العدد 312 - الإثنين 14 يوليو 2003م الموافق 14 جمادى الأولى 1424هـ

الليلة

الوسط - خليل عبدعلي خليل 

تحديث: 12 مايو 2017

الليلة، نزلت عليّ حزمة «طاقة» ثقيلة من السماء، انتظرت هطولها، بفارغ الصبر، منذ سنين طويلة.

تتساقط الأوراق من سقف الحجرة. أحاول، جاهدا، إحكام السيطرة.

أستطيع، الآن، بفعل عقلي، المحرك النفاث، تتبع أخاديج خيوط العناكب المنحفرة على جدران الغرفة، والتوحد مع الضوء، والسفر معه خلف الغيوم البيضاء، وبناء قصر فخم على القمر. أستطيع الولوج في شاشة الحاسوب، والتجول في واقع افتراضي من صنع عالم الماتريكس.

ربما هو الجنون، لا أعلم.

(2)

في هذه الليلة حدث الانفجار. شعرت به يدوي في داخلي. وفي الخارج، تناثرت أشلاء القطط السمينة على المحلات والدكاكين الصغيرة، واصطبغ الحي، هواه، وترابه، وفضاؤه، بالالون الأحمر.

سرت في جسدي صاعقة شديدة من الكهرباء، عندما كنت أنظف الحجرة البالية، وأوزع مهمات رتيبة على الخادمة.

انتهينا من التنظيف والغسيل. كانت الحجرة تلمع ضياء وبريقا لم أعهده، وسقفها المنخفض العلو يرتفع شيئا فشيئا... ليعانق السماء والنجوم.

جسدي منهك... تتراكم عليه قافلة من الغبار القابع في جوف الكتب التي لم تقر بعد. وفي المغتسل، كان الرقص يشتدا ويتفاقم، وأراقب انفجار الطاقة. ربما تولدت من البخار المنبعث من الماء الساخن، والجو الحار الذي لا يطاق في الصيف.

«أعلم الحقيقة. انهمر رذاذها من فوهة عقل حكيم المدينة، ينطبع وجهه على المرآة العاكسة لغلاف كتاب فلسفي».

وجهي يتلألأ جمالا ونضرة في اللوح الأبيض. اقوم بحركات رياضية، وتوجيه لكمات سريعة، سريعة، إلى أسفل، وأعلى، كأنها لكمات محمد علي كلاي، ولا أشك في أنها كذلك... لكناها، يا للحسرة، تستقبل في الهواء... ثم الجدار!

الأصوات من حولي تتضاخم. أستطيع التدقيق في تفاصيلها وأجزائها والاستمتاع بها، ولن تحدث، هذه المرة، ضوضاء وفوضى. صوت مكيف جاري العزيز، يا للخيبة، كأنه آلة بخارية قديمة، يخرج من فمها الغبار والوحل.

(3)

السيارة تطير بجناحين منخفضين واسعين، كجناحي طائرة كونكورد إلى المدينة. أحاول عدم الانفلات، والبقاء متوزانا في ثنايا المدار. تسير المركبة بسرعة مجنونة، وتسابق وحشا غجريا يعدو في الخلاء، ولا يظهر إلا في الليل.

من النافذة، اشاهد وجوها تغرق في الغباء والحيوانية... وبعضها ينغمس في البراءة. تأملت الجسر العلوي، فوقي، المصنوع من الاسمنت، وحيرني اصطلابه وشدته.

إنني استطيع، هذه الليلة، الصعود فوق الجسر، والقيام باستعراض مثير على شكل ما يفعله الرجل القوي «سوبرمان» بقفزي من أعلى الجسر إلى قاعه. ابتسمت لتفاهة أفكاري الطفولية. ازددت حيرة حينما فجعت بسيارة الاسعاف خلفي، وهي تزعق وتأمرني بالتزحزح عن الطريق. «ربما هناك جسد يتضاءل، وربما جاءت سيارة الاسعاف لانقاذي عندما أنوي القفز...».

عاودت الاندفاع. اشتغل المحرك مثل قذيفة لا تريد استبصار طريقها. ألمح، من النافذة، عائلة تتأمل في لون زرقة السيارة. «الطاقة» تتموج من جديد، وتصخب الموسيقى مع الزفرات التي لم تعرف طعم الراحة. رقصة أخرى أؤديها، وأنتفض إلى نهاية الطريق مثل الأفعى المتقمصة لون الصحراء.

(4)

البارحة كنت اتلظى ألما، وأتجرع سما غليظا يؤنسني ويهدئني. شظايا تتناثر من الفضاء، تغرز أوتارها في قلبي، وتقول: «لا تغادر غرفتك». ولكنني شيطان، ويعلم بذلك صديقي الحكيم مؤلف كتاب الحكمة، وأنا أعانده أحط بقدمي عند حافة القبر، عند مركز الشراب العظيم في المدينة التي تعبت من النوم.

(5)

اتذكر ما حدث في تلك الليلة. اترنح وأقول بصوت خافت لا يسمعه أحد: «أنا رجل مجنون فٍ كْف» ٍفَ».

الليلة السودا، ذات الرداء الأسود، تخفي سكوني ووجعي... وعطشي.

الماتريكس: مصطلح يقع ضمن علوم الرياضيات والحاسوب، ويعني خانات تخزين المعلومات التي تشكل عالما افتراضيا من صنع الحاسوب





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً