العدد 375 - الإثنين 15 سبتمبر 2003م الموافق 19 رجب 1424هـ

لولا لفتة رئيس الوزراء لرفض طلبي كمعيد

المحاضر بالجامعة يروي حكايته لـ «الوسط»:

غازي عبدالعزيز عاشير الذي يبلغ من العمر أربعين عاما ويعمل محاضرا بجامعة البحرين - كلية الآداب - قسم اللغة العربية والدراسات الإسلامية ألتقيناه وسألناه عدة أسئلة فضّل أن يجيب عنها إجابة واحدة كافية ووافية... فكان له هذا الحديث: نشأت في أسرة متوسطة الدخل، بين خمسة إخوة.

ونتيجة لزواج الأقارب أنجبت أمي أولادا ضعاف بصر يتفاوتون في درجة ضعف الإبصار ، وكنت أنا أشدهم ضعفا. في البداية لم أشعر بأثر هذه الإعاقة إلا عندما التحقت بالمرحلة الابتدائية، وكان ذلك في السنة الرابعة، إذ تنبه بعض الأساتذة إلى عدم قدرتي على القراءة، ولأن السنوات الأولى الثلاث من المرحلة الابتدائية كانت بسيطة في تلك الفترة، ولأنني كنت قوي الذاكرة والحفظ فقد مرت هذه السنوات الثلاث من دون أن يتنبّه إليّ أي من الأساتذة، فقد كنت أحفظ القطع اليسيرة في مادتي القراءة والمحفوظات منذ المرة الثانية أو الثالثة عند سماعها من الأستاذ أو بعض الطلبة، وكنت أرفع أصبعي للمشاركة وحينما أؤمر بالقراءة كنت أرفع الكتاب مموها الأستاذ بأنني أقرأ من الكتاب وفي الحقيقة كنت أقرأ عن ظهر قلب. في السنة الرابعة بدت الأمور أكثر تعقيدا فلم يكن بإمكاني حفظ موضوع من صفحة ونصف الصفحة تقريبا. أرسلت المدرسة خطابا إلى والدي تخبره بذلك. كانت أمي غير متعلمة وكان والدي يعمل في ذلك الوقت في الخبر في المنطقة الشرقية في المملكة العربية السعودية، لذلك فإن من تسلم الخطاب هو جدي لأمي الذي تكفل بالاتصال بوالدي ليرتب لي موعدا مع أحد الأطباء في الظهران بالمنطقة الشرقية. اقترح الطبيب المعالج أن أستخدم نظارة طبية تعينني على القراءة والكتابة ولكن - للأسف الشديد - لم تكن تلك النظارات قادرة على أن تسعفني على النظر، فاضطر والدي إلى السفر بي إلى الهند علّه يجد علاجا ناجعا لعيني، فكانت النتيجة مخيبة إذ أخبره الطبيب بأني أعاني من ضمور حاد في الشبكية، ونصحني بألا أستخدم النظارات الطبية، لأنه لا جدوى منها. وهكذا رجعنا من الهند بخفي حنين. اغتمّت أسرتي كثيرا وخصوصا والدتي. ولعل الشخص الأقل حزنا في هذه الأسرة كان أنا إذ لم أدرك معنى أن أكون ضعيف بصر إلا بعد نهاية المرحلة الابتدائية.

التحقت بالمرحلة الإعدادية وكانت المواد الدراسية أكثر تعقيدا وصعوبة فكانت هناك مادة العلوم والرياضيات واللغة الإنجليزية وكل هذه المواد تعتمد على الإبصار لا على التخيل. كنت أتخيل حركات الأستاذ على السبورة وخصوصا في مادتي الرياضيات والعلوم، أما في مادة الإنجليزي فعلى رغم احتفاظي ببعض المفردات البسيطة في ذاكرتي وذلك من خلال ما يدور في الفصل فإنني كنت طالبا فاشلا في الإملاء والكتابة. تحتم على هذا أن أداوم على المذاكرة والمراجعة والحفظ في المنزل لكن الأمر لم يزل عسيرا، فأمي غير متعلمة وإخوتي ضعاف بصر أيضا، لذلك كان العبء الأكبر يقع دائما على خالتي وابنة عمي و أختي من الرضاعة.

أما المرحلة الثانوية فقد كانت ثالثة الأثافي إذ خلالها سقط القدر وانقلب على صاحبه، حصلت على معدل جيد جدا في المرحلة الإعدادية والتحقت بالقسم العلمي من دون رضا أسرتي التي فضلت أن ألتحق بالقسم الأدبي. لم يكن التحاقي بالقسم العلمي حبا في مادة الأحياء ولا رغبة في الفيزياء ولا عشقا للكيمياء والرياضيات، وإنما وجدت معظم زملائي المجتهدين دخلوا هذا القسم وأحسست بالضعف والمهانة والانكسار لو تركت هذا القسم والتحقت بالقسم الأدبي. في هذه المرحلة كانت الأمور أكثر تعقيدا، لأن ابنة عمي التي كانت تعدّ نفسها للالتحاق بالقسم العلمي أخذت تقبل على دراستها بجد ومثابرة، مما قلل من عدد الساعات التي كانت تخصصها لي كما أن خالتي التي لم تنهي إلا السنة الرابعة الابتدائية لم تكن قادرة على استيعاب الرياضيات الحديثة ومعادلات الكيمياء ومسائل الفيزياء ما جعل أسرتي تلومني لوما شديدا على التحاقي بالقسم العلمي، ولكنني مع ذلك استطعت أن أنهي هذه المرحلة بمعدل يؤهلني للحصول على بعثة من وزارة التربية والتعليم في الهندسة وهكذا بدأت المرحلة الجامعية التي لا تقل صعوبة عن باقي المراحل بل تفوقها بكثير.

بدأت هذه المرحلة بخيبة أمل وإحباط فقد قرر رمزي فايز أنني غير مؤهل لدراسة الهندسة، والسبب طبعا كان ضعف بصري، واقترح تحويلي إلى تخصص الآداب، لم أشعر بالحزن لهذا القرار فقد كنت أعشق مادتي الحقوق والأدب ولم تشجعني الغربة التي ذقتها لمدة أسبوعين في الرياض قبل أن يظهر هذا القرار على مواصلة دراستي في الهندسة، ولأنني حصلت ومن دون معوقات على بعثة لجامعة البحرين التي كان اسمها آنذاك كلية البحرين الجامعية، فقد جمعت حقيبتي قافلا إلى موطني.

في جامعة البحرين كانت المشكلات عادية فقد كان تخصص اللغة العربية تخصصا سهلا وخصوصا أنني مولع بالشعر والأدب، وكانت لي فيه تجارب بسيطة، كما أنني أخذت أتأقلم وأعتاد على المشكلات التي أواجهها في أثناء الدراسة والتي كانت بالنسبة إلي تمثل روتينا يوميا أعايشه، وأبرز من ساعدني في هذه الفترة أخي الأكبر الذي أنهى دراسته ومن ثم أصبح قادرا على القراءة لي. ولعل كتابة البحوث الجامعية هي الشيء الذي استجد في مسيرتي العلمية ، ولكنني سرعان ما تأقلمت معها بمساعدة بعض زملائي وأصدقائي.

بعد تخرجي في الجامعة، كان موضوع مواصلة الدراسة لم يبارح فكري، إلا أنني لم أحصل على بعثة دراسية لمواصلة دراساتي العليا، الأمر الذي جعلني أتجه إلى العمل في سلك التدريس في معهد النور للمكفوفين لمدة ثلاث سنوات. وهناك أتقنت القراءة والكتابة بلغة المكفوفين«برايل» بصعوبة لأنني تعلمتها في فترة متأخرة. وما إن بدأت في فك رموز هذه اللغة حتى أقبلت على قراءة الكتب المطبوعة ببرايل في مكتبة المعهد بنهم وشغف شديدين،إذ استطعت أن أقرأ كل ما يقع بين يدي من كتب ومجلات بلغة برايل في ستة أشهر.

لم أعانِ من مشكلة في أثناء التدريس فقد كنت أدرس المكفوفين وكانت المناهج مطبوعة ببرايل ، ولكن هناك شعورا مريرا وقنوطا أحاط بي فقد ابتعدت عن الكتب التي كنت أقرأها في المرحلة الجامعية والمتعلقة بالأدب الحديث والأدب المقارن والنقد الأدبي وفقه اللغة. وطوال فترة التدريس التي قاربت ثلاث سنوات كنت مصرا على أن أواصل دراساتي العليا حتى ولو كان ذلك على نفقتي الخاصة.

تحقق لي ما أردت حينما حصلت على قبول من الجامعة الأردنية بعمّان وهنا بدأ فصل جديد من حياتي لم أعايشه مسبقا. كانت ثلاث السنوات الأولى من الدراسة صعبة جدا، كنت أسكن في شقة بمفردي ما يتطلب أن أعتمد على نفسي بصورة كلية. دراسة الماجستير كانت مكثفة جدا وتتطلب إعدادا أكثر من حيث البحوث والتقارير في الفصل الواحد، ما يعني الحاجة الدائمة إلى قارئ. ولطبيعة هذا البلد فقد كان يتعذر الحصول على قارئ في الكثير من الأحايين وإن كان ذلك بأجر مادي، لذلك تناوب عليّ الكثير من القراء الذين لا يستمرون معي فترة طويلة، ولأن السبب الرئيسي من دراستي لم يكن بالدرجة الأولى الحصول على شهادة الماجستير بقدر ما كان الرغبة في العودة إلى أجواء القراءة والعلم والمعرفة. فقد رحت أعبّ كل ما أتحصل عليه من كتب داخل مكتبة الجامعة وخارجها، استمرت دراستي في الأردن خمس سنوات كانت من أجمل سني عمري على رغم الغربة التي كابدتها.

عندما رجعت إلى البحرين كنت واثقا بأن شهادة الماجستير ستكون وسيلتي للالتحاق بسلك التدريس في جامعة البحرين، إذ المزيد من البحث والاطلاع والقراءة. كنت أحسب أن حصول كفيف يقرأ ويكتب بطريقة برايل لأول مرة على درجة الماجستير في البحرين حدثا مهما سيفتح لي كل الأبواب الموصدة، ولم يساورني شك للحظة واحدة في أن هذه الشهادة ستقابل باللامبالاة من قبل من تقدمت إليهم بطلب الالتحاق بالجامعة، فقد رفض طلبي عميد كلية الآداب حينئذ بحجة أنني كفيف، وعندما ضربت له أمثلة كثيرة بالجامعات عربية وغربية في بلدان مختلفة ضمت بين جنباتها أساتذة كفيفي بصر ينافسون أقرانهم المبصرين في التدريس والعطاء الأكاديمي ومنهم الأديب طه حسين قال لي بتهكم وهل تقارن نفسك بطه حسين؟! ظلت أوراق طلبي في درج مكتبه طوال ستة أشهر من دون أن تبرح مكانها. وقف إلى جانبي رئيس قسم اللغة العربية فأتاح لي فرصة التدريس في الجامعة بالنظام الجزئي، كنت أحصل على راتب شهري لا يتجاوز راتب مراسل يعمل في الجامعة، رفعت خطابا إلى سمو رئيس مجلس الوزراء مقرونا بشهاداتي العلمية وخصوصا شهادة الماجستير التي كانت بمعدل امتياز، وبلفتة كريمة من سموه انفتحت كل الأبواب فقد وقف إلى جانبي رئيس جامعة البحرين في ذلك الوقت وطالب العميد بالتصديق على أوراقي. وعلى رغم فرحتي الكبيرة بهذا التعيين فإن ما أحزنني هو أنني لم ألحق بسلك التدريس في الجامعة لشهادتي وفوجئت بالنظرة التي يقابل بها الكفيف.

الأسبوع المقبل تكتمل فصول القصة

العدد 375 - الإثنين 15 سبتمبر 2003م الموافق 19 رجب 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً