العدد 1983 - السبت 09 فبراير 2008م الموافق 01 صفر 1429هـ

يدفع فيها بنو الإنسان 500 مليار دولار سنويا... تجارة الأقراص المرّة

يتحرك ملف الصناعات الدوائية في أطر عدة، وتتشعب القراءات السياسية والاقتصادية لهذا الملف باختلاف طرق التداول له وتشعبها. البعض يقرأ هذا الملف من زاوية سياسية محضة، فيركز على تلك الزوايا التي تتعلق بتحقيق الأمن الدوائي، ومجمل التأثيرات التي تنشأ جراء سياسات الاحتكار الدوائي من وجهة نظر سياسية، بالإضافة إلى ملفات أخرى لا تقل خطورة كالتلاعب بأسعار الأدوية وتصدير الأدوية التي لا تتماثل ومعايير الجودة التي تشترطها الهيئات الدولية المعنية بالرقابة على الأدوية.

في الجهة الأخرى، يبدو ملف الصناعات الدوائية ملفا اقتصاديا صِرْفا، فتتحول المعادلات إلى معادلات مليارية تتعلق باستثمارات كبرى لا حدود لها، وبما يتصل بمستوى الدخل الذي تحققه هذه الصناعات التي تتصف بمستوى عالٍ من الدخل لا يقل في مستوى التوزيع مثلا عن 30 في المئة، وفق ما تشترطه أنظمة التسعير الدوائية في معظم دول الخليج.

وعلى رغم أن إحدى هاتين النظرتين أو الرؤيتين تتصل بالأخرى، فإن مجمل الاهتمامات بهذا الملف لم تصل إلى حدود أن تتشارك في صناعة ثقافة سياسية واقتصادية تتناسب وأهمية هذا الملف الحساس. وعليه، تبدو صناعة الأقراص المرّة صناعة مسكوت عنها في الكثير من الفعاليات السياسية والاقتصادية العربية؛ مما تسبب أولا بضعف وتدني حجم الاستثمارات العربية، وضعف مستوى الثقافة المجتمعية بهذا الصناعة التي تمتلك القدرة على التأثير في المجتمعات في أكثر من مستوى.

قطاع الدواء المصري - الذي يصنف بأنه من أكبر قطاعات الدواء في منطقة الشرق الأوسط حيث تفوق قيمته الاستثمارية مليار دولار ويقوم بتغطية نحو ‏94 في المئة‏ من احتياجات السوق المحلية المصرية - يتعرض اليوم لهزة كبيرة جراء تأثيرات الاتفاقات الدولية بحقوق الملكية الفكرية بعد أن أصبحت بنودها نافذة وواجبة التطبيق منذ يناير/ كانون الثاني ‏2005.‏

تقول المساعد السابق لوزير الخارجية للشئون الاقتصادية ماجدة شاهين:‏ «إن المحرك والحافز الرئيسي وراء تضمين اتفاقية التربس (‏TRIPS‏) في إطار الجولة الثامنة للمفاوضات التجارية المعروفة بجولة أوروغواي ـ التي دامت سبع سنوات من العام ‏1986، وانتهت في أبريل/ نيسان ‏1994‏ ـ وربطها بالنظام التجاري الدولي جاء بدفع من جانب كبريات مؤسسات الدواء بالولايات المتحدة والتي كانت المحرك الرئيسي للإدارة الأميركية عندما استشعرت الخسائر المادية الضخمة التي لحقت بها إثر إتقان الدول ذات الاقتصادات البازغة وحديثة التصنيع لعمليات تقليد صناعة الدواء ومن ثم افتقاد الشركات الأميركية ما كانت تتمتع به من ميزة تنافسية في الأسواق الدولية‏».‏

الشركات الأميركية والأوروبية لم تتجه للدفع بتطبيق هذه الاتفاقيات إلا بسبب ما تكبدته من خسائرَ كبرى، وهو ما يتصل بمجمل ما تنفقه هذه الشركات على البحوث العلمية وعمليات التصنيع الدوائي التي قد تصل إلى جهود 12 عاما، وترى هذه الشركات أن الصناعات الجنيسة في العالم الثالث هي أحد عوامل تهديدها في ألا تستطيع استرجاع ما أنفقته من مليارات في خطوات البحث العلمي. هذا الرأي يأتي قبال رأي مصانع الدواء في العالم الثالث التي تؤكد أن كلفة الاستيراد وأسعار الدواء الأجنبي يفوقان ما تتحمله الشعوب النامية، وأن تصنيع هذه الأدوية محليا وبيعها بأسعار في متناول الجميع هما ضمان لأمنها الوطني وخطط تنميتها والحفاظ على الصحة العامة، وأن شركات الدواء الأجنبية لا تفكر إلا في زيادة أرباحها.

وتضيف شاهين «اتفاقية أوجه التجارة المتصلة بحقوق الملكية الفكرية‏ (‏التربس‏)‏ هي أطول اتفاقية على الاطلاق في إطار اتفاقيات جولة أوروغواي إذ تشمل ‏73‏ مادة تدور حول تضمين القوانين الوطنية للدول الأعضاء في منظمة التجارة العالمية‏ (WTO)‏ معايير محددة للحماية متفقا عليها وواجبة التنفيذ في الإطار متعدد الأطراف وشاملة لجميع أوجه حقوق الملكية الفكرية التي تقوم الاتفاقية‏ (‏التربس‏)‏ بتناولها في مجالين أساسيين وهما الملكية الصناعية والأدبية وتلتزم جميع الدول الأعضاء غض النظر عن مستويات التنمية بها‏، بجميع أحكام الاتفاقية مع الفارق الوحيد وهو مدى فترات السماح الممنوحة لكل من الدول المتقدمة والنامية والأقل نموا‏».‏

وتضيف «توفير قدر كبير من الحماية لحقوق الملكية الفكرية مقرونا بفتح الأسواق وتحرير التجارة تخدم مصالح الدول المتقدمة من خلال دعم سبل التجارة في المنتجات المبتكرة مع تضاؤل احتمالات التقليد ومخاطرها في ظل نظام قوي لإنفاذ حماية الملكية الفكرية وبالتالي تتضاءل الحاجة إلى منح التراخيص أو الاضطرار إلى نقل التكنولوجيا من الدول المتقدمة وذلك كله ليس في صالح الدول النامية وإنما يخدم مصالح المؤسسات الكبرى ويساعدها على الاحتفاظ بالتكنولوجيا المتقدمة من دون تناقلها‏ (...) ومن هذا المنطلق تستمر الدول النامية في المطالبة بوجوب الموازنة بين الاستئثار لمؤسسات الدواء وأصحاب الابتكارات وحق مجتمعاتها وشعوبها في الحصول على الأدوية الجديدة والمبتكرة وبأسعار متكافئة وفي متناول مواطنيها‏».‏

وبالنتيجة، إن الكثير من شركات الدواء العالمية الكبرى اليوم تتمنع عن منح شركات الأدوية الأخرى تراخيص لتصنيع أنواع من الأدوية والمستحضرات الطبية التي تمتلك براءات اختراعها. وأكدت الدراسة أن شركات الدواء في دول التعاون وفي دول العالم الثالث لا تستطيع ابتكار أدوية جديدة لعدم وجود مراكز أبحاث ومحدودية إمكاناتها المالية.

خليجيا، قدّرت دراسة حديثة حجم الاستثمارات في مصانع الأدوية في دولة الإمارات العربية المتحدة والبالغ عددها 8 مصانع حتى نهاية العام الماضي بنحو 235 مليون درهم (64.1 مليون دولار) لتحتل بذلك الإمارات المرتبة الثانية في هذه الصناعة على مستوى دول مجلس التعاون الخليجي بعد السعودية التي تمتلك 27 مصنعا باستثمارات 2. 2 مليار ريال (793 مليون دولار).

وقالت الدراسة التي أصدرتها منظمة الخليج للاستثمارات الصناعية: «إن مصانع الأدوية في دول المجلس سجلت ارتفاعا في 18 مصنعا في العام 1995 باستثمارات 641 مليون درهم (4. 174 مليون دولار) لـ55 مصنعا العام 2004 باستثمارات تقترب من 3 مليارات درهم (793 مليون دولار)». وأوضحت الدراسة أن السعودية «تعتبر عموما أكبر سوق لاستهلاك الدواء في دول التعاون تلتها الإمارات، في الوقت الذي تغطي صناعة الدواء المحلية 20 في المئة فقط من الاستهلاك في كل من الإمارات والسعودية».

تتوافق نتائج هذه الدراسة في مجملها - وخصوصا على صعيد التوصيات - مع دراسة الجدوى التي أقرتها الحكومة الكويتية لإنشاء شركة الأدوية السعودية الكويتية، والتي تؤكد «الحاجة إلى إنشاء مصانع للأدوية، ليواكب ذلك التطور الذي حدث في قطاع الخدمات الطبية عموما»، إذ كانت معظم الأدوية في الخليج تستورد من الخارج. وما لبثت حكومات دول مجلس التعاون أن شجعت القطاع الخاص على الاستثمار في الصناعات الدوائية، وقدمت إليه الحوافز والقروض والإعفاءات، ويسرت له سبل نقل التقنية اللازمة لهذه الصناعة الحيوية.

وفي هذا السياق، يؤكد التقرير «أهمية مبادرة دول الخليج إلى إنشاء الشركة العربية للصناعات الدوائية والمستلزمات الطبية (اكديما) بالمشاركة مع القطاع الخاص، والتي أسست بدورها أربعة مصانع للدواء هي: مصنع المحاليل الطبية بمدينة جدة بالسعودية، وشركة الخليج للصناعات الدوائية (جلفار) في رأس الخيمة بالإمارات، والشركة الكويتية للصناعات الدوائية في الكويت، والشركة السعودية للصناعات الدوائية والمستلزمات الطبية في القصيم بالسعودية. وبمرور الوقت قامت الشركات الأربع بإنشاء عدد من مصانع الأدوية تنتج مجموعة كبيرة من الأدوية ساهمت في تلبية جانب كبير من الطلب المحلي للدواء».

500 مليار دولار سنويا

تؤكد الإحصاءات الدولية أن قيمة الاستهلاك العالمي من الدواء تتجاوز 300 مليار سنويا. تستهلك الدول الصناعية منها نحو 80 في المئة. وارتفعت المبيعات العالمية من الأدوية المرخصة (ذات براءات الاختراع) بـ7 في المئة خلال العام الماضي، لتصل إلى 500 مليار دولار للمرة الأولى طبقا للإحصاءات التي نشرتها المجموعة الاستشارية البريطانية للصحة المعروفة اختصارا باسم «آي. إم. إس».

ويبلغ معدل استهلاك الفرد من الدواء في دول مجلس التعاون 52 دولارا سنويا، وفي الدول العربية 3.20 دولارات، ويقدر استهلاك الدول العربية بما فيها دول التعاون من الدواء بنحو 1.5 في المئة سنويا من الاستهلاك العالمي، ويمكن القول إن جميع الدول العربية تستورد أدوية من الخارج على رغم وجود صناعة دواء لديها، وتبلغ واردات هذه الدول أكثر من 55 في المئة من احتياجاتها من الدواء بقيمة تصل إلى 5.2 مليارات دولار.

المفترض أمام هذه النسب الاستهلاكية المرتفعة أن تكون بوصلة الاستثمار العربية في الصناعات الدوائية في حدود ما هو مؤمل منها، إلا أنها وفق معدلاتها الحالية لاتزال أقل من أن تقفز إلى مستوى المنافسة، وخصوصا إذا ما كان منتج دوائي واحد من إحدى الشركات الأميركية يعادل حجم الاستثمارات في مصر ودول الخليج مجتمعة.

معدل الاستهلاك الدوائي في الخليج - الذي يبدو مرتفعا بالمقارنة بباقي نسب الاستهلاك في المجتمعات النامية - يعتبر محفزا بالضرورة لنشوء المزيد من مصانع الأدوية. وعلى رغم أن تجارب دول الخليج في الصناعات الدوائية - ما خلا البحرين - كانت في غالبيتها ولاتزال تجاربَ ناجحة اقتصاديا. إلا أن هذا القطاع تحديدا لن يستطيع الوصول إلى مستويات المنافسة العالمية إلا عبر سياسة الاندماجات وتوحيد رؤوس الأموال، وتشجيع الحكومات على اتخاذ إجراءات جادة تجاه إقامة مراكز البحث العلمي القادرة على الاستفادة في هذه الأجواء الاستثمارية. ويمكن لدول الخليج في هذا الصدد أن تستفيد من الخبرات الأجنبية وخصوصا في دول أخرى كاليابان والهند اللتين حققتا تجاربَ أكثر حيوية ونشاطا في هذا الشأن.

تجارة الأقراص المرّة - في جميع مراحلها علميا وتصنيعيا وتسويقيا، وبشتى طرق معالجتها سياسيا واقتصاديا - لا يمكن لها إلا أن تكون في مقدمة الاهتمامات الاستراتيجة للدول النامية؛ ذلك أن أي خطط تنموية تكون في معزل عن معالجة هذا الملف هي خطط تنموية قاصرة ولن تكون في أي حال من الأحوال قادرة على تجاوز التحديات الكونية الجديدة.

وخلاصة للقول، لا تبدو خاصية الأقراص المرّة مقتصرة على مذاق «الأقراص» بما هي نتيجة طبيعية للمخيال الشعبي بقدر ما تتصل بأبعاد سياسية واقتصادية دقيقية؛ مما يجعل التوصيف للأقراص الطبية بـ «المرّة» توصيفا دقيقا ومتوازنا لا مبالغة فيه.

العدد 1983 - السبت 09 فبراير 2008م الموافق 01 صفر 1429هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً