وحقه في حرية الفكر والعقيدة والتمتع بحرية الرأي والتعبير والاشتراك في الاجتماعات والجمعيات السلمية، وحقه في المشاركة في إدارة شئون بلاده وفي الحياة الثقافية، وحقه في الضمان الاجتماعي والعمل بشروط عادلة. وحرم الإعلان العالمي الرق وتجارة الرقيق والاستعباد وحظر إخضاع الأفراد للتعذيب والمعاملة غير الإنسانية والحاطة بالكرامة، وحظر الاعتقال أو التفي التعسفي.

إنّ موادّ الإعلان العالمي لم تكن مفصلة، ولهذا تم تطوير عدد من الاتفاقيات والعهود الدولية وتم عرضها على الدول ومطالبتها بالتوقيع عليها كي تتمكن أجهزة الأمم المتحدة من محاسبة الدول رسميا بحسب ما تتعهد به وتوقع عليه. والمعاهدات المهمّة هي: «العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية»، «العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية»، «اتفاقية منْع التعذيب»، «اتفاقية منْع التمييز ضد المرأة»، «اتفاقية حماية الطفل»، «اتفاقية منْع جميع أشكال التمييز العنصري»، «اتفاقية حماية العمّال المهاجرين وعوائلهم»... الخ.

ولقد وافقت الدول الإسلامية على الإعلان العالمي لحقوق الإنسان - 1948 (بحكم عضويتها في الأمم المتحدة) وكذلك فقد وقعت جميع الدول الإسلامية على إعلان فيينا العام 1993، الذي أكّد «عالمية حقوق الإنسان» وعلى «حق التنمية» وكلّ الحقوق المرتبطة بهذا الحق.

«عالمية حقوق الإنسان» مفهوم مهم جدا، فلقد استخلصت البشرية درسا من الحروب والمعاناة التي ترجع في جذورها لحرمان الإنسان أخاه الإنسان من بعض الحقوق الأساسية والمدنية. والعالمية تعني أنّ الحقوق الواردة في الإعلان العالمي والمواثيق الدولية هي حقوق لكلّ البشر من دون استثناء. وفي العام 1993، وأثناء انعقاد المؤتمر العالمي لحقوق الإنسان في فيينا ثار حوار عميق بشأن موضوع «العالمية والخصوصية». الذين طرحوا مفهوم العالمية بقوّة أصروا على عدم إيجاد أي استثناءات لمنع حقوق الإنسان في أي بقعة في العالم. في المقابل كان هناك الذين تصدوا بالقول أن هناك «خصوصيات» ثقافية تمنْع من اعتبار كلّ «حق» موضوعا «عالميا.

غير أنّ الحوارات نتجت عن التأكيد على عالمية الحقوق الأساسية المشار إليها في الإعلام العالمي لحقوق الإنسان. ومن الصحيح القول إنّ الحقوق «التفصيلية» والمتفرعة من الحقوق المطروحة في الإعلان العالمي قد تصطدم بركائز ثقافية معيّنة، وتسمح المعاهدات الدولية بتعريف تلك الخصوصيات إذا وجدت. مثلا، حقوق الطفل، فإنّ الإسلام له خصوصية بشأن موضوع تبني الأطفال. ولذلك فالمواثيق الدولية تسمح باستثناء الدول الإسلامية العضو في اتفاق حماية الطفل من الموادّ المتعلقة بالتبني.

لقد دار أيضا حوارٌ عن حقوق «المجتمع» أوّلا، أو حقوق «الفرد» أوّلا. وقد طرحت المناقشات أفكارا مستمدة من الثقافات المختلفة بشأن أهمية الحرية الفردية في مقابل أهمية تنمية المجتمع أوّلا. ونتج عن ذلك الحوار إضافة حق «التنمية» كأحد الحقوق الإنسانية - الأساسية للمجتمعات، ولكن على ألا تكون التنمية الاقتصادية - الاجتماعية على حساب حقوق الإنسان الفردية. واتفق المؤتمر على اعتبار العام 1998، عاما عالميا لحقوق الإنسان للاحتفال بمرور خمسين عاما على الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر في 1948، ومرور خمسة أعوام على إعلام فيينا. على أنْ يكون العام 1998 عاما لمراجعة ما تم تحقيقه وما تم الالتزام به. وكان من نتائج مؤتمر فيينا 1993، تشكيل منصب جديد باسم «المفروض السامي لحقوق الإنسان»، الذي أعطى صلاحيات كثيرة، ولكن لم تخصص للمنصب موازنة موازية لتلك الصلاحيات.

إنّ الكثير من الحكومات خافت كثيرا مما طرح في مؤتمر فيينا 1993، وعلى الرغم من التوقيع على إعلان فيينا المهم جدا، فإنّ الحكومات بدأت تحصن نفسها من خلال القول بان لها سيادة على أراضيها»، وأنّها لن تسمح لأي طرف عالمي التدخل في شئونها بحجة الدفاع عن حقوق الإنسان.

واستخدمت بعض الدول أمثلة حول «الانتقائية» الأميركية/ الغربية في التعامل مع موضوعات انتهاك حقوق الإنسان. والحقيقة فإنّ الضحية من «الاحتجاجات» الحكومية «والانتقائية» هي حقوق الإنسان ذاتها. ولذلك فإنّ المنظمات غير الحومية أصبح دورها أكثر فاعلية بالإضافة إلى مجموعات برلمانية حرة لا تخضع للرقابة الحكومية، كلّها أصبحت أكثر فاعلية في التصدي لموضوع حقوق الإنسان.

هناك موضوعات حرجة وحقيقة مازالت موضوع نقاش غير محسوم على المستوى العالمي، وهذه الموضوعات لا يمكن معالجتها من خلال غض النظر عنها. فهناك موضوعات تتعلق بحقوق المرأة ومساواتها مع الرجل على جميع الاصعدة (وموضع جواز أو عدم جواز ضرب المرأة وشهادتها أمام المحاكم وحقها في الإرث، كلّها موضوعات تتم مناقشتها في هذا الإطار)، وهناك موضوعات تؤثر على مفاهيم ما هو صحيح وما هو خطأ بالنسبة إلى العلاقات الجنسية المشروعة مقابل غير المشروعة كالمثليين وغيرهم. غير أنّ النقطة المهمّة هنا، أنّ الداعين لأمر ما، لا يستطيعون فرضه على الآخرين على المستوى العبيد إلاّ إذا أصبح هذا الأمر «عالميا»، بمعنى أنْ تعتمده الأسرة الدولية.

وهناك الآنَ عمل دولي حثيث لجمع جميع الإعلانات العالمية وجميع المواثيق والعهود والمعاهدات الدولية في وثيقتين مهمتين وإصدارهما وتضمينهما في القانونين الدولي وهما: «القانون الدولي لحقوق الإنسان» و»القانون الدولي للتعامل الإنساني» (Humanitarian). وهذان القانونان يوفران قوّة قانونية جولية للدفاع عن حقوق الإنسان. وهناك حاليا «المحكمة الجنائية الدولية» التي من المقرر أنْ تنظر في الانتهاكات الممنهجة لحقوق الإنسان ولربما ينفسح المجال لظهور «المواطن العالمي»، وهو ذلك الإنسان الذي له حقوق معترف بها وله حماية عالمية، والدولة الوطنية لن يكون - بعد ذلك - بإمكانها انتهاك حقوق مواطنيها بحجة حماية سياجتها أو استقرارها.

كثير من الدول التي تخشى من انتشار حقوق الإنسان تسعى حاليا للقول أنّ لها الحق لمواجهة «الإرهاب». ومفهوم الإرهاب يتم تعميمه على كلّ شخص معارض سواء كانت معارضته سلمية أو غير ذلك. وتحاول كثير من الدول التركيز على حقها بالرد بقوّة على كل شخص بعارضها. غير أن المجال الآنَ أصبح «عالميا» في الحوار و»عالميا» في الصياغة. وموضوع حقوق الإنسان وتفاصيله لم ينته ولن ينتهي.

وعموما، هناك الجيل الأوّل للحقوق، وهو المتمثل بـ «العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية»، وهناك الجيل الثاني للحقوق المتمثل بـ «العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية»، وهناك الجيل الثالث من الحقوق المتمثل بـ «الحق في التنمية» وكل ما يتفرع من ذلك من الحق في البيئة النظيفة والحق في الموئل (السكن والعمران المناسبين) والحق في استخدام البحوث العلمية، ومختلف أنواع الحقوق التفصيلية الأخرى الداخلية في العنوان العام وهو «الحق في التنمية» الذي تم الاتفاق عليه عالميا في العام 1993, وهناك الآنَ من يطرح أنّ الجيل الرابع من الحق يتمثل في «الحق في السعي إلى إقامة نظام ديمقراطي تعددي متسامح»

العدد 2283 - الجمعة 05 ديسمبر 2008م الموافق 06 ذي الحجة 1429هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً