العدد 1983 - السبت 09 فبراير 2008م الموافق 01 صفر 1429هـ

صناعات الأدوية عربيا .... لا «أمان دوائيا» أمام قوّةالشمال وسيطرته على الدواء...الدواء... الذي يحييك

لا تستطيع أيّ منظومة إقليمية أنْ تحقق أيّ مكاسب سياسية أو اجتماعية حتى أمنية ما لم تكن صناعة «الدواء» تحديدا أحد عناصر تكونها الرئيسي. وعليه، قد تنجح الكثير من المجتمعات الإنسانية اليوم في أنْ تحقق أفضل نتائجها الاقتصادية في أكثر من قطاع، إلا أنّ ذلك ما لم يقترن بضمان إنتاج دوائي حقيقي فإنّ شيئا من الاستقلالية الاقتصادية لن يوجد أصلا.

هكذا، لا يمكننا أنْ نمر في قراءتنا لهذا القطاع من دون أن نعطي القارئ لمحة عن أهمية هذا القطاع الاقتصادي لا وفق معادلات الربح والخسارة فحسب، بل وبما يمتدّ لمستويات أخرى تصل حدود سلامة التكون الاجتماعي وبقائه. وهذا، ما يتصل مباشرة مع بعض الدعاوى التي تتهم الدول الغربية بتسببها في تأخيرعجلة التصنيع الدوائي في البلدان النامية عبر الكثيرمن التشريعات الدولية التي تدعمها براءات الاختراع، والتي تختفي من ورائها مطامع شركات الأدوية العملاقة في جني المزيد من الأرباح أوّلا، وبقاء هذه الدولة العاجزة عن تأمين حاجاتها الدوائية تحت رحمة الدول المصنعة سياسيا ثانيا.

وهذا أيضا، ما يجعلنا نصنف قطاع الصناعات الدوائية والصيدلانية أنها تقع ضمن نطاق أقوى الصناعات في دعم الاقتصادات الوطنية وتحقيق الأمنين السياسي والاجتماعي للمجتمعات، خصوصا إذا ما كانت هذه الصناعات تسعى إلى تقليل نسبة الأدوية المستوردة والتي في الغالب هي أدوية بالإمكان تصنيعها محليا في حال وجود مشروعات تتسم بالجدية والتخصص، وتسعى لطرح منتجات طبية ودوائية تتسم بالجودة والكفاءة اللذين يحتاج إليهما هذا القطاع الاقتصادي تحديدا.

من جانب آخر، إنّ تجارة الدواء - وهي التجارة الوحيدة التي استطاعت أنْ تقفز على إيرادات تجارة السلاح حول العالم - تتمتع أيضا بسمعة ربحية لافتة للإنتباه، وليس مفرزات الانتخابات الأميركية اليوم وتأثير لوبي شركات الأدوية في رفض التأمين الصحي الذي يسعى الحزب الديمقراطي لتطبيقه إلا دلالة من دلالات تغول هذا القطاع الاقتصادي وإحكامه السيطرة على شق مهم من العملية السياسية الأميركية، وهو ما يعني بالضرورة التدخل المباشر على مستوى السياسيات الدولية أيضا.

عربيا، يمثل تحقيق مستوى عال من الكفاءة في صناعة الأدوية والمستحضرات الصيدلانية أحد الهواجس الكبرى لدى طبقة المستثمرين ورجال الأعمال، ذلك أن سمعة الدواء العربي لازالت عند مستويات متدنية من الرضا الشعبي، خصوصا وما يصاحب بعض الصناعات الدوائية العربية من تلاعب في التصنيع جراء ضعف الأنظمة الرقابية والحالات المسجلة من الغش التجاري الذي غالبا ما كانت تبعاته خطيرة على الصحة العامة، وإذا ما قمنا باستثناء المصانع الدوائية في منطقة الخليج العربي، فإن الكثير من الصناعات الدوائية في الأردن ومصر وسورية هي اليوم أقل من أنْ تحظى بثقة المستهلك العربي. هذا إذا ما أغفلنا عوامل أخرى تكبح جماح تقدم هذه الصناعة وتعطل من نموها.

فيما تبقى حدود العملية التصنيعية في بعض الدول العربية مقتصرة على الاستهلاك المحلي غالبا، والذي يبقى هو الآخر معتمدا بشكل كبير على شركات الأدوية الأوروبية والأميركية. ورغم أنّ فرص الربحية المرتفعة نسبيا تشجّع على المضي قدما في مثل هذه المشروعات الاستثمارية إلا أنّ أسبابا أخرى تقف بالمرصاد نحو الولوج في هذا القطاع التصنيعي، منها: ضعف الإمكانات البشرية من المختصين في هذا القطاع عربيا، وحاجة هذا القطاع بالأساس لرؤوس أموال مرتفعة نسبيا، وأخيرا صعوبة تحصيل الموافقات على التصنيع الدوائي من أكثر من جهة، وتخطي الرقابة الدولية التي هي الأخرى محط جدال دائم إذ غالبا ما يتم اتهامها بالعمل وفق مصالح شركات الأدوية الكبرى في الولايات المتحدة وبريطانيا والدنمارك وألمانيا وسويسرا.

خليجيا، لا تزال الكثير من دراسات الجدوى تشير بوضوح إلى الحاجة الماسة الى «تأسيس صناعات متطوّرة بالإضافة الى تلك الموجودة حاليا، كما أنّ حقل الصناعات الدوائية واسع، والتوجة الى صناعة أنواع معينة من الأدوية لا يزال ضروريا بالإضافة الى إنتاج المواد الكيماوية المتعلقة بالصناعات الدوائية لأن الطلب عليها يزداد يوما بعد يوم خصوصا في منطقة الخليج». هذا ما تذهب له إحدى دراسات الجدوى الكويتية على الصناعة الدوائية نصا، وقبالة ذلك، تؤكد الدراسة الكويتية أنّ «الصناعة الدوائية في الوطن العربي تلبي في الدول العربية ما يعادل (47%) من الاحتياجات المحلية من المستلزمات الدوائية وتتقدم السعودية على بقية الأقطار العربية إذ أنها توفر حوالي (17%) من حجم احتياجات سوق الأدوية العربية. وعلى سبيل المثال لا الحصر، نمت الصناعة الدوائية في بعض الدول العربية لتصل الى تلبية ما يقارب الى (40%) من الاستهلاك المحلي . وتجدر الإشارة الى أنّ إنتاج الأدوية في الأقطار العربية، يتم معظمه عن طريق الحصول على تراخيص من الشركات العالمية المالكة للتقنية والحقوق الفكرية». وقبالة بارقة الأمل هذه لابدّ ألا تنتابنا حال من اليأس إنْ علمنا أنّ المواد الأوّلية لهذه العمليات التصنيعية هي مواد مستوردة، وهو ما يجعلنا عاجزين مرة أخرى عن ضمان أمان دوائي حقيقي إقليميا.

أمّا الذي لابدّ أن يكون محط الاهتمام، هو أنّ هذه النسبة 47 في المئة لا تمثل بالضرورة القيمة السعرية لما ينفقه العرب على استهلاك الأدوية، فالأدوية المتاحة حاليا من سلة التصنيع الدوائية العربية هي مقتصرة على الأدوية الرخيصة الثمن، والتي تعمد شركات إنتاج الدواء في الدول الغربية إلى السماح للشركات العربية بتصنيعها لانخفاض التكلفة ورخص الأيدي العاملة مقارنة بعمليات التصنيع في أوربا وأميركا، ومن جهة أخرى، فإنّ عمليات التصنيع هذه تشمل بعض المنتجات الدوائية التي تستطيع أيّ شركة إنتاجها من دون الحصول على ترخيص رسمي.

إلى ذلك، لا يبدو الفكاك من قبضة شركات الأدوية الدولية والمتعددة الجنسيات ذات رؤوس الأموال الكبيرة سهلا، خصوصا أنّ حقوق الإنتاج لبعض الأدوية تمنع وفق القانون الدولي تصنيع الكثير من الأدوية في الوطن العربي.

وفي هذا السياق، دعا أستاذ الصيدلة الصناعية في كلية الصيدلة بجامعة الملك سعود والمدير السابق لشركة تبوك للأدوية محمد المشعل، دعا الشركات الصناعية المتخصصة في مجال إنتاج الأدوية والعقاقير إلى «التحالف فيما بينها لتأسيس كيانات اقتصادية عملاقة تستطيع أنْ تواجه المنافسة العالمية، والتحديات التي سيفرضها المستقبل بسبب تقارب الأسواق العالمية وانفتاح الأسواق على بعضها، والسعي لتملك براءات الاختراع للأدوية الجديدة في عالم الدواء».

وأكد المشعل أهمية «اندماج الشركات الصغيرة في السعودية فيما بينها للقدرة على الاستمرار في السوق المحلية، بعد انضمام السعودية لمنظمة التجارة العالمية، واحتمال دخول استثمارات أجنبية في مجال الأدوية، مدعومة بخبرات عالمية وملكيتها للمواد الخام التي ستجعل لتلك الشركات القدرة على المنافسة في مجال الأسعار». والمشعل الذي طالب بإيجاد «التشريعات التي تضمن رفع سقف مستوى الجودة في إنتاج وتصنيع الأودية، للحيلولة من دون دخول الأدوية التي تعتمد في تسويقها على تدني أسعارها على حساب الجودة»، قدر حجم سوق الدواء في سعودية فقط بانه يقترب من «خمسة مليارات».

وعن أبرز المشكلات والصعوبات التي تواجه تطوّر الصناعة الوطنية في مجال الأدوية والعقاقير الطبية، إعتبر المشعل غياب الابتكار وبراءات الاختراع السبب الرئيس في ذلك، مضيفا:»الأدوية في العالم عبارة عن نوعين، فالنوع الأوّل محمي ببراءة اختراع، ولا يمكن لأحد إنتاجه في العالم، سوى الشركة التي تملك حق براءة الاختراع، وهو حق طبيعي تكفله الأنظمة والقوانين العالمية، بحكم أنّ الشركة المنتجة هي من ساهم في إيجاد الدواء، والتي تكفلت بدفع البحوث العلمية التي ساهمت في إنتاجه، وقد تمتد تلك البحوث إلى عدة سنوات، ويعتبر هذا النوع من الأدوية هو الأغلى والأكثر طلبا في العالم، والنوع الآخر من الأدوية هو الذي لا يمتلك أحد حق إنتاجه؛ لانتهاء فترة براءة الاختراع والحماية التي كان يتمتع بها، وهذا النوع من الأدوية متاح وسهل إنتاجه، ولا يوجد أية صعوبة تقنية في إنتاجه محليا، وفيه أيضا منافسة عالية لأن الجميع يستطيع إنتاج مثل هذه الأدوية وبالتالي ينعكس ذلك على أسعار مثل هذه النوعية من الأدوية».

وأبدى المشعل تخوفه « من القوانين والأنظمة العالمية التي سيتم تطبيقها في مجال حقوق الملكية الفكرية، وفي ظل تقارب الأنظمة وتشابهها في ظل قيام منظمة التجارة العالمية، فإنّ أغلب المصنعين للأدوية يتخوفون من أنْ تستفيد الشركات التي لديها براءات اختراع من الأنظمة العالمية في تمديد فترة الاحتكار والحماية لها، حيث انه في السابق كانت الأنظمة تعطي الشركات المنتجة والتي لديها براءات اختراع 20 عاما مدة حماية، ولكن في الوقت ذاته الشركات المنتجة الأخرى تبدأ تجاربها في إنتاج الأدوية وشراء المواد الأولية للدواء أو تشتريها للتصنيع فور نهاية مدة الحماية، غير أن الوضع الجديد قد لا يسمح لشركات الأدوية ببدء تجاربها وتطوير المواد الخام للأدوية التي لها براءة اختراع إلى حين انتهاء المدة القانونية، وهو ما يؤدي إلى تأخير إنتاج الأدوية التي انتهت مدة حمايتها إلى أعوام أخرى لحين جاهزية شركات الأدوية في تطوير المنتج، وهو ما سيزيد مدة براءة الإختراع وحمايتها بطريقة غير مباشرة».

ويقترح المشعل لحل هذه الإشكالية في الصناعات الدوائية على المستويين السعودي والعربي عبر «إتحاد الصناعات الوطنية في مجال الأدوية ليكون لها كيانات كبيرة تستطيع أن تمول الجانب البحثي لإنتاج أدوية خاصة بها وتملك براءة اختراعها، وتطوير علاقتها مع مراكز الأبحاث العالمية، حيث يوجد مراكز بحث علمية في العالم لديها أبحاث على عقاقير وأدوية خاصة لمكافحة مرض ما. ولديها الاستعداد لبيع حقوق التصنيع والتسويق لشركات الأدوية».

ويضيف «إن تغيير الوضع الراهن لصناعة الأدوية يحتاج إلى كيانات صناعية عملاقة لديها القدرة على دفع الأموال الطائلة لتمويل البحوث التي تجريها بنفسها أو عبر مراكز بحثية مستقلة، وامتلاك براءات اختراع لعدد من الأدوية المهمة والحساسة سيمكن من انتشار صناعة الأدوية المحلية في العالم، ويساهم في جعل صناعة الأدوية أحد روافد الاقتصادات الوطنية، بكل تأكيد إن الشركات ستخسر الملايين على تمللك براءات الاختراع، لكنها في النهاية ستجني بشكل عام عوائد مالية مجزية تؤدي إلى تطوير أعمال تلك الشركات وجعلها في مصاف العالمية».

خلاصة القول، أن هذا الدواء الذي يحقق ضمان الحياة لمجتمعاتنا النامية، هو أيضا أداة للقتل ما إذا كانت مجتمعاتنا ستبقى عاجزة عن تصنيعه بنفسها، وخلاف أن يتم إعتبار مثل هذا الإطلاق تبشيرا بحرب دوائية عالمية فإنه أيضا، تحذير ودعوة لهذه الدول النامية في أنْ تخطو بجدية في سياق إعادة خططها الاستراتيجية بما يتصل بتحقيق أمان دوائي يستطيع أنْ يعطيها القدرة والديناميكية على المسير في خطط التنمية الإنسانية المستدامة بقوّة ووضوح من دون خوف أو قلق من أنْ تتعرض هذه الشعوب لمجاعات دواء قد تحدث في أية لحظة.

العدد 1983 - السبت 09 فبراير 2008م الموافق 01 صفر 1429هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً