العدد 2074 - السبت 10 مايو 2008م الموافق 04 جمادى الأولى 1429هـ

التأسيس، النمو، التمدد... وبداية تقلّص «الفجوة الزمنية»

المشروع الصهيوني في مئة عام

شكّلت هزيمة يونيو/ حزيران 1967 نقطة تحوّل في مجرى الصراع العربي - الإسرائيلي. ففي ذاك الشهر انقلبت الصورة وظهرت ميدانيا وقائع على الأرض كشفت ذاك الخلل البنيوي بين طرف صاحب حق غير قادر على الدفاع عنه وتأكيده في موازين القوى وبين طرف مفترٍ اعتدى على حقوق الناس وحرماتهم ويمتلك إمكانات تفوقية تعطيه أفضلية لتطويع الموازين وتعديلها وإعادة تكييفها لتتناسب مع الهيكل العام للمشروع التوسّعي الصهيوني.

كانت الهزيمة بداية صادمة فتحت الأبواب على تحوّلات تاريخية تشكّلت من خلال تضاعيفها مجموعة صور انعكست على مختلف الميادين العسكرية والسياسية والثقافية. فمن جانب «إسرائيل» ظهرت الدولة وكأنها تلك «القوّة التي لا تقهر» وبدأ قادتها في مشهد انتصاري (طاووسي) إذ نجح جيش الاحتلال في كسر واجتياح أراضي ثلاث دول دفعة واحدة وفي مدّة أقل من أسبوع. ومن الجانب العربي تولدت ردود فعل سلبية طغت عليها حالات من اليأس والقنوط والقرف.

اختلاف زوايا الصورة طرح تحديات وشجّع على البحث عن الأسباب والعوامل التي صنعت هذا المشهد المحزن. «إسرائيل» في تلك اللحظات الزمنية وصلت في مشروعها التوسّعي إلى حدها الأقصى ودخلت في حالات من الغرور والزهو والانتعاش وباتت على قناعة تامة بأن المشروع العربي انتهى وأنّ الدول العربية لن تقوم لها قيامة بعد الآنَ. العرب (المحيط الإسلامي) دخلوا في قراءة تعيد النظر في الحسابات بحثا عن مقاييس تساعد على ترتيب منهجية تفسر ماذا حصل؟ وتشرح الوسائل التي تتكفل بإنقاذ الحلم من الضياع؟

بين بلوغ القمة التاريخية الأعلى والهبوط إلى الحضيض التاريخي بدأ المثقفون العرب سياسة نقد ذاتي وقراءة دقيقة للفكر الصهيوني ومشروع الدولة الإسرائيلية وتاريخ المنطقة العربية - الإسلامية ومركزية القضية الفلسطينية. آنذاك بدأت مؤسسات ومعاهد تصدر الدراسات والبحوث والكتب وتترجم النصوص للتعرف على الآخر (لغته، أسلوبه، خطته... إلخ).

تراكمت في هذه الفترة مجموعة معارف كانت غائبة أو مغيّبة عن الفكر العربي المعاصر. وانتهت تلك القراءات الموضوعية والدقيقة نسبيا في علميتها إلى اكتشاب لغة الوقائع والأرقام استنادا إلى منهج المقارنة في إطار رؤية تاريخية. واكتشف عشرات الكتاب حقائق عملية لا يمكن للدول العربية تجاوزها من دون أخذها في الاعتبار. جاءت الكتب (دراسات وبحوث) لتؤكد على مقولة «الفجوة التاريخية» بين العرب و»إسرائيل». فالفجوة الزمنية بين الطرفين تلعب دورها في تعديل التوازن بين «الأقلية اليهودية» و»الأكثرية العربية». فالفجوة تعني ذاك السباق مع الزمن وتقدم طرف على آخر وتفوقه عليه في مختلف الميادين. فالنجاح الإسرائيلي لا يقتصر على جانب التفوق في القوة العسكرية وإنما يشتمل على تقدم في التقنيات والبرامج والخطط والقدرة الخاصة في التعامل مع العالم وتقدير موازين القوى واستخدام العلاقات الدولية وإعادة توظيفها لخدمة مشروع إقليمي. فالتفوق استراتيجي اقتصادي ثقافي تقني ومجموعه العام يشكل خطوة تاريخية متقدّمة على المحيط العربي - الإسلامي.

آنذاك ظهرت الكثير من الدراسات والبحوث تناولت تاريخ الصهيونية وعوامل تأسيسها والمؤثرات الدولية التي صنعتها ودفعتها للخروج من أوروبا إلى فلسطين. كذلك ظهرت ترجمات لمذكرات تيودور هرتزل وحاييم وايزمن رصدت أنشطتهم واتصالاتهم وجهودهم لتأسيس هيئات تمارس ضغطها على حكومات أوروبا طلبا للدعم والمساعدة. وظهرت أيضا مجموعة دراسات اقتصادية بحثت في الأسباب التي جعلت تلك الدولة الصغيرة قادرة على هزيمة دول عربية أكبر منها. ولجأ بعض البحوث إلى عقد مقارنات بين الاقتصادين للتعرف إلى تلك الخصائص التي أنتجت نظرية «التفوق» الإسرائيلية مقابل تلك «الدونية» العربية.

أهم ما توصلت إليه بعض القراءات اكتشاف التقدم الإسرائيلي من زاوية القدرة على التخطيط المسبق وبرمجة المشروعات والعمل على تنفيذها ضمن رؤية واعية تدرك كلّ العقبات والمخاطر. وشكّل اكتشاف الهيكل التنظيمي للمؤسسات الصهيونية بداية والإسرائيلية نهاية خطوة للدخول نحو التقاط تلك البذور التاريخية التي ولّدت تلك الآليات التي أنتجت في يونيو هزيمة منكرة.

توصل المثقفون العرب في تلك القراءات إلى مجموعة خلاصات منها أنّ الحركة الصهيونية هي نتاج التقدم التاريخي الذي حققته أوروبا في القرن التاسع عشر. وأنّ الصهيونية تأسست على مجموعة قواعد دمجت الايديولوجيا بالخبرات والعلوم والتقنيات والتجارب التي توصلت إليها القارة الأولى في التطور العالمي.

هذه الخلاصات الأوروبية المتقدمة نجحت الحركة الصهيونية في توظيفها لخدمة مشروع الاستيطان في فلسطين. فالحركة التي تأسست في اجتماع ضمّ ألف مندوب يمثلون ألف مجموعة يهودية منتشرة في أوروبا والعالم نجحت في توظيف شبكة علاقاتها الدولية والمالية لتأسيس هيكلية تعتمد على مؤسسات تفكّر وتخطّط وتنفذ مستفيدة من حاجة الدول الأوروبية للتخلّص من أزمة احتواء المسألة اليهودية. وقيادة الحركة الصهيونية كانت تضمّ في مراحلها التأسيسية الأولى علماء وخبراء ودكاترة وأصحاب اختصاصات في الهندسة والزراعة والبناء والكيمياء والفيزياء وأساتذة في القانون والاجتماع والفلسفة والاقتصاد. وكان بعض القادة يملك المصانع والمصارف ومؤسسات التجارة والمال أو يحتل قادتها مواقع عليا في إدارات الدول الأوروبية وحكوماتها وسفاراتها وقناصلها. وبعض القادة كانوا علماء في الذرة وحقول الفيزياء والكيمياء والهندسة أو خبراء في مجالات التقنيات والاختراعات التي تحتاجها الشركات لتطوير صناعاتها العسكرية والطبية والجرثومية وغيرها من قطاعات تعتبر مهمّة في أسواق المال والتنافس الحرّ بين مراكز القوى الدولية.

إلى ذلك ضمّت الحركة الصهيونية في صفوفها كبار الأساتذة في الجامعات الأوروبية والأميركية وساهم بعض الأكاديميين في كتابة التواريخ وتنميط صور ثقافية عن الحضارات. وبعض هؤلاء برع في الاختراعات والاكتشافات أو خدم في الجيوش وحارب في صفوف قوّات بلده الأوروبي واكتسب خبرات في فن القتال والتدريب وتصنيع الأسلحة الخفيفة والذخيرة وغيرها من حاجات عسكرية تتطلبها المعارك الميدانية.

المباغتة الحضارية والمفاجأة الاستراتيجية

كل هذا التقدم ساهم لاحقا في تشكيل ذاك التفوق على أهل فلسطين ومحيطها في مطلع القرن العشرين. آنذاك كانت المنطقة العربية تعيش حالات من العزلة عن العالم وتمرّ في فترة ركود. فالأمية كانت مرتفعة والجهل في اللغات والمعلومات كان يكتسح الطبقات الوسطى. والطبقات الفقيرة كانت شبه معدمة في التقنيات ووسائل الإنتاج. فالصناعة منزلية وحرفية، والزراعة متخلفة، والتربية الحيوانية بدائية، والتعامل المصرفي كان بسيطا.

ساهم هذا التفاوت في النمو بين كتلتين في ترجيح كفة تقدم مؤسسات ومستوطنات الحركة الصهيونية التي نجحت في نشرها أو زرعها في فلسطين وفق منهجية عسكرية ومنظمة من الشمال إلى الوسط والجنوب. واستغل قادة الحركة الصهيونية عدم إطلاع شريحة المثقفين على مشروعها وخططها في تطوير الفجوة التاريخية والبناء عليها. فالشعب الفلسطيني ومحيطه العربي - الإسلامي كان يمرّ في مرحلة تخدير سياسي وخواء ثقافي وبساطة اجتماعية وطيبة إنسانية منعت عنه الرؤية وإدراك ما يحصل في وسطه ومحيطه. بل إنّ الكثير من الهيئات العربية تعاطفت مع الصهيونية في مطلع القرن الماضي ظنا منها أنها حركة أوروبية تتعاطف مع المحرومين اليهود والمظلومين من الأقليات في القارة. وشكّل هذا التعاطف مناسبة لتقوم الهيئات الصهيونية بفتح مكاتب وإصدار منشورات وطباعة كتب وتوزيعها على المراجع والشخصيات بذريعة كسب علاقات تضمن الأخوّة الإنسانية.

قلة قليلة من شريحة المثقفين العرب اكتشفت باكرا حقيقة المشروع وخلفياته ومخططاته القاضية بسلب فلسطين وتأسيس دولة بديلة عليها. وهذه القلّة التي نبّهت من المخاطر كانت تنقصها المعرفة والمعلومات والأرقام ولم تكن مدركة بدقة لآليات المخطط وبرامجه العشرية.

المشروع الصهيوني الذي تأسس رسميا في العام 1897 اعتمد خطوات عملية تنفذ كل ثماني أو 12 سنة. فالتأسيس بدأ في بازل وجاءت الخطوة الأولى في 1907 (بدء الهجرة المنظمة)، ثم الثانية في 1917 (وعد بلفور)، ثم الثالثة في 1929 (الانتفاضة الفلسطينية الأولى)، ثم الرابعة في 1936-1937 (الانتفاضة الفلسطينية الثانية)، ثم الخامسة في 1947-1948 (التقسيم وإعلان الدولة)، ثم السادسة في 1956 (أزمة السويس والعدوان الثلاثي)، ثم السابعة في 1967 (هزيمة يونيو).

هذه السلسلة من الخطوات جاءت ضمن تصورات نظرية مبرمجة جرى تنفيذها تحت سقف سياسي تمت هيكلته وترتيبه في إطار المفاجأة الحضارية. فالتفوق العسكري الإسرائيلي تأسس تقليديا على التقدم في مختلف الميادين والحقول الذي أنتج فجوة زمنية بين كتلتين. فالصهيونية أساسا حركة أوروبية استفادت من كلّ النظريات التي أنتجتها الأكاديميات والمعاهد والعلوم في مختلف القطاعات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والتقنية والفلسفية. و»إسرائيل» أساسا دولة أوروبية مستوردة من الخارج أسقطت عنوة ضد منطق التاريخ على منطقة تسيطر عليها مجموعة أنماط إنتاجية سابقة على التطور الرأسمالي الحديث. المؤسسات التي نجحت الهيئات اليهودية في موضعتها في مطلع القرن الماضي استوردت رأس مالها وتقنياتها وهيكلها التنظيمي من أوروبا وإدارتها بناء على تجارب متراكمة من المعارف والعلوم. فكرة النقابات (الهستدروت) أوروبية المنشأ. فكرة المزارع الجماعية (الكيبوتزات) أوروبية التكوين. توظيف المال واستثمار الأراضي واستصلاحها تقنيا وفنيا تمّ جلبها من عالم آخر (أوروبا) تقدّم على كل الشعوب في مختلف المجالات.

حتى المنظمات العسكرية والأحزاب السياسية كانت حسنة التنظيم ومتقدّمة في التخطيط ومتدرّبة على العمليات الحربية دفاعا وهجوما. فكلّ هذه الهيئات أشرف على تدريبها وتنظيمها ضباط خدموا سابقا في الجيوش الأوروبية الحديثة واكتسبوا خبرات ميدانية في فنّ القتال وبعدها قدّموا استقالاتهم وأنهوا خدماتهم وانضمّوا إلى مجموعات ايديولوجية طرحت شعارات دمجت بين القومية والرأسمالية والاشتراكية والعلمانية لتعيد توظيفها في مشروع معاصر لا يتردّد في استخدام الدين لتمرير مخططه.

هذا التفوق الشامل والكاسح تأسّس نظريا على مقولة «الفجوة الزمنية» التي استفادت وظائفيا من ذاك النموّ المتفاوت بين نمطين. وحين أعلنت دولة «إسرائيل» في مايو/ أيار 1948 كانت المؤسسة الصهيونية بلغت ذاك الطوّر المتقدّم من التفوق في كل المجالات على دول عربية هزيلة التكوين والتأسيس (باستثناء مصر). ولعبت «الفجوة الزمنية» دورها في تحقيق المفاجأة الاستراتيجية عسكريا والمباغتة الحضارية ثقافيا. واستمرت «الفجوة» تتسع إلى أنْ وصلت ذروتها في هزيمة يونيو 1967.

أحدثت الضربة العسكرية هزة في الوعي الجمعي العربي وشكّلت بداية نهوض مضاد بين كتلتين. فللمرة الأولى ظهرت في الوعي السياسي قراءة نقدية تشجّع على المراجعة التاريخية واكتشاف آليات التقدّم. ومنذ ذاك اليوم أخذت الصدمة الحضارية تتراجع وبدأت تلك الفجوة الزمنية تتقلص. فالمباغتة الثقافية (التفوق) والمفاجأة الاستراتيجية والقدرة على تعديل التوازن بين الأقلية المنظمّة والأكثرية الفوضوية استنفدت أغراضها ولم تعد وظائفها السابقة قادرة على النمو والاستمرار من دون وعي مضاد يقابلها في الطرف الآخر.

التاريخ دورات صعود وهبوط. والحركة الصهيونية التي تأسست في نهاية القرن التاسع عشر استفرغت إمكاناتها على امتداد قرن من الزمن انتهى رسميا في الذكرى المئوية الأولى لتأسيسها (1997).

بعد يونيو ستبدأ المفاجأة الاستراتيجية (المباغتة الحضارية) بالتآكل التاريخي لتأخذ تلك الفجوة الزمنية بالتقلص النسبي وصولا إلى احتمال حصول ذاك التحول النوعي المنتظر. حرب أكتوبر/ تشرين الأوّل 1973 التي تصادف وقوعها في رمضان كانت إشارة أولى على نمو ذاك الوعي التاريخي المضاد. بعدها أخذت الإشارات تتواصل لتكشف عن وجود تحسّن في الجانب العربي - المسلم وبداية انتباه لتلك الفجوة الزمنية وما قذفه من تداعيات ونكبات وكوارث وهزائم في فلسطين والمحيط العربي الإسلامي.

«إسرائيل» لاتزال حتى اللحظة الراهنة متقدمة على الدول العربية ومتفوقة على المحيط الإسلامي. ولكن اللحظة الزمنية لا تتوقف تاريخياَ بل تستمر في دقاتها من دون تعب. فمن يتعب أولا يخسر ومن يصبر أكثر يُكتب له النصر. والمعادلة التي أسقطت بالمظلات في مطلع القرن الماضي مستفيدة من المفاجأة والمباغتة أحدثت تلك الصدمة التاريخية وبدأت مع الأيام تولّد ذاك الوعي المضاد الذي أخذ يشق طريقه بتؤدة لسدّ تلك الفجوة الزمنية بين «إسرائيل» والدول العربية.

خسارة الكيان الصهيوني عنصر المفاجأة يشكّل نقطة مهمة في سياسة ردم الهوّة بين الطرفين. فبعد يونيو 1967 لم تعد الدول العربية كما كانت كذلك دولة «إسرائيل». فالحرب التي اندلعت في 1973 كانت خطوة على درب الاسترداد في إطار تعديل قواعد الاشتباك الحضاري. ثم جاءت الحروب المتوالية على لبنان منذ العام 1976 إلى العام 2006 لتؤكد أن مجال التفاوت أخذ يتراجع ويتقلص.

ثلاثون سنة من المواجهات المتقطّعة على الجبهة اللبنانية أنتجت في نهاياتها مجموعة إشارات تدلّ على ظهور مفارقات في الاعتداءات المتكررة في 1978 و1982 و1993 و1996 و2000 و2006.

هذه المفارقات كلّها تؤشر على أن المفاجأة أخذت تفقد قوتها والمباغتة بدأت تستنزف زخمها ليعيد الزمن تشكيل عقاربه على وقت جديد يضغط بقوة نحو ردم تلك الفجوة التي وقعت في لحظة غير واعية. التاريخ ماكر ولكن المكر لا يستمر إلى الأبد. والمعادلة الزمنية التي تؤشر على ظهور علامات مغايرة تشير إلى أن التقدم الإسرائيلي أخذ يتراجع نسبيا، كذلك بدأت نظرية «التفوق» تفقد بريقها مقارنة بالفترات السابقة.

التاريخ ماكر ومكره أحيانا يشتدّ ويبلغ محطة لا يمكن إدراكها في لحظات زمنية ولكن يمكن استيعابها زمنيا في لحظات أخرى.

العدد 2074 - السبت 10 مايو 2008م الموافق 04 جمادى الأولى 1429هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً