العدد 538 - الأربعاء 25 فبراير 2004م الموافق 04 محرم 1425هـ

رسائل من الجبهة وأنبوبة معجون

تيم في كتابه الجديد

صدر عن دار كيبتهوير وفيتشر للنشر بمدينة كولون الواقعة على حضن نهر الراين، كتاب جديد للمؤلف الألماني المعروف أوفه تيم يحمل عنوان: «أخي على سبيل المثال». وقد استطاع أوفه تيم المولود بمدينة هامبورغ العام 1940 أن يكتب هذا الكتاب مستعينا بتركة شقيقه كارل هاينز الذي يكبره بست عشرة سنة وهذه التركة عبارة عن يوميات، بضع رسائل من الجبهة، مشط، أنبوبة معجون للأسنان، علبة تبغ صغير، صليب حديدي. فهذا كل ما كان بحوزة شقيقه حين توجه إلى الحرب وهذه الأشياء على رغم بساطتها فقد شكلت نقطة الانطلاق للكاتب الناجح والقاص الشغوف بعمله للتوثيق عن أخيه الذي ذهب إلى الجبهة ولم يعد.

تطوع كارل هاينز، في ديسمبر/ كانون الأول العام 1942 في سرب الحماية توتنكوبف أي الرأس الميت. وشارك في الهجوم العسكري الألماني قرب كورسك في أوكرانيا وبعد أن قطعت ساقاه مسافة طويلة، مات هناك في أكتوبر/ تشرين الأول العام 1943 وهو في سن التاسعة عشرة. يروي أوفه تيم في آخر كتاب له (أخي على سبيل المثال) عن حياة أخيه القصيرة وعن بقائه حيا في ذاكرة أسرته لفترة طويلة. أنه يتساءل في الكتاب عن دوافع الأخ للتطوع في هذه الوحدة الخاصة للجيش النازي وعن القيم والمثل العائلية التي إن لم تكن قد شجعت هذه الخطوة فإنها قد جعلتها ممكنة.

يتعقب أوفه تيم بهذا، متخذا أخاه مثالا، أسئلة أصبحت منذ الحرب العالمية الثانية محورية بالنسبة إلى أسر ألمانية كثيرة، وإن كانت هذه الأسر إما قد أحاطت ماضيها بالصمت المطبق أو - وهذا ما يكشف عنه تيم وهو محق في اعتباره استراتيجية مضادة - أخذت في اجترار حوادث الماضي التي لا يتسنى للعقل إدراكها، وفي ترديد كيف أن أفراد العائلة قد تورطوا في تلك الأعمال وهو ما يهون من هول حوادث الماضي شيئا فشيئا، ويجعل ما شهد المرء قابلا للإدراك، بل أنه يصبح مسليا في آخر الأمر.

يعتبر الماضي الألماني بالنسبة إلى تيم ليس بالموضوع المجرد، وإنما جزء من التاريخ الشخصي، تاريخ العائلة، وبهذا يكون أيضا جزءا من الحاضر. الاقتراب منه عن طريق الكتابة هو محاولة بعث ما احتفظ به في الذاكرة بصورة مجردة، والعثور على الذات من جديد، التوثيق العائلي ومواجهة الذات يذوبان على هذا النحو في إعادة البناء التشريحية لشخصية الأخ التي يقدمها الكاتب أوفه تيم.

حاول تيم أكثر من مرة أن يكتب عن أخيه، بدأ أكثر من مرة بقراءة رسائله وملاحظاته المكتوبة كيوميات، ولكنه اضطر أن يتوقف عن القراءة في كل مرة. تراجع خائف، كما فعل وهو طفل صغير مع رواية الملك بلاوبارت ومعناها بالعربية الملك صاحب اللحية الزرقاء، التي لم يتمكن من أن يتم قراءتها إلا بعدما كبر. لم يصبح هذا الاقتراب من الكتابة من البقعة المعتمة في تاريخ الأسرة ممكنا إلا بعد موت الأبوين والأخت. عند هذا فقط صار أوفه تيم حرا في أن يكتب عن أخيه وكلمة حر تعني أنه يستطيع طرح جميع الأسئلة ولا يتوجب عليه أن يراعي شيئا واحدا.

لم يكن الأخ الأكبر حاضرا أبدا ولكنه كان على رغم غيابه دائما حاضرا، وكان يقدم أوفه الصغير على أنه القدوة، فقد اكتسب هذا الأخ من خلال الكتابة ملامح خاصة به. يشكل أوفه تيم شيئا فشيئا خريطة نفسية لأخيه الأكبر منطلقا من الرسائل القليلة التي حصل عليها واليوميات المدونة أي الموضوعات القليلة التي كان يتحدث أخوه كارل هاينز بنفسه عنها بشكل موجز ومن دون عاطفة. لا بد أنه كان شابا حساسا وحالما، ذهب إلى الحرب تملؤه المثالية. وهو في الوقت نفسه مؤلف تلك الملاحظة المتكررة في اليوميات والتي تبدو غير إنسانية تماما: رأس جسر على دونيس. على بعد 75 مترا يدخن إيفان السجائر، علف لمدفعي.

إن من يمنح هذا النص النثري للكاتب أوفه تيم هذه الجودة العالية هو كونه لا يلغي التناقضات وما لا يمكن تصديقه أو يدعي لها تجانسا لم تكن عليه من قبل. على العكس يشمل النص الذي يشبه اللوحة المجمعة صورا من الذاكرة ومن أحلام طرائف الطفولة وما سمعه وما عاشه الكاتب وكذلك أيضا ردود فعله على عملية التذكر والكتابة عن معاناة القاص مع مادته. على هذا النحو تكشف بنية كتاب الذكريات منذ البداية تناقضات وعدم استمرارية هذه الكتابة المؤلمة عن موضوع الرواية الذي هو على رغم كونه بعيدا زمنيا فإنه قريب جدا من الناحية العاطفية. فوراء كل شيء يكمن السؤال الذي لم يطرح: ما هي علاقة المروي بالراوي نفسه؟

لذلك فإن الأب الذي قاتل في الحرب العالمية الأولى والذي بقي حتى موته المبكر مطبوعا بتفكير الجندي يظهر في مركز التوثيق بصورة متزايدة. لا يتعلق الأمر بتصفية الحساب مع جيل الآباء وإنما مع بالاقتراب من شخصية الأب هذه التي بقيت في نقاط كثيرة غريبة، اقتراب خال من أي حكم مسبق ما أمكن. وبدلا من مجرد الشكوى يسعى الكاتب أوفه تيم إلى الفهم وهو ما لا يعني أنه يتعرض للشعور بالذنب. بل على العكس يوجه نظرة غير متهاونة إلى آليات التناسي داخل أسرته ويهدم بهذه الطريقة أسطورة الأسرة التي حافظت عليها بعناية. إلا أن الإنجاز الكبير لهذا الكتاب الذي يتزايد طابعه الإنساني شيئا فشيئا، هو أنه لا يتحول إلى تصفية حساب لا ترحم مع جيل الآباء ولا يسوق أوفه تيم الأعذار لشيء ولا يدين الأب ولا الأخ أيضا، انه يحاول في المقام الأول أن يظهر كيف تطور عندهما ما هو مخيف وما هو روتيني. تجر وجهة نظر تيم الشخصية جدا القارئ معه إلى هذا الجدل الفردي بشأن المسئولية التاريخية. ولا يصبح تيم بذلك موثقا لمأساة أسرته فقط وإنما تقدم اللقطات الآنية الكثيرة في تقريره الوثائقي التاريخ الوجداني للقرن العشرين الألماني بأكمله. (أخي على سبيل المثال) وثيقة مؤثرة توصلنا بمنطقية شديدة إلى حقيقة أن المرء لا يستطيع أن يهرب من تاريخه وإنما عليه أن يرضى به.

لايزال تناول مسألة تورط أحد أفراد الأسرة في النازية هو الموضوع الألماني الأكثر حساسية. انه موضوع شخصي جدا ولكنه سري، مقتضب جدا وفي الوقت نفسه عولج بشكل مؤثر. إن ما يدعو للإعجاب في هذا الكتاب عن استغناء الراوي عن كل ما هو إعلاني أو مثير وكذلك شجاعته في أن يتناول موضوعات سكت عنها الجميع وأخرجها إلى حيز الضوء ولم يتردد في أن يقول إن أخاه قاتل في صفوف النازيين وربما والده كان متعاطفا معهم، لكن هذا هو واقع الأسرة، وكان قرار أوفه تيم الشخصي أن يكشف للرأي العام في مؤلفه عن سر دفين في حياة أسرته بصورة فنية أدبية أبدع في طرحها.

الكاتب: أوفه تيم

ولد بمدينة هامبورغ العام 1940. بعد أن أنهى دراسته في المدرسة الشعبية تعلم مهنة صناعة الفراء ثم حصل على الثانوية العامة بعد أن أعد لها دراسة تحضيرية في مدينة براون شفايج العام 1963. درس الأدب الألماني والفلسفة في ميونيخ وباريس وتقدم برسالة دكتوراه في مجال الفلسفة العام 1971. يعيش حاليا ككاتب متفرغ بين ميونيخ وبرلين. حاصل على عدد بارز من الجوائز أبرزها جائزة مدينة بريمن التشجيعية العام 1979 وجائزة مدينة ميونيخ في الأدب العام 1989 وجائزة كتب الأطفال العام 1990 والجائزة الكبرى للأدب من أكاديمية الفنون الجميلة في ميونيخ العام 2001 وجائزة الكتاب من مدينة بيرغن وجائزة شوبرت في الأدب العام 2003





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً