العدد 2074 - السبت 10 مايو 2008م الموافق 04 جمادى الأولى 1429هـ

الاجتياح الإسرائيلي للبنان وبداية تراجع مشروع التوسع الصهيوني

حين اجتاحت القوّات الإسرائيلية لبنان في عدوان يونيو/ حزيران 1982 بذريعة حماية المستوطنات في شمال فلسطين المحتلة وإخراج قوّات منظمة التحرير الفلسطينية من بيروت صدرت تصريحات كثيرة تعرب عن مخاوفها من احتمال إقدام قوّات الاحتلال على تدمير الاقتصاد اللبناني وتحطيم منظومته المالية وتقسيم الدولة إلى «كانتونات» طائفية تخضع للمشروع الصهيوني.

التصريحات لم تكن تبالغ في الاستنتاجات. فلبنان دولة ضعيفة ومشلولة وغير قادرة على الدفاع عن سيادتها. ولبنان الاقتصاد يرتكز على قطاع المال والخدمات ولا يتمتع بتلك القوّة الإنتاجية التي تستطيع تأمين حاجات الناس. آنذاك كانت هناك مخاوف من حصول مجاعة تهدد رزق الشعب ومصادر قوّته وخصوصا أنّ البلد كان في حال يرثى لها بسبب اندلاع الحروب الأهلية والإقليمية على أرضه منذ العام 1975 ما أدّى إلى شلل مؤسساته ومصانعه وتقنين الكهرباء والماء وانهيار الدولة والأمن. فالكل كان يتخوّف من أنْ تستسلم بيروت وتكون العاصمة العربية الثانية المهددة بالسقوط بعد الاستيلاء على مدينة القدس كاملة في حرب يونيو 1967. والتخوّف الذي صدر من جهات عربية ودولية مختلفة استندت على مجموعة وقائع أبرزها تمتع «إسرائيل» بحماية أميركية وامتلاكها تلك القوّة العسكرية وتفوّقها على لبنان برا وبحرا وجوا. كذلك استخدمت تلك المخاوف التاريخ للتأكيد على أنّ لبنان انتهى أو خرج من المعادلة العربية أو الخريطة السياسية. فالتجارب الفلسطينية والعربية السابقة انتهت دائما إلى تهجير السكّان وترحيلهم وتوطين مهاجرين مكانهم. وقياسا على تلك التجارب استنتج الخبراء معادلة سلبية تشير إلى أنّ تل أبيب قادرة على سحق لبنان وهزيمته عسكريا واقتصاديا وماليا وإلغاء بيروت تجاريا وسياحيا وإخراجها من سوق التنافس.

جاءت هذه التحليلات حين كان الجيش الإسرائيلي يُحاصر بيروت ويطوّق المخيّمات ويطلق يوميا على الأحياء المدنية عشرات آلاف من القذائف والصواريخ. فالمشهد الميداني كان يؤكّد على غياب لبنان ونجاح «إسرائيل» في تحطيمه وجرجرته إلى توقيع «معاهدة» استسلام تعطيها صلاحيات استخدام أرضه منطلقا للعدوان على الجوار العربي.

تحت وابل القصف والتهديد بارتكاب المجازر والمذابح وتهجير سكّان بيروت صدرت تصريحات مضادة في ظل الحصار تشير إلى عكس كل تلك التوقعات والاستنتاجات.

آنذاك كان حاكم مصرف لبنان ميشال بشارة الخوري وهو ابن أوّل رئيس للجمهورية بعد الاستقلال. فالحاكم أكّد أنّ «إسرائيل» غير قادرة على هزيمة الاقتصاد اللبناني وقطاعه المصرفي ومنظومته المالية. وجاءت إشارة الخوري في سياق تحليلي أوضح فيه أنّ لبنان «متقدّم» على «إسرائيل» في تشريعاته المالية والاقتصادية وهو يمتلك خبرات متفوّقة تجاريا وخدماتيا على الأنظمة الإسرائيلية.

الكلام عن أن بيروت هي «الأقوى» وتل أبيب هي الأضعف وتحتاج إلى سنوات حتى تستطيع منافسة لبنان ومزاحمته في قطاعات التجارة والمال والأعمال والمصارف والخدمات المعطوف على أنّ تشريعات البلد المنكوب وقوانينه متقدّمة على دولة الاحتلال شكّل أوّل قراءة دقيقة هي مفاجأة ستظهر معالمها الميدانية لاحقا. فللمرة الأولى تطلق تصريحات من رجل مصرفي تؤكّد على «تفوّق» لبنان و»تقدّمه» على «إسرائيل». والكلام الذي جاء في معرض طرد المخاوف أشار إلى أنّ الخوف من «إسرائيل» ليس من اقتصادها «المتخلّف» في تشريعاته وقوانينه وإنما من إقدامها على استخدام تفوّقها العسكري؛ لتقويض البنى التحتية للدولة وهدم مؤسساتها وحرق مصانعها ونهب معاهدها وتفريغ البلاد من أدوات الإنتاج والتشغيل واقتلاع البساتين وقطع الأشجار وتخريب قراه. وغير ذلك لا تمتلك حكومة مناحيم بيغن أية خصوصيات تعطيها ميزة التفوّق ثقافيا وعلميا وغيرها من أوجه التقدّم حتى تسجّل تلك الضربة النهائية للبنان.

بعد سنوات قليلة من تصريحات حاكم مصرف لبنان أخذت المعادلة تنقلب وبدأت معالم الصورة تتوضح ميدانيا. فالكلام حين أطلق آنذاك كان مستغربا أنْ يُقال في ظروف صعبة وشبه مقفلة، ولكنه أصاب الحقيقة بعد اتضاح معالم الصورة. فالحكومة الإسرائيلية نجحت عسكريا في تحطيم البنى التحتية للدولة والمؤسسات والمعاهد والمدارس والجامعات وكبّدت لبنان خسائر بشرية ومالية وبنيوية (جسور، مستشفيات، مطارات، شركات نقل، محطات كهرباء، مزارع ومصانع) تقدّر كلفة إعادة إعمارها وتعويضها بالمليارات. ولكن تل أبيب فشلت في كسر الاقتصاد اللبناني وتحطيم نظامه المالي (المصرفي) وإخراجه من سوق التنافس الخدماتي والتجاري. والسبب يعود إلى ما قاله حاكم مصرف لبنان آنذاك وهو تفوّق لبنان وتقدّمه في تشريعاته وقوانينه الليبرالية التي اعتمدت الاقتصاد الحر واحترام الملكيات الفردية.

«إسرائيل» آنذاك كانت متخلّفة فعلا عن لبنان في نظامها الاقتصادي وتشريعاتها المالية. فهي منذ تأسيسها اعتمد نظامها على نظريات نصف رأس مالية (مساعدات وتبرعات مالية) ونصف نقابية (الهستدروت) وشبه اشتراكية (الكيبوتزات). وهذه النظريات التي وضعت في الأربعينيات استهدفت حماية القطاع العام وإعطاء صلاحيات تدخلية للدولة التي تأسست على نظرية القوّة وتوظيف الاقتصاد في خدمة الجيش ومؤسساته. فالجيش في «إسرائيل» يشكّل العمود الفقري للدولة ويتمتع بصلاحيات ترتكز على اقتصاد حربي يغذي أدوات القوّة بالسلاح لقهر الخصوم والتوسّع والاحتلال وطرد الناس من أرضهم وبيوتهم واستجلاب المهاجرين اليهود وتوطينهم بذريعة تنفيذ وعد إلهي.

هذه الأيديولوجيا الصهيونية التي تأسست على قواعدها النظرية دولة «إسرائيل» شكّلت ذاك السلاح المعنوي الذي وظفته الحكومات الإسرائيلية لتبرير الحروب والاعتداءات. وتأسيسا على هذه الأيديولوجيا نجحت «إسرائيل» في بناء جيش عقائدي منظم ومنضبط ومتدرّب ويتمتع بمواصفات «لا تقهر» في الدفاع أو الهجوم. وهذا «التفوّق» ظهر في مجالات عسكرية وسياسية مختلفة، وتأكّد ميدانيا في حروب 1948 و1956 و1967 وإلى حد ما في حرب أكتوبر/ تشرين الأوّل 1973.

عقدة التفوّق

خلال مختلف هذه المحطات ظهر تفوّق «إسرائيل» في الحروب ونجحت الدولة الأيديولوجية (الصهيونية) في ترسيخ قناعات عن تقدّمها في مختلف الميادين الاجتماعية والمجالات الاقتصادية والثقافية. حين احتلت نصف فلسطين في العام 1947 - 1948 ارتكبت مجموعة مجازر في أحياء وقرى وكانت هذه الحركة كافية لإرهاب الناس وتخويفهم وتشريدهم من أراضيهم ومنازلهم. وحين اجتاحت قطاع غزّة وصحراء سيناء في حرب السويس نجح الاحتلال في زرع الرعب وتخويف الناس من القتل. والأمر نفسه تكرر حين احتل جيش «إسرائيل» النصف الثاني من فلسطين وهضبة الجولان وغزّة وسيناء.

كلّ هذه الحروب العدوانية أكّدت نظرية التفوّق الإسرائيلي في مختلف الجوانب وعززت لدى الرأي العام قناعة بأنّ «إسرائيل» متقدّمة في كلّ القطاعات العسكرية والتقنية والاجتماعية والاقتصادية والمالية والثقافية والتربوية والصحية وغيرها من فروع وامتدادات إنتاجية وخدماتية. وفعلا إذا أخذت المقارنة بالمقاييس الزمنية كانت «إسرائيل» قبل النكبة وبعدها متفوّقة في مؤسساتها على المحيط. فهي كانت مُدرِكة وواعية وتخطط لكلّ خطوة. بينما أهالي القرى في فلسطين كانوا يعيشون في وضع بائس نسبيا ولا يدركون ماذا يحصل بينهم وحولهم. الأمر تكرر أيضا في عدوان السويس ثم عدوان يونيو. فالقوّات التي اجتاحت الهضاب والوديان والصحاري والقرى والبلدات والمدن الصغيرة وجدت نفسها في موقع متقدّم اجتماعيا وثقافيا ومتفوق عسكريا واقتصاديا على الخصوم.

هذه الصورة التقليدية الراسخة في العقل الإسرائيلي الجمعي أصيبت بأوّل صدمة وجودية حين اجتاحت «إسرائيل» لبنان في العام 1982. فالفارق الزمني بين 1948 و1982 لعب دوره للمرة الأولى لمصلحة الجانب العربي. فالثغرات موجودة ولكنها تقلّصت. الفجوات الزمنية لاتزال قائمة ولكنها تراجعت قياسا على المحطات السابقة. ولهذه الأسباب الموضوعية والتاريخية انقلبت المفاجأة. وجاءت الصفعة من لبنان حين اكتشف جنود الاحتلال أنهم يجتاحون بلدا يتمتع بالحرية ويمتلك شعبه خبرات ويتكلّم لغات ومتخرّج من معاهد وجامعات وعنده مواصفات اجتماعية وثقافية تعطيه ميزات للتحدّي وعدم الخوف.

آنذاك ارتكبت «إسرائيل» سلسلة أخطاء تاريخية انعكست لوجستيا عليها. فهي مثلا اجتاحت شعبا متدربا على القتال ومضى عليه أكثر من سبع سنوات يخوض غمار الحروب الأهلية والإقليمية على أرضه. استراتيجيا لم يكن الشعب اللبناني في وضع مريح حتى تخاف من خسارته. ولعب هذا العامل النفسي دوره في عدم نزوح اللبنانيين من قراهم وبلداتهم ومدنهم. فالناس كانت آنذاك تعوّدت على تحمّل أعباء الحروب ودفعت كلفتها من انقطاع المياه والكهرباء وتعطل المدارس والمؤسسات. والناس أيضا تدرّبوا على القتال والمواجهة وبات كلّ بيت لبناني يملك أسلحة خفيفة للدفاع عن نفسه أو لحماية أسرته وجيرانه.

هذا الخطأ الاستراتيجي القاتل انعطف على مجموعة أخطاء منها أنّ الرفاهية الاجتماعية التي كان يتمتع بها اللبناني، على رغم ويلات الحروب التي يعيشها، أعلى من تلك التي يحصل عليها الإسرائيلي من «دولته» وخصوصا على مستوى الأدوات المنزلية والمعدات الكهربائية والإلكترونية. كذلك كان اللبناني يعيش في وضع منفتح اقتصاديا وثقافيا ما أعطاه القدرة على الاطلاع ومعرفة الفكر الصهيوني ومشروع «إسرائيل» في المنطقة.

الصدمة كانت معكوسة إذ وجد «الإسرائيلي» نفسه يواجه للمرة الأولى منذ العام 1948 وضعا مغايرا يُعارض تلك القناعات الايديولوجية التي تأسس عليها وتربّى في محيطها. فهو الآنَ ليس المتفوّق ولا المتقدّم وربما أقل ثقافة ومعرفة بالآخر. شكل هذا الانكسار النفسي بداية للتراجع التاريخي في المشروع الصهيوني على رغم نجاح حكومة بيغن - شارون في اجتياح بيروت عسكريا وإخراج قوّات منظمة التحرير من العاصمة اللبنانية وارتكاب مجزرة صبرا وشاتيلا. الاجتياح كان مؤقتا وصعبا ومكلفا ما اضطر «إسرائيل» إلى الإعلان عن انسحابها الفوري تخفيفا للخسائر المادية والبشرية. وبعد انسحابها من بيروت أخذ الاحتلال يتراجع ويتراجع خطوة بعد خطوة إلى أن طرد من الجنوب في العام 2000.

مشهد الهرولة الإسرائيلية من شريط الحدود اللبناني وخروج آخر جندي وإقفال بوابات الحديد في المعابر التي استخدمها للاجتياح في العام 1982 يكثف في علاماته الرمزية تلك المفارقة التاريخية بين هرولتين: الأولى كانت تلك الصور التي تعطي فكرة عن النزوح من القرى والمدن الفلسطينية والتشرد شمالا باتجاه لبنان. والثانية كانت تلك الصورة التي يقفل بها الجندي الإسرائيلي بوابة حديد خوفا من تقدم قوّات المقاومة الزاحفة من الشمال إلى الجنوب.

صورتان يفصل الزمن بينهما. فالأولى صنعتها المنظمات الصهيونية بدءا من مطلع القرن العشرين إلى منتصفه (تأسيس دولة إسرائيل) إلى ثمانيناته (اجتياح لبنان). والثانية صنعتها منظمات المقاومة وحزب الله بدءا من مطلع الثمانينيات إلى نهاية القرن.

مئة سنة فاصلة بين زمنين. وهذا التاريخ الذي بدأ بنمو الحركة الصهيونية وتمدد مشروعها وتأسيس دولتها أخذ الآنَ رحلة العودة وربما البدء في الغياب عن مسرح التاريخ.

الكلام الذي قاله حاكم مصرف لبنان في ظل الاجتياح والحصار والدمار الإسرائيلي في العام 1982 عن «التفوّق» و»التقدّم» و»التطوّر» اللبناني في منظوماته وتشريعاته وقوانينه كان فعلا قبل آوانه ومن الصعب تصديقه. إلا أنّ التجربة اللاحقة أثبتت صحة القول. الزمن تغيّر وعنصر المباغتة «الحضارية» الذي شكّل في مطلع القرن الماضي صدمة للعرب بدأ ينقلب في مطلع القرن الجاري. فالصدمة أصبحت معكوسة، والمفاجأة التي صنعت «إسرائيل» لا يستبعد أن تؤسس هزيمتها التاريخية.

العدد 2074 - السبت 10 مايو 2008م الموافق 04 جمادى الأولى 1429هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 1 | 10:55 ص

      على الموضوع

      شكرا الموضوع كثير حلو ان نعرف ماذا حصل فى المناطق المجاورة لفلسطين والجميل ان الموضوع عن الحرب التى حصلت فى بيروت
      وعلى ان الاحتلال انسحبو ا منها على ايدي المقاومة الفلسطينية واللبنانية المجاهدة

اقرأ ايضاً