العدد 279 - الأربعاء 11 يونيو 2003م الموافق 10 ربيع الثاني 1424هـ

قيمة الممارسة العقلية في التشريع

هناك الكثير من الشبهات التي تطرح بحق الممارسة العقلية في التشريع للاحكام او استكشافها، ويمكن اجمالها كالآتي:

ــ ان الممارسة العقلية المستقلة تبعث على نسخ الاحكام الشرعية وتغييرها، او طرحها والغائها كلية.

ــ انها عاجزة عن ادراك المصالح الدنيوية، بدلالة ان الشرع لم يكتف بذكر المصالح الاخروية وانما جاء ايضا بتعليم المصالح الدنيوية، وانه بالشرع لا بالعقل قد تبين ما كان عليه اهل الفترة الجاهلية من انحراف الاحوال عن الاستقامة وخروجهم عن مقتضى العدل في الاحكام.

ــ انها غير قابلة للضبط والانضباط، وتتأثر بالاهواء والمصالح الخاصة.

ــ انها توقع في الاخطاء الكثيرة وإن لم يدركها المدرك.

ــ انها لا تتفق مع مقولة كمال الشريعة وبيانها وتمامها، ولا مع منطق «حلال محمد حلال الى يوم القيامة وحرامه حرام الى يوم القيامة».

ــ وجود الاحاديث الناهية عن العمل بها في ادراك الاحكام ومناطاتها.

هذه جملة الشبهات التي تطرح في المنع من الممارسة العقلية في التشريع. مع اننا لو سلمنا بصدقية هذه الشبهات لكان بعضها على الاقل يصدق على جميع المذاهب الفقهية التي تعوّل على الاجتهاد والرأي. ذلك ان هذه الاجتهادات تضطر احيانا إلى تغيير الاحكام تبعا لمراعاة المقاصد او المصالح او غير ذلك من الاعتبارات، ومع ذلك لا يصح ان يقال انها تمارس نسخا للشريعة او الغاء احكامها. وفعلا انها تتهم بمثل هذه التهمة من طرف تلك المذاهب التي لا ترى مجالا لممارسة الرأي والاجتهاد. بل ان الشاهد التاريخي يكشف عن اتهام المذاهب بعضها البعض الاخر، وذلك تبعا لمنطق التوسعة في الاخذ بأصول الاجتهاد. فكلما كانت هناك توسعة اكبر كلما زادت الشبهة في حق المذهب. فلو غضضنا الطرف عن الكم المستخدم من تلك الاصول لوجدنا ان القائل بالقياس والاستحسان والمصالح متهم بدرجة اكبر من القائل بالقياس والاستحسان، وكذلك هذا مقارنة بمن يقول بالقياس وحده. مع ذلك فنحن نعلم ان التهمة في حق الجميع غير صحيحة.

أما الاشكال عن عجز العقل عن ادراك المصالح الدنيوية فإنه لو صدق لانطبق كذلك على جميع المذاهب التي تعول على المصالح والاستحسان، ومنهم الشاطبي الذي ابدى مثل هذا الاشكال. مع ان الممارسة العقلية وخبرتها الخاصة مع الواقع والاسترشاد بمقاصد الشرع كل ذلك يجعلها قادرة على ادراك مثل هذه المصالح، باعتبارها مصالح واقعية لها اثارها البيّنة في الواقع إن كانت مفيدة معتبرة او ضارة ملغية. نعم ان فائدة الشرع هنا هي انه سبّاق في تحديد المصالح لاحاطته الكلية، بينما يحتاج العقل الى المزيد من الخبرة والجدل مع الواقع، وايضا لابد من تبني المقاصد لادراك ما يخفى عنه من هذه المصالح. وكذا يمكن القول ان الاجتهادات التقليدية للمذاهب الفقهية غير قابلة للضبط والانضباط باعتبارها تعود الى الفهم، والفهم مختلف فيه اصولا وفروعا، الامر الذي يجعلها قابلة للوقوع في الاخطاء الكثيرة، بدلالة ما هو لدينا من كمية هائلة من الآراء لأية مسألة فقهية. الامر الذي ادى الى تكوين علم خاص اطلق عليه الخلافيات، مما هو ليس معنونا في اي علم من العلوم الاسلامية الاخرى. واكثر من هذا ان الفقه قد ضُرب به المثل على ضعف النتائج التي ينتجها لكثرة الشكوك التي تراود مسائله. ومن ذلك ان الفقيه الفيلسوف ابن رشد لم يجد وصفا يليق بتسخيفه لنظرية الفيض الفارابية السينوية من حيث انها مدعاة للظنون والخيالات غير تشبيهه اياها بعلم الفقه، كما في قوله: وبحق صارت العلوم الإلهية لما حُشيت بهذه الأقاويل أكثر ظنية من صناعة الفقه.

فأين هي اسعافات الضوابط الفقهية؟ وكيف يمكن تجنب الكم الهائل من الاخطاء التي تدل عليها كثرة الخلاف الفقهي؟! ذلك انها من الناحية المنطقية إما ان تكون كلها خاطئة بلا استثناء، او ان الصحيح منها لا يتجاوز الرأي الواحد للمسألة، وفي كلا الحالين نعلم اننا ابعد ما يكون عن بلوغ الحد الذي يُعتمد عليه في علاج مشكلاتنا وحلها. فهل يعقل ان تكون اخطاء الوجدان العقلي اكثر من ذلك؟!

وكذلك يجوز ان يقال إن تلك الاجتهادات تبعث على الاهواء لما تحمله من مرونة يصعب ضبطها، الامر الذي تشهد عليه فتاوى من يسمون وعاظ السلاطين، وهم الذين لا يخلو منهم عصر وزمان. فهم يستخدمون الاساليب الاستدلالية المعول عليها نفسها، فيصبح من الصعب كشف ما في ذاتها من الدوافع الدخيلة، خصوصا ونحن نعلم ان الانسان، مهما بلغ من التجرد، فإنه يبقى عاجزا عن ان يجد له رصيفا آخر خارج الطوق الذي تفرضه عليه ثقافة البيئة وروح العصر، ما يؤثر على تحديد آرائه ونتاجه الاجتهادي. وكذا يمكن ان يقال ان تلك الاجتهادات تتنافى مع مقولة بيان الشريعة او تمامها وكمالها. اذ مع هذا البيان والكمال ليس ثمة حاجة للاجتهاد الذي هو منبع الاختلاف وموطن الاخطاء وموضع زلات الاقدام، وكل ذلك لا يتفق مع ما عليه الشريعة من الكمال والبيان.

كذلك فإن وجود عدد من الاحاديث الناهية عن الممارسة العقلية يمكن ان يعم بحسب اطلاقها، وبحسب احاديث غيرها، جميع صور الاجتهاد الاخرى. فلسان هذه الاحاديث واضح من حيث ارادة تجنب الوقوع في الاخطاء الناتجة عن الظنون الاجتهادية لادراك الاحكام، وهو امر ينطبق على جميع صور الاجتهاد التي يمارسها الفقهاء على مر العصور. وإن كنا في القبال نجد احاديث اخرى مضادة تشيد بالعقل ومكانته، كما تحث على ممارسته في ادراك القضايا المعروضة. الامر الذي يؤكد صدق الدعوة بالاحتكام اليه في القضايا التي يمكنه ادراكها ادراكا عقلائيا معتبرا غير قائم على الهوى والمصالح الشخصية.

ومن حيث الحل يمكن ان يقال إن حجية الوجدان العقلي هي حجية ذاتية لا تحتاج الى جعل من الشارع، واي مساس بها هو في حد ذاته يعد مساسا بالشرع، ذلك لأنه لا يتقوم اثباتا الا من حيث هذه الحجية او هذا الوجدان. كما يمكن ان يقال ان توكيد هذه الحجية ينبع من الشرع، لا من حيث التصريح بمكانته وقيمته بل والحث على ممارسته كما نجد ذلك في الكثير من نصوص القرآن والحديث؛ وانما ايضا مما يزودنا به منهج الاستقراء وحساب الاحتمالات من نتيجة مؤكدة مفادها صدق قضاياه بما يجعل العمل به مشروعا بحسب ضوابط لا غنى عنها. واذا اضفنا الى ذلك ان الوجدان العقلي يستهدي بهدي مقاصد الشرع وتوجيهاته كاحد ابرز الضوابط التي يناط بها في علاج مزاحمات الواقع وما يفرضه من تشابك في قضايا المصالح والمفاسد؛ علمنا كم هو حجم الضرورة والمسئولية الملقاة على عاتق مثل هذه الممارسة الاجتهادية.

على ذلك كيف تجوز المقارنة بالتراتب والتصاف بين القرارين الوجداني والاجتهادي التقليدي، فيوضع القرار الاول في صف الثاني، او يشكل بينهما شكلا من التموضع التراتبي، مع ان القرار الاخير كثيرا ما لا يرقى الى نوع معتد به من الظنون العقلائية النوعية؟! بل كيف يرجح العمل بمثل هذه الطريقة وتقديمها على القرار الوجداني للعقل، وكذا كيف يصح ان يتهم هذا الوجدان بالهوى والتضارب مع انه يقبل الضابط العقلائي والمشاركة النوعية؟! في حين ان الطريقة التقليدية بضوابطها المعروفة لا تثمر في الكثير من قراراتها الا نتائج ضعيفة. بل ان الوسيلة التي تتبعها هي وسيلة تنبني على مقدمات ضعيفة، فكيف يطمأن - وهي بهذا الحال - على النتائج التي تفرزها وتعدها نتاجا شرعيا خالصا. ذلك ان ممارستها تتقوم في احسن الاحوال على جمع من المقدمات الظنية، وحيث ان صدق النتيجة متوقف على صحة هذه المقدمات جميعا، لذلك فإنه بحسب حساب الاحتمالات لابد من ضرب احتمالات صدق تلك المقدمات ببعضها كي تكون النتيجة صحيحة صادقة، وبضرب الاحتمالات تضعف القيمة الاحتمالية، فتندرج النتيجة ضمن مراتب الاحكام الضعيفة لا الظنية، لذلك كيف يمكن قبول مثل هذه الاحكام الضعيفة، في الوقت الذي يتم فيه تفويت فرصة العمل بالوجدان العقلي للمسائل التي يمكنه ادراكها وتحديد نتائجها؟!

على انه ليست هناك طريقة اهم من منهج الاستقراء في الكشف عن الحقائق وفهم القضايا، والتي منها قضايا الشريعة والاسلام المعرفي. ويعد الشاطبي من القلة الذين اعطوا الاستقراء دورا مهما في الكشف عن الموارد الكلية في الشريعة، وسعى إلى أن يجعل منها منبعا للقطع واليقين. لهذا كان من المفيد ان نوظف هذه الطريقة في البحث عن مدى التوافق والتطابق بين قررات العقل وبين احكام الشريعة، وذلك في المسائل التي يمكن للعقل ادراكها، كما في قضايا الحسن والقبح وقضايا المصالح والمضار وما على شاكلتها. وحيث ان هناك اتفاقا في القرارات بين التشريعين، او كاد ان يكون الاتفاق مطبقا، فإن ذلك يعني بحسب منهج حساب الاحتمالات انه لا يمكن ان يكون صدفة واعتباطا. فالتطابق بين الامرين شبه تام، مما له دلالته الاحتمالية في صحة القرار العقلي، وبالتالي رد احد الحكمين إلى الآخر، او ان الامر لا يحتمل الا بتفسيره طبقا لمحور مشترك بحيث لا يمكن عزل احدهما عن الآخر، الامر الذي يفسره كون احكام الشرع عبارة عن امضاءات لقرارات العقل، فالشرع لم يأت بهذه القرارات على نحو التأسيس، بل على نحو الامضاء والتبعية. والاهم من ذلك ان احتمالية صحة القرار العقلي او الوجداني في قضية جديدة لم يطرقها الشرع، او لم نستكشفها نحن منه، تساوي تبعا للحساب الاحتمالي قدر ما يكسبه العقل من قيمة معرفية في موافقته لقضايا الشريعة. وقد صدق من قال إن الشرع سيد العقلاء. فكيف - اذا - يمنع العقلاء من وظيفتهم وهو السيد فيهم؟! هكذا ان الاستقراء يؤيد لنا صحة مقولة الامامية القائلة: كل ما يحسن فعله عقلا يحسن فعله شرعا.

كاتب إسلامي عراقي

العدد 279 - الأربعاء 11 يونيو 2003م الموافق 10 ربيع الثاني 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً