العدد 584 - الأحد 11 أبريل 2004م الموافق 20 صفر 1425هـ

هل كانت المخابرات الألمانية وراء كذبة أسلحة الدمار العراقية؟

الاستعانة بفرقة من العملاء والدجالين والسراق

ستذكر كتب التاريخ هذه العبارة في المستقبل: لقد كنا جميعا على خطأ. أنه الاستنتاج الذي توصل إليه وعبر عنه بصراحة مفوض الإدارة الأميركية السابق للبحث عن أسلحة الدمار المزعومة في العراق، ديفيد كاي، الذي رمى حجرا ثقيلا في طريق الرئيس جورج بوش مذ أعلن رأيه قبل أشهر. إلى جانب الشكوك التي بدأت تظهر وتوحي للشعب الأميركي أن البيت الأبيض كان على علم مسبق بوقوع هجوم سبتمبر 2001. كذلك فإن ثبوت كذبة أسلحة الدمار العراقية وفي ضوء حرب ما بعد الحرب التي بدأت تزيد عدد الجنود الأميركيين العائدين إلى ذويهم في صناديق خشبية، وعدم وجود خطة واقعية لبناء نظام جديد في العراق، قد تؤدي مجتمعة إلى فشل بوش في الفوز بولاية جديدة في نوفمبر/ترين الثاني المقبل.

لكن كاي لم يحرج بوش وصقور واشنطن فقط، إذ عندما مثل أمام لجنة تحقيق في واشنطن مطلع العام الجاري، ذكر أيضا أن الألمان والمخابرات الألمانية (بي إن دي)، كانوا يعتقدون أن العراق يملك أسلحة للدمار الشامل. في ذلك الوقت كانت «إسرائيل» تروج لدعاية مناهضة لصدام حسين هدفها اتهام العراق بامتلاك أسلحة الدمار وكانت المعلومات المزورة التي قدمها الإسرائيليون للألمان ساعدت الإدارة الأميركية في مواصلة الترويج لحجتها بأنه ينبغي وقف صدام قبل أن يملك القنبلة الذرية. والمعروف أن ألمانيا تبنت موقفا مناهضا لحرب العراق ودخلت في نزاع سياسي مع واشنطن، ما أدى إلى قطيعة دامت اشهر. وجاءت تصريحات كاي لتؤكد مخاوف المسئولين الألمان في الحكومة وفي المخابرات من أن واشنطن ستنتهز الفرصة السانحة للانتقام من برلين بسبب موقفها المعارض للحرب.

قبل أسبوعين سربت مصادر في الإدارة الأميركية معلومات نشرتها صحيفة «لوس أنجليس تايمز» ذكرت أن برلين تتحمل جزءا من مسئولية الترويج لمزاعم الأسلحة العراقية. وقالت الصحيفة إن القصة الكبيرة حول مختبر لإنتاج أسلحة جرثومية يجري نقله على عربات من مكان إلى آخر كي يبقى بعيدا عن رقابة المفتشين الدوليين، كانت من فبركة المخابرات الألمانية. وكان وزير الخارجية الأميركي كولن باول أشار إلى المزاعم بشأن المختبر المتنقل عندما سعى إلى إقناع مجلس الأمن الدولي بالخطر الذي يشكله العراق على الأمن العالمي. غير أن أهم مصدر للمعلومات المزورة يقف اليوم في زاوية الاتهام وقد نعته كاي بالكاذب: انه رئيس المؤتمر الوطني العراقي أحمد جلبي الذي قدم معلومات مبالغ بها كثيرا ليدفع الأميركيين والبريطانيين إلى محاربة خصمه صدام حسين. واعتماد أجهزة الأمن الغربية على معلومات جلبي هي سبب الحرج الذي تشكو منه هذه الأجهزة حاليا. كما أن العميل المعروف باسم Curveball الذي أنذر واشنطن من خطر أسلحة العراق كان في الحقيقة أحد المقربين من جلبي وقد مولت المخابرات الألمانية نشاطاته.

الدور الألماني

والسؤال المطروح: ما الدور الألماني في عملية تبرير غزو العراق ونسج المعلومات الكاذبة التي استخدمت في تبرير الحرب؟ وهل تتحمل الحكومة الألمانية التي عارضت الحرب علنا جزءا من مسئولية التصعيد؟ إن النقاش حول هذا الموضوع من شأنه التشكيك بصدقية المخابرات الألمانية. ويتمتع الجهاز بأكبر نفوذ اليوم، فيما التحذيرات المرعبة التي تعلنها المخابرات الألمانية باستمرار وتتحدث عن خطر «القاعدة» قامت بمثلها حين كانت الأزمة العراقية تنتقل من تصعيد إلى آخر، وكان جهاز «بي ان دي» يروج باستمرار إلى امتلاك العراق أسلحة للدمار الشامل في فترة ما قبل الحرب.

لكن بعد اعترافات كاي وفشل 1400 مفتش أميركي في العثور على الأسلحة المزعومة تتعرض المخابرات الألمانية لضغط وتتسبب في إحراج حكومة المستشار غيرهارد شرودر. إن أحدهما مسئول عن المعلومات الكاذبة التي قدمتها ألمانيا إلى واشنطن سرا. ويجد النائب فريدبيرت بفلوغر أن أحدهما ينبغي أن يتحمل التبعية السياسية.

الحكومة الألمانية متهمة بتقديم معلومات كاذبة للبرلمان الألماني أولا بتاريخ 13 نوفمبر/تشرين الثاني العام 2002، وثانيا بتاريخ 12 فبراير/شباط العام 2003. في لقاء سري أطلع أوغوست هانينغ أعضاء لجنة العلاقات الخارجية على أسلحة الدمار الشامل المزعومة وخضع لاستجواب مكثف من قبل البرلمانيين، وفي الاجتماعين تحدث هانينغ عن المختبر المتنقل المزعوم. ويشعر النائب بفلوغر الذي ينتمي إلى الاتحاد المسيحي الديمقراطي المعارض أن رئيس الجهاز خدع أعضاء لجنة العلاقات الخارجية لأنه لم يكشف عن هوية العميل Curveball، وأنه من المفيد لو تمت الإشارة إلى هويته والقول إن معلوماته قد لا تكون صحيحة. ثم ان العلاقة بين الحكومة الألمانية والمعارضة العراقية لم تكن معروفة إلا بعد نهاية الحرب.

العميل العراقي

ويصر النائب بفلوغر على أن يجري تسليمه أشرطة التسجيل للاجتماعين مع رئيس الجهاز للبرهان على أن الحكومة خدعت البرلمان. واستعانت المخابرات الألمانية لوقت طويل بالعميل Curveball. في العام 1998 جاء الكيماوي الشاب إلى ألمانيا طلبا للحصول على حق اللجوء السياسي وسرعان ما تم اتصال بينه وبين المخابرات الألمانية. في البداية لم يصدق الخبراء أقواله، إذ قال المعارض العراقي المقرب من جلبي إن الحكومة العراقية كلفته بمهمات خاصة بعد أن اختارته بين الأفضل في الجامعة وساهم في صنع المختبر المتنقل. كل مرة كان يتحدث أمام خبراء الأمن الألمان كان يذكر لهم شيئا جديدا وكانوا يدونون بأنها معلومات خطيرة نابعة من مصدر موثوق به. بعد أشهر على استجوابه تبنت المخابرات رواياته وراح الجهاز يطلع المستشارية على ما وصفه بالمعلومات الموثوق بصحتها، وأطلع الجهاز الألماني عددا قليلا من أعضاء البرلمان على البيانات الخطيرة. لكن لم تكن دعوة الحرب قد صدرت في ذلك الوقت إلا أن المختبر المزعوم كان دليلا قدمته المخابرات على تحدي صدام القانون الدولي. في العام 2001 تبنى الأميركيون والبريطانيون مزاعم المخابرات واقتصرت هذه المعلومة على الأطراف الثلاثة على رغم الجهود التي بذلها الألمان لمعرفة إذا كان هناك طرف عربي أو أجنبي يملك معلومات موثوقة حول المختبر المزعوم، ولم تنجح في مسعاها، وعلى رغم ذلك لم يجر التشكيك في أقوال العميل المقرب من جلبي.

وحين قرر بوش وبلير شن حملتهما العسكرية على صدام استنجدا بملفات أجهزة المخابرات ولأول مرة ساهمت هذه الملفات في التأثير على السياسات الدولية. قامت الـ «سي آي إيه» التي كانت ترزح تحت ضغط البيت الأبيض الأمر الذي عبرت عنه الزيارات المتكررة التي قام بها نائب الرئيس ريتشارد تشيني إلى المقر الرئيسي لـ «سي آي إيه» في لانغلي، بطلب الحصول من جهاز بي إن دي على محضر أقوال العميل Curveball للاستعانة بها في كلمة باول في مجلس الأمن. وكان المرء في برلين يفضل أن تبقى هذه الأقوال داخل الخزنة أو التخلص منها، لكن الـ «سي آي إيه» كانت في الحقيقة على علم بتفاصيل هذه الأقوال. وسرعان ما رضيت برلين بتسليم محضر أقوال العميل لكنها أصرت على الإشارة إلى أن هذه الأقوال مصدرها جهة واحدة، وأنه ليس هناك تأكيد على صحتها. كما أنه لا أحد يعرف ما إذا كان المختبر المتنقل مازال موجودا أم لا لأن أقوال العميل تتحدث عن ما شاهده في العام 1998.

العقيد الفار

لكن المسرحية اتخذت مسارا آخر في نيويورك. وزير الخارجية الألماني يوشكا فيشر ضم إلى الوفد الألماني المشارك في جلسة مجلس الأمن الدولي بتاريخ الخامس من فبراير 2003 خبيرا من جهاز (بي إن دي) الذي جلس على بعد مترين عن مقعد باول لم يشر فقط إلى شهادة المخابرات الألمانية فحسب بل تحدث أيضا عن شهادات من مصادر أخرى تناولت أيضا كذبة المختبر المتنقل. من ضمن ما ذكره باول عراقيا آخر وصفه بأنه «عقيد فار» من العراق على رغم تحذير الـ «سي آي إيه» بأن هذا العميل خضع لعملية تلقين مكثفة من قبل جلبي ليدلي بأقوال تصعّد النزاع مع صدام. وشعر بعض خبراء (بي إن دي) لاحقا بالفخر حين سمعوا باول يقرأ المعلومات التي قدمتها إلى واشنطن، لكن البعض الآخر راودته مشاعر مختلفة. فقد كان هؤلاء يعرفون أن الولايات المتحدة تفتقر إلى أدلة دامغة تثبت امتلاك العراق أسلحة الدمار وأنها تستعين بفرقة من الدجالين لتبرر حملتها العسكرية. ويجد كاي أن هذا كان الخطأ الأساسي وقال: «كان ينبغي أن يقول باول صراحة ان الولايات المتحدة لديها معلومات من مصدر لا تعرفه ولم تتحدث إليه»!

حين سقطت بغداد التزمت المخابرات الألمانية الصمت على موضوع أسلحة الدمار المزعومة وثبت لها عدم صدق كل ما ذكره العميل الكذاب الذي اختفى عن الأنظار، وكذلك العقيد العراقي المزعوم الفار. كما تبين للمخابرات الألمانية أيضا أن العميل Curveball لم يكن الأفضل في صفه الجامعي، وإنما الأسوأ بينهم وأنه كان سجن قبل فراره من العراق لارتكابه جرائم سرقة

العدد 584 - الأحد 11 أبريل 2004م الموافق 20 صفر 1425هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً